بإجماع الدول والقادة ورجال القانون والساسة والإعلاميين وكافة البشر, لا يمكن النظر إلى الإبادة الجماعية على أنها قضية سياسية أو عسكرية بحتة بقدر ما هي مسألة أخلاقية, ولا يمكن لأحد حول العالم إعلان تأييدها ودعمها, سوى القتلة والمشاركين والمتواطئين بإرتكابها, وقد تمنى الكثيرون, أن تشمل لائحة الإتهام الولايات المتحدة إلى جانب “إسرائيل”, في الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية, وبتحميل جو بايدن وبعض الشخصيات في إدارته, مسؤولية ما اقترفه نتنياهو ومجرمي حكومته وقادة اّلات حربه, بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وكما كان متوقعاً، فقد رفضت “إسرائيل” الإعتراف بشرعية القضية أمام المحكمة, واطلقت الحكومة الإسرائيلية أيدي محاموا دفاعها في لاهاي, لطرح الأسئلة وإثارة الشكوك حول طبيعة التهمة الموجهة إليها (الإبادة الجماعية), وحاولوا بدورهم حرف أنظار المحكمة بعيداً عن الحصار والتجويع وقصف المشافي ودور الإيواء والبيوت والبنى التحتية, فضلاً عن الإستهداف المتعمد المدنيين بالأسلحة والقذائف المحرمة دولياً.
وتابع العالم كيف اتجهوا نحو إلقاء الإتهامات يمنة ويسرة, تارةً بإتجاه مصر, وبتحميلها مسؤولية إغلاق معبر رفح, وبأنها المسؤولة عن الحصار وعدم إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية, وكذلك بمسؤوليتها عن استمرار تدفق السلاح ووصوله إلى أيدي حماس, وتارةً أخرى نحو حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية, والعملية التحريرية المشروعة التي قاموا بها في 7/أكتوبر, لوقف الظلم والقتل والسجون والإعتقالات والإغتيالات واستباحة المسجد الأقصى وكافة المقدسات, والحصار اللاقانوني على مدى 16 عاماً, كذلك بإتهام جنوب أفريقيا بأنها “الذراع القانوني” لحماس, وبأن المظاهرات حول العالم التي طالبت بوقف إطلاق النار وحماية حقوق الإنسان الفلسطينية هي “معادية للسامية”.
وقد أظهر فريق الدفاع الإسرائيلي في لاهاي ارتباكاً وتخبطاً واضحين في مواجهة التوثيق التفصيلي لتصريحات المسؤولين الإسرائيليين, بدءاً من رئيس الكيان ورئيس الوزراء وقادة الجيش وعدد كبير من أشد الوزراء الإسرائيليين تطرفاً, حول نيتهم “تدمير” قطاع غزة و”تسويته” بالأرض، ومع ذلك, تجاهل فريق الدفاع الإسرائيلي جميع هذه التصريحات, والتي تشكل بطبيعتها أدلة على النيات المسبقة لإرتكاب سلطات الكيان جريمة الإبادة الجماعية قبل تنفيذها.
وليس أدل من الإحصائيات الإجرامية – الإرهابية المسجلة منذ صبيحة 8/أكتوبر حتى اليوم,على الهمجية الإسرائيلية والأمريكية وكل من أيد “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها”, وسط سقوط اّلاف الشهداء والضحايا الفلسطينيين من الأطفال والنساء والمدنيين, الذين قضوا على يد أطقم الدبابات الإسرائيلية وطياريي المروحيات الحربية وصواريخها وقذائف الفوسفور الأبيض, ناهيك عن آلاف الجرحى والمصابين والمعتقلين, وطريقة معاملتهم الوحشية, وبتعصيب عيونهم وضربهم, وإجبارهم على خلع ملابسهم, ونقلهم إلى أماكن مجهولة, ناهيك عن تدمير بيوتهم, وتهجيرهم وتسفيرهم بعيداً عن أراضي أجدادهم منذ اّلاف السنين.
في الحقيقة صدم العالم بحجم النفاق الإسرائيلي, وهو يروي سردية أكاذيبه في لاهاي, وبأن الحكومة الإسرائيلية “تبذل جهوداً كبيرة لحماية أرواح المدنيين”, أثناء عدوانها على غزة وكامل القطاع.. في محاولة للتأثير على المحكمة ودفعها نحو استبعاد ما يتعلق بـ “النية المسبقة” لقتل وإزهاق أرواح المدنيين بشكل جماعي, وعدم الرجوع إلى الأدلة الدامغة في ملف الإتهام الذي قدمته جنوب أفريقيا.
من الواضح أن ما قدمه فريق الدفاع الإسرائيلي لم يقنع أحداً, أمام فظاعة ما ترصده وتقدمه وسائل الإعلام بالصوت والصورة على أرض الواقع, وتأكد العالم أن إسرائيل فشلت في نفي أو تبرير جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين على كامل مساحة قطاع غزة, وأنه سيكون من الصعب عليها دحض الأدلة والإثباتات التي تضمنتها 84 صفحة في المذكرة الشاملة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية.
على الرغم من صمت العالم تجاه إتهام الولايات المتحدة بالمشاركة الفعلية والكاملة في العدوان على قطاع غزة, وهي التي انبرت بالدعم المالي المفتوح, وبكامل صنوف الأسلحة, وبالمشاركة العسكرية الميدانية, وبحماية إسرائيل أثناء قيامها بأعمال الإبادة الجماعية, إضافةً لتقديمها المساعدة الإعلامية والسياسية, ولم تتوان كذلك عن استخدام الفيتو لمنع صدور قرار أممي بوقف العدوان, وسارعت نحو التقليل من أهمية المحاكمة, ووصف وزير خارجيتها بلينكين اتهامات جنوب إفريقيا بأنها “عديمة الجدوى”, كذلك قدمت وكالة الإستخبارت الأمريكية تقريراً, عوّل عليه جو بايدن في تصريحاته لوسائل الإعلام بأن “نصف القنابل جو- أرض التي استخدمتها إسرائيل في غزة هي قنابل غير موجهة”، بهدف إبعاد تهمة “النية المسبقة” لإرتكاب جريمة الإبادة الجماعية, بما يتماشى مع طبيعة محكمة العدل الدولية في إثبات نية القتل الجماعي, لإعتماد التهمة والإدانة بموجبها.
لا يمكن تجاهل حقيقة تواطؤ الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل”, وهي التي نقلت قسماً كبيراً من تهديدها وحربها ودعمها وأموالها وأسلحتها من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط وتحديداً ضد غزة ولبنان وسورية والعراق واليمن وإيران, نتيجة هزيمتها أمام روسيا والصين, وضاعفت إعتمادها على عملائها وأدواتها وتنظيماتها الإرهابية, كذلك نفذت قواتها العسكرية عدوانين مباشرين على اليمن, وأعلنت زيادة أعداد جنودها في سورية من بوابة إكذوبة القضاء على تنظيم داعش الذي تتحكم به وبكافة تحركاته وتقود عملياته الإرهابية فيها, ناهيك عن استجلابها أهم بوارجها وحاملات طائراتها إلى المنطقة, وتسعى بشكل واضح نحو توسيع المواجهة الإسرائيلية مع لبنان, وتحتفظ لنفسها وقوات إحتلالها بمهمة مواجهة السوريين والعراقيين التواقين لطردها من بلادهم.
يبدو أن مصلحة الولايات المتحدة بإستمرار العدوان والإبادة الجماعية في قطاع غزة, وبمضاعفة التوترات وسعير الصراعات في المنطقة العربية والشرق عموماً, لا تقل أهمية عن مصالح “إسرائيل”, وتلك المشاريع المشتركة بينهما, كقناة بن غوريون, والسيطرة على الغاز في شواطئ غزة, والقضاء على كافة فصائل وأحزاب المقاومة, والمضي قدماً في مشروع تقسيم سورية, والسيطرة على القرار العراقي والإستعداد للعدوان على إيران, والإقتراب أكثر فأكثر من منطقة المصالح الحيوية الروسية والصينية, وحروب المحيطات والممرات المائية, ومن باب المندب والبحر الأحمر وصولاً إلى منطقة المحيطين الهندي والهادىء.
ويبقى من المهم تقدير ما أقدمت عليه جنوب أفريقيا برفع الدعوى لمقاضاة الكيان الإسرائيلي بجرائم الحرب وبإرتكاب الإبادة الجماعية في غزة, وبأنها أحدثت شرخاً في جدار الإفلات من العقاب الذي يستمر منذ 75 عاماً، خصوصاً وأنه شكّل بداية المساءلة الحقيقية لمجرمي الكيان الإسرائيلي من جهة, ولإنصاف الضحايا، ووضع نقطة النهاية للإحتلال والإستعمار الإستيطاني, وعدم المساواة, والفصل العنصري.
قد تفلت الولايات المتحدة اليوم من العقاب, وقد يستغرق صدور حكم محكمة العدل الدولية بحق “إسرائيل” بضعة سنوات, ولكن جنوب أفريقيا تراهن اليوم على وقفٍ فوري لإطلاق النار, قابل للتحول لاحقاً إلى وقفٍ دائم, وقد يأتي هذا القرار خلال أسبوعين أو ثلاثة أسابيع, علماً بأنه قرارٌ لا يستند إلى الحكم النهائي للمحكمة، بل إلى موضوع القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا.