السياسة الامريكية في سوريا كانت وما زالت موضع خلاف رئيسي بين الولايات المتحدة وتركيا كما انها شكلت هاجسا امنيا لتركيا. ومصدر هذا الخلاف والهاجس الامني التركي يكمن في العلاقة الوثيقة بين واشنطن والمليشيات الكردية المتمثلة بوحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها تركيا منظمة ارهابية وتشكل امتدادا لحزب العمال الكردستاني في تركيا الذي ما زال يقاتل الدولة التركية للحصول على حكم ذاتي في المنطقة الجنوبية الشرقية لتركيا ذات الكثافة السكانية الكردية العالية بلا منازع. وتركيا تعتبران كلا المنظمتين تمثلان خطرا وتهديدا للامن القومي التركي. والعلاقة الحميمة بين الولايات المتحدة وقوات حماية الشعب الكردية السورية كانت سببا رئيسيا بتسميم العلاقة بين أمريكا وتركيا منذ 2014 على وجه التحديد.
وقد عملت امريكا على إنشاء ما سمي قوات سوريا الديمقراطية عام 2015 والتي شكل العصب الرئيسي لها الوحدات الكردية في الشمال السوري وضمت تحت لواءها بعض السوريين المعارضين للدولة السورية وذلك في محاولة منها للالتفاف على عدم الرضى التركي من جانب واستخدام هذه المجموعة كأداة لتنفيذ المصالح والاستراتيجية الامريكية في سوريا وخاصة فيما يخص تمزيق الوطن السوري بخلق بؤر اثنية وطائفية هنا وهناك. وهذه المجموعة الكردية تتمركز الان بشكل رئيسي شرقي نهر الفرات تحت رعاية وحماية القوات الامريكية المتواجدة في قاعدة التنف.
وقد اعلن أردوغان منذ اكثر من اسبوع على ان الجيش التركي يتأهب لاطلاق عملية عسكرية ضد المليشيات الكردية المدعومة من قبل الولايات المتحدة في الشمال السوري المتواجدة شرق نهر الفرات وذلك في الايام القليلة القادمة. وربما من المجدي القول بان تركيا تدخلت عسكريا لطرد المقاتلين الاكراد من المناطق غربي الفرات خلال السنتين الماضيتين حيث تم الاستيلاء على مدينة عفرين السورية وفرض السيطرة التركية الكاملة عليها ولكنها لم تجرأ على الذهاب الى شرقي نهر الفرات للان تجنبا لمواجهة القوات الامريكية هناك.
ويرى بعض المراقبين على ان التصريحات الاخيرة للرئيس اردوغان بشن حملة عسكرية ضد تواجد قوات سورية الديمقراطية شرقي الفرات والمدعومة امريكيا على انه إشارة لنفاذ صبر اردوغان الذي حاول مرارا وتكرارا فك الشراكة بين هذه القوات وأمريكا في سوريا الى جانب عدم التزام امريكا بالمصالح الامنية التركية.
ولكن من المرجح ان تكون تصريحات اردوغان الاخيرة موجهة لاكثر من طرف ولخدمة مصالح داخلية وخارجية في آن واحد. فهذا التصريح قد يكون موجها الى البعض في الاجهزة العسكرية والامنية التركية التي تعارض إقحام الجيش التركي بعمليات خارج الاراضي التركية نظرا لما قد يشكله هذا من تورط غير مضمون النتائج. والى جانب ذلك قد يكون هذا التصريح موجها للناخب التركي وخاصة وان هنالك انتخابات محلية قادمة في شهر مارس من العام القادم واردوغان يعلم ان اللعب على الورقة الكردية هامة وضرورية لبث الروح القومية الشوفينية للجمهور التركي وضمان إبقاء سيطرة وحكم حزب التنمية والعدالة للبلاد.
أما بالنسبة للخارج فإن إطلاق مثل هذا التصريح يراد به جس نبض ردود الفعل على المستوى الدولي بالرغم من ان العامل الحاسم يبقى ردود فعل الطرف الامريكي وخاصة مع تواجد قوات امريكية في تلك المنطقة بالاضافة الى ان أمريكا لم تنتهي بعد من استخدام قوات سوريا الديمقراطية كقوات بالوكالة لتحقيق مآرب سياسية في الوضع النهائي لسوريا. فهي ما زالت متمسكة بالورقة الكردية لذلك ولا اظن انها ستسمح للقوات التركية بضرب هذه القوات بشكل يهدد مصالحها. هذا بالاضافة الى ان الامر يزداد تعقيدا في تلك المنطقة على وجه التحديد وذلك لتوارد الانباء عن وجود قوات سعودية وإماراتية وربما عربية اخرى المنخرطة تحت لواء التحالف العربي قد وصلت حديثا لمؤازرة قوات سوريا الديمقراطية ضد اي هجوم للقوات التركية أو القوات السورية على تلك المنطقة.
من المؤكد ان الولايات المتحدة لا تريد ان تتورط عسكريا مباشرة على الارض فيما إذا نشأت المواجهات هناك ولكنها على استعداد لاستخدام ادواتها في الحرب بالوكالة في تلك المنطقة.
ومن الواضح ان العلاقات التركية الغير مريحة مع الولايات المتحدة فيما يخص علاقة الاخيرة مع المجموعات الكردية بالاضافة الى المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في تركيا والتي اتهم اردوغان ان المخابرات المركزية الامريكية كانت لها ضلع في تلك المحاولة هي التي دفعت اردوغان الى التقرب من كل من روسيا وايران التي نبهت اجهزة مخابراتها اردوغان شخصيا بمحاولة الانقلاب قبل وقوعه بساعات مما اتاح له العمل وبسرعة على تحشيد الشارع التركي ومناصريه وأتاح له الفرصة لافشال محاولة الانقلاب. وقد بدأ التنسيق مع روسيا وايران حول الملف السوري الى جانب علاقات الاقتصادية وعسكرية ايضا.
ويجب ان ننوه هنا الى ان إيران تشارك تركيا في مخاوفها من الحكم الذاتي للاكراد في شمال سوريا. وكلا الدولتين كانتا من اكثر المعارضين للاستفتاء العام الذي جرى على استقلال كردستان العراق عام 2017 على سبيل المثال.
والى جانب ايران تقف روسيا وعلى نفس القدر من الاهمية من الجهود التركية لكبح النفوذ الكردي في سوريا وخاصة بعد ان رفضت وحدات حماية الشعب الكردية الانسحاب من عفرين كما ورفضت دخول الجيش العربي السوري للدفاع عن المدينة امام التهديدات التركية وفشلت كل الوساطات الروسية نتيجة انصياع الاكراد الى الاوامر الامريكية. وعندها اعطت موسكو الضوء الاخضر للاتراك بكبح النفوذ الكردي في عفرين بينما قامت إيران بغض الطرف عندما قامت القوات التركية باستهداف المواقع الكردية في الشمال السوري.
ومن الضروري ان ترى الرغبة الروسية والايرانية للتماشي مع بعض الاجراءات التركية في سوريا على أنها نابعة من التواجد الامريكي هناك وتقديرهم ان بإمكانهم التصدي للمواقف والمخططات التركية في سوريا لاحقا وتركيزهم في المرحلة الحالية هو في تقديري المتواضع يكمن في العمل على توسيع وتعميق الهوة بين تركيا والولايات المتحدة لان هذا يخدم مصالح الطرفين كما انه يخدم الدولة السورية ايضا.
ولا شك من ان كل من روسيا وإيران كما هو الحال مع الدولة السورية لا تشعران بإرتياح من سيطرة الولايات المتحدة من خلال قوات حماية الشعب الكردية على المنطقة الغنية بالبترول في شمال شرقي سوريا ولا شك ان إمكانية التواجد الامريكي الطويل الامد في سوريا باستخدام الوحدات الكردية وإقامة قواعد عسكرية في المناطق التي تسيطر عليها هذه الوحدات الكردية كانت سببا رئيسيا في إحداث التغيير في الاستراتيجية الروسية تجاه وحدات حماية الشعب الكردية.
ويجب ان لا ننسى في هذا الاطار ان روسيا هي اول من إقترح إمكانية ان تكون سوريا المستقبلية دولة فدرالية يتم فيها إعطاء الحكم الذاتي لاكراد سوريا المتواجدين في الشمال السوري. ولقد تعاونت روسيا مع وحدات حماية الشعب الكردية عسكريا في عفرين حتى عام 2017 قبل الهجوم التركي على هذه المنطقة. وقامت روسيا بتغيير استراتيجيتها فقط عندما استخلصت انها غير قادرة على فك الارتباط بين هذه الوحدات والولايات المتحدة.
وبينما تأمل تركيا بالانسحاب الامريكي من سوريا لان هذا من شأنه ان يترك وحدات حماية الشعب الكردية في موقف ضعيف مما سيسهل التعامل معهم ويقضي على تحقيق حلمهم بالحكم الذاتي وبالتالي لن يعودوا يشكلون خطرا على الامن القومي التركي، الا ان التواجد الامريكي يخدم ولو بشكل غير مباشر تركيا. وأكبر دليل على ذلك ربما ظهر في الاونة الاخيرة من تأجيل هجوم القوات الحكومية السورية لانهاء الوضع في إدلب والقضاء على آخر معقل للارهابيين المرتبطين بتركيا وبأجهزة مخابراتها التي تدير الامور بالمدينة من خلال علاقاتها الوثيقة مع المجموعات الارهابية المتواجدة في المدينة وعلى رأسها تنظيم النصرة القاعدي. فأردوغان وعد ضمن إتفاقيات مع روسيا وإيران بإجراء عملية الفصل بين التنظيمات الارهابية و “المعارضة” السورية ولكنه “اخفق” في تحقيق ذلك بالرغم من مرور الوقت الذي تعهد به لتحقيق ذلك. ولا شك ان اردوغان بطبيعته الانتهازية واللامبدئية يلعب ولو من وراء الكواليس على تضارب المصالح الامريكية الروسية في سوريا لابتزاز روسيا وإيران في هذا المجال ومحاولة إبقاء إدلب ضمن مناطق خفض التصعيد وهو الموقف المرفوض من قبل الدولة السورية وروسيا وإيران. كما أن الانسحاب الامريكي من سوريا إذا ما تم فإنه سيجعل بقاء القوات التركية أكثر صعوبة فلا يمكن للدولة السورية او روسيا او إيران القبول بتواجد قوات تركية مسيطرة على مساحات واسعة في الشمال السوري حال خروج القوات الامريكية من سوريا