إن ما يجري في أمريكا اللاتينية هو بلا شك صراع محموم، بين قوى الخير المُحبّة للحريّة، والعاملة على الإنعتاق من نير الاستكبار (الإمبريالية)، الذي عبث بآمالها طويلا، وبين قوى مستكبرة ترأستها أمريكا، حاملة إرثا عنصريا ناءت به بريطانيا، بتاريخها الإستعماري المثقل بالجرائم، بحق شعوب وقعت تحت هيمنتها، فزادتها تخلّفا وضعفا واستغلالا، ولم تترك مجالا للتآمر عليها، وإستغلالها ببشاعة ووقاحة إلا سلكته.
هذا الصراع اشتدّ في أمريكا اللاتينية، وتمسّكت أمريكا بتلابيب الإساءة فيه، حتى افتضحت بأعمالها العدوانية المُرْتكبَة بحق دوله وشخصياته، واكتوت شعوبها بنار هيمنتها، وتحكمها في سياساتها وتدخلها في شؤونها الداخلية، والتأثير على الطبقة الحاكمة المتكونة غالبا من أثرياء فاسدين ربطوا مصالحهم بها، فامتدّت أيديهم الى مقدّرات شعوبها، ورضوا بأن يكونوا أدوات طيّعة بيد أمريكا، وسُخّر الجيش في القيام بانقلابات عسكرية دمويّة، للإطاحة برؤساء وحكومات منتخبة شعبيا وديمقراطيا، كما كان حال الرئيس التشيلي (سلفادور إيزابيلينو أليندي غوسينز Salvador Guillermo Allende Gossens) (1) ذو التوجّه الماركسي، الذي أُطيح به بعد انتخابه من طرف (أوغوستو بينوشيه Augusto Pinochet )(2) صراع قادته الطبقة العمالية ضد عملاء أمريكا، ونجحت في إنقاذ دول من ربقة هيمنتها، كما هي حال فنزويلا، والأكوادور، وبوليفيا، ونيكاراغوا، وكوبا السبّاقة إلى البراءة من سياسات أمريكا وهيمنتها، بعد انتصار ثورتها بقيادة كاسترو التي أطاحت بحكم باتيستا عميل أمريكا.
الإنتكاسة في تقلص المد اليساري في أمريكا اللاتينية، كان نتيجة مؤامرة أمريكية للإطاحة بالرئيس المنتخب (لولا داسيلفا Lula da Silva)، نجحت في إسقاطه بتلفيق إدّعاءات فساد ضده، فتمّت محاكمته بعد نزع حصانته، وكانت محاكمة مخجلة تواطأت فيها النيابة مع القاضي لتحكم عليه بالسجن(3)، لكنه غادر السجن بعد أن انكشفت الحقيقة، وبعد أن قضى فيه سنة ونصف، ليخرج من جديد لأنصاره المحتشدين خارجه، ليعلن من جديد عودته إلى العمل السياسي، والنضال من أجل الطبقة الكادحة في البرازيل(4)
بذلت الإدارة الأمريكية الأموال الطائلة، من أجل شراء ذمم من باعها في البرازيل – وفي كل بلد باعة ذمم خصوصا في بلادنا العربية – خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي ترشح فيها (لولا داسيلفا)، مقابل أحد عملاء أمريكا، وهو الرئيس المنتهية فترة رئاسته (جايير بولسونار Jair Bolsonaro) فبعد حملة مثيرة، شهدت تنافسًا بين خصمين لدودين، على طرفي نقيض من الوطنية والعمالة، فاز لولا بنسبة 50.9 في المائة من الأصوات،(5) وبالمقابل مُنيت أمريكا بانتكاسة سياسية جديدة، ومع ذلك لن تتعظ الإدارة الأمريكية، ولن تغيّر من مسار انحرافها عن حقوق دول وشعوب العالم.
يُعْتَبَرُ (لويس إيناسيو لولا دا سيلفا ( Luiz Inácio الرئيس الخامس والثلاثون للبرازيل، انتخب سنة 2002 ثم أعيد انتخابه سنة 2006 بعد فوزه بـ 60% من الأصوات، تسلم الرئاسة للمرة الأولى في1/1/2003، وحتى 1/1/2011 ، اختير كشخصية العام في 2009، من قبل صحيفة لوموند الفرنسية، وصنف بعد ذلك في السنة التالية حسب مجلة التايم الأمريكية، الزعيم الأكثر تأثيرا في العالم، كما لقب بأشهر رجل في البرازيل من الجيل الحديث، بل ولقب بأشهر رجل في العالم، قدم دا سيلفا العديد من برامج الإصلاح الاجتماعي، لحل مشاكل كالفقر، من خلال إيقاف عمليات تصنيع الأسلحة، وقد لعب دا سيلفا دورًا هامًا في تطور العلاقات الدولية، بما في ذلك البرنامج النووي الإيراني ومشكلة الاحتباس الحراري، ووصف بأنه «رجل صاحب طموحات وأفكار جريئة من أجل تحقيق توازن القوى بين الأمم في 1/10/2011 أصيب دا سيلفا الذي كان من المدخنين لأكثر من 40 عاما بورم خبيث، وخضع للعلاج الكيميائي حتى تعافى من المرض بشكل كامل، وعاد للحياة السياسية (6)
قناعة الرئيس البرازيلي (لولا داسيلفا) بسلميّة البرنامج النووي الإيراني، دفعت به إلى تقديم نفسه وسيطا، لحلّ الأزمة المفتعلة القائمة بين إيران ودول الغرب بزعامة أمريكا، واستغلّ زيارته إلى طهران بمناسبة انعقاد قمّة دول عدم الإنحياز، ليشرح للرئيس الإيراني أحمدي نجاد وجهة نظره، وليلتقي بعدها بالمرشد السيّد الخامنئي، و(أكد مصدر قريب من المفاوضات لوكالة فرانس برس أنه تم بحث المسألة النووية، لافتا إلى أن هذه القضية هي “أحد الملفات المهمة” لزيارة الرئيس البرازيلي لطهران.) (7) ويبدو أن ذلك لم يرُقْ لأمريكا، فقررت تدبير مؤامرة للتخلص من (لولا داسيلفا) وأفكاره، التي رأت فيها استهدافا لسياساتها في ذلك الملف وفي العالم.
عاد (لولا داسيلفا) لرئاسة بلده الواعد بإرادة شعبية، نابعة من الطبقة الكادحة في البرازيل، والتي تنضوي تحت نقابات العمال، التي يسيطر عليها عادة اليسار المعادي للإمبريالية العالمية، ويعمل من أجل ضمان حقوق العمال في العيش الكريم، وسط غابة من الرأسمال المتوحّش، ويستمر المدّ والزجر بين قوى الخير، ممثلة في كل مصلح في هذا العالم، مهما كان انتماؤه أو عقيدته أو عرقه، بين المتنفذّين بالشرّ من قوى الإستكبار، من الأثرياء الفاسدين المتملّكين لأقوات الشعوب المستضعفة، والكاتمين لأنفاس حرّياتهم، وستكون الغلبة لأصحاب الحقوق المسلوبة في قادم الأيام بالتأكيد.
ويستمر سحب بساط التحكّم في العالم والهيمنة عليه من تحت أقدام الإستكبار الأمريكي، فقد تسقط قطبيتها المزيّفة، عن طريق الإرادة الشعبية، التي قد تحيا في كل شعب حرّ، لتجد الإدارة الأمريكية نفسها وحيدة ومنبوذة ومقْصيّة، ولا يحتاج العالم بعد ذلك إلى حرب لإعادتها إلى حجمها الطبيعي بالقوة.
المصادر
1 – سلفادور اليندي
https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – أوغستو بينوشيه
https://ar.wikipedia.org/wiki/
3 – لجنة حقوق إنسان أممية: محاكمة الرئيس البرازيلي السابق لولا دا سيلفا انتهكت الإجراءات القانونية الواجبة
https://news.un.org/ar/story/2022/04/1100382
4 – الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دا سيلفا يغادر السجن
5 – لولا دا سيلفا يهزم جايير بولسونارو ويعود إلى رئاسة البرازيل
https://www.bbc.com/arabic/world-63444371
6 – لويس إيناسيو لولا دا سيلفا
https://ar.wikipedia.org/wiki/
7 – رئيس البرازيل “متفائل” بالتوصل لحل لأزمة الملف النووي الإيراني