من ينظر للصراع في فلسطين وعلى فلسطين انطلاقا من موازين القوى المادية ما بين الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال والمشتتين في أكثر من منطقة وبلد وما يعانون من أوضاع اقتصادية بئيسة بسبب الاحتلال والانقسام بالإضافة إلى تفكك وانفضاض كثير من (حلفاؤهم) من الأنظمة العربية والإسلامية من جانب، ودولة الكيان الصهيوني القوية اقتصادياً وعسكرياً وتحتل كل فلسطين وتعتدي على الدول المجاورة والمدعومة من غالبية دول الغرب وعلى رأسه أمريكا من جانب آخر، قد يخرج بنتيجة أن الكيان الصهيوني حسم الصراع بينه وبين الفلسطينيين لصالحه، وما يعزز هذا الاستنتاج تراجع حالة المقاومة المسلحة التي كانت تنطلق من قطاع غزة وسعي الطبقة السياسية الفلسطينية في الضفة وغزة للتوصل لتسوية حل وسط أساسها التعايش مع الاحتلال والقبول الضمني بمعادلة (الأمن لإسرائيل مقابل الاقتصاد وتحسين الوضع المعيشي للسكان وضمان أمن وسلامة قادة الأحزاب) أيضاً تكالب عديد الدول العربية والإسلامية على التطبيع مع كيان الاحتلال بل وتوقيع اتفاقات أمنية وعسكرية بين الطرفين وآخر هذه الدول تركيا التي كانت تدعي أنها حامية حمى المقاومة ضد الاحتلال وتحتضن قيادات حركة حماس.
لا نتجاهل أو نهوِّن من الوقائع المشار إليها ولكن دعونا ننظر للمشهد من الجانب الذي تغيبه استعراضات القوة الظاهرة وقوة الإعلام الموجه والمسيطَر عليه من الكيان الصهيوني وحلفائه وحتى من إعلام الدول العربية والإسلامية المطبِعة، والكل يعلم أهمية وخطورة الإعلام في تشكيل وكي وعي الأفراد بل ومجتمعات بكاملها وزعزعة ثقتها بنفسها من خلال الترويج لفكرة أن الوقائع وموازين القوى القائمة ما هي إلا تصحيح لوضع خاطئ كان موجوداً سابقاً ومعطى تاريخي راهن لا يمكن تغييره.
الوجه الآخر من المشهد يقول:
1- عمر دولة الكيان الصهيوني 74 سنة فقط وقامت نتيجة توازنات دولية وحروب عدوانية بينما فلسطين والفلسطينيون موجودون منذ آلاف السنين وهو ما تؤكد عليه وتوثقه كل المراجع والخرائط التاريخية التي لا يظهر فيها إلا اسم فلسطين والفلسطينيون.
2- موازين القوى لا تستقر على حال والعالم يشهد توترات وتحولات كبيرة مرتبطة بحرب أوكرانيا وتوتر علاقة أمريكا والصين والأزمات الاقتصادية الخ وكل ذلك سينعكس على الأوضاع في الشرق الأوسط.
3- انتصارات الصهاينة وقيام دولتهم لم تكن نتيجة انتصارهم في حروب مع الفلسطينيين بل نتيجة حروبهم مع جيوش أنظمة عربية والكل يعلم أن فلسطين ضاعت بسبب حروب عربية فاشلة، 78%% من أرض فلسطين احتلها الصهاينة بعد هزيمة حرب 1948 وبقية فلسطين بعد حرب حزيران 1967، وقبل ذلك وكما كشفته وثائق استخباراتية بريطانية رُفعت عنها السرية هذا العام جاء فيها:
(أ -جميع المعارك التي خاضها الفلسطينيون أثناء النكبة انتصروا فيها، ولكن ذخيرتهم كانت تنفد من بين أيديهم، أو يتدخل الجيش البريطاني لينقذ إسرائيليين محاصرين، فينقلب الوضع.
ب – الأماكن التي سيطر عليها الفلسطينيون، والأسلحة التي استولوا عليها من مخلفات الجيش البريطاني تمت مصادرتها من قبل جيش الإنقاذ الذي كان ينسحب من المناطق ليأخذها الإسرائيليون بكل بساطة.
جـ – الحضارة التي كانت تعيشها المدن الفلسطينية قبل النكبة مذهلة، فقد كان فيها 28 مجلة أدبية، ودور سينما، ومكتبات عامة، ومسارح، وصحف، وإذاعة، وموانئ، ومطار، ومباني، بمعمار مذهل.
د- لم يكن اسم إسرائيل يرد في الأخبار ولا في الدوريات والصحف، حتى في وعد بلفور، كان اسم هذه البلاد كما هو الآن ـ فلسطين ـ حتى في الأدبيات الصهيونية المبكرة.
هــ بريطانيا لم تعط وعد بلفور فقط، بل تسامحت مع صهاينة قتلوا جنودها أيضاً، وسمحت بقدوم اليهود من أوروبا إلى فلسطين، واعتقلت كل فلسطيني لديه سكين، في حين أن الصهاينة امتلكوا مصانع أسلحة تحت الأرض بعلم بريطانيا العظمى.)
4- في عام 2012 صوتت 138 دولة في الأمم المتحدة لصالح الاعتراف بدولة فلسطينية وقد زاد العدد بعد ذلك بحيث أصبح عدد الدول التي تعترف بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة وحقهم في تقرير مصيرهم السياسي على أرضهم أكبر من عدد الدول التي تعترف بالكيان الصهيوني.
5- تعداد الشعب الفلسطيني حوالي 14 مليون ونصفهم داخل حدود فلسطين التاريخية ويمارسون أشكالاً متعددة من النضال الوطني للحفاظ على هويتهم ووجودهم الوطني.
6- الكيان الصهيوني يوغل في عنصريته وهي عنصرية ستؤدي لا محالة إما إلى الفصل بين الفلسطينيين واليهود وهذا معناه قيام دولة مستقلة للشعب الفلسطيني أو سيؤدي للدولة الواحدة، وهذه الدولة إما أن تكون عنصرية مما سيؤدي لرفضها من المنتظم الدولي واستمرار حالة الصراع أو ستكون ديمقراطية مما سيجبر الإسرائيليين اليهود للخضوع لحكم الأغلبية الفلسطينية من مسلمين ومسيحيين.
7- نعم الوضع الفلسطيني صعب على كافة المجالات ولكن الشعب الفلسطيني صابر وصامد على أرضه بالرغم من كل الممارسات الصهيونية والنضال الوطني ضد الاحتلال لم يتوقف حتى وإن اتخذ شكل عمليات منفردة بعيداً عن الأحزاب الفاشلة والسلطتين المأزومتين[k1] وقد اعترف قادة العدو أن مقاومة الاحتلال في الفترة الأخيرة في الضفة أصبح أكثر تطوراً وخطورة على الكيان.
8- لم يترك قادة الكيان الصهيوني جريمة من الجرائم التي تصنفها الشرعية الدولية كجرائم حرب وإبادة للجنس البشري وتطهير عرقي وممارسة عنصرية إلا ومارسوها ضد الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وهي ممارسات لا تقل عما قام به النظام العنصري في افريقيا والنازيون في ألمانيا، ومع ذلك لم يستسلم الشعب الفلسطيني أو يرفع الراية البيضاء، وحتى مع كل انتقاداتنا للطبقة السياسية وما وقعته من اتفاقات في محاولة للتوصل لتسوية سياسية كما جرى مع اتفاق أوسلو أو هدنة كما جرى مع فصائل المقاومة في غزة فهذه اتفاقات لا تلزم إلا موقعيها وهي مشروطة بالتزام إسرائيل بتنفيذ ما عليها من التزامات، وحيث إن هذه الأخيرة لم تلتزم فإن كل الاتفاقات والتفاهمات تصبح بلا قيمة قانونية ولا تلزم الشعب الفلسطيني، وموقف الرئيس أبو عمار الذي وقع اتفاق أوسلو ثم اغتالته إسرائيل وما يجري في الضفة يؤكد ذلك .
9- سواء تعلق الأمر بالصراع الإسرائيلي العربي أو الإسرائيلي الفلسطيني يكون موقف يهودي إسرائيلي واحد وموحد يقف خلف دولة الكيان بينما لم يكن في يوم من الأيام موقف أو استراتيجية عربية واحدة لمواجهة إسرائيل إلا على مستوى الشعارات والخطابات، وحتى فلسطينيا كانت إسرائيل واحدة وموحدة في مواجهة انقسام فلسطيني، فتارة إسرائيل في مواجهة منظمة التحرير بينما حركة حماس خارج المعادلة بل وتعادي المنظمة وسلطتها وتارة أخرى في مواجهة حماس بينما المنظمة والسلطة خارج معادلة الحرب، بل واحيانا إسرائيل في مواجهة حركة الجهاد الإسلامي والبقية محايدون كما كان في المواجهة الأخيرة.
لا نروم مما سبق تجميل المشهد السياسي الفلسطيني بقدر ما نروم تبديد حالة اليأس والإحباط عند فئة من الشعب وقعت تحت تأثير الدعاية والإعلام الصهيوني وما يروجه الصهاينة الجُدد في الدول العربية المطبعة، ففي المشهد الفلسطيني ما يستحق الفخر والاعتزاز، ولنستمد الأمل من بطولات الفدائيين في جنين ونابلس والخليل وعموم الأراضي المحتلة التي تذكرنا وتستحضر العمل الفدائي في بداية انطلاق الثورة الفلسطينية، إن ابتعدت عنها الأيادي الخبيثة التي قد توجهها لغير المصلحة الوطنية، أيضا صمود الأسرى في سجون الاحتلال.