عادة ما تترك الأحداث الكبرى بصماتها، وتبقى آثارها واضحة وجليّة في محصّلة الشعوب المعنيّة، ويكون تأثيرها العميق عليها بعد وقوع أحداثها، بما من شأنه أن يغيّر حالها من السّوء إلى الحُسن، وهي بمقدار قيمتها لا يمكن أن تمحى من ذاكرة أفرادها، خصوصا أولئك الذين عاشوها وانخرطوا في تفاصيل حركاتها، والتاريخ من هذه المناسبات مسجّل تفاصيلها ومخلّد ذكرياتها، وذاكر أيامها الحاسمة ذكر الإجلال والإعتزاز، من أهمّ هذه الأحداث – على الرّغم من إهمال سياقاتها- بعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وظهور المُصلحين في أممهم وشعوبهم، بدعواتهم الحقّة والعادلة، التوّاقة إلى الإصلاح والتغيير، وهي وظائف تقلّدوها سواء بالتعيين والاصطفاء الإلهيّ، أو بمبادرات شخصية من طرف المصلح.
ولست في صدد تعداد الاحداث الكبرى المعاصرة، لكنني سأقف فقط عند أعظم ثورة إسلامية ناجحة على الإطلاق، كان لها الأثر البالغ ليس على شعبها وحده، بل وفي العالم الإسلامي، حيث اعتبرها خبراء ومحللون سياسيون، بسفينة انقاذ للأمّة جمعاء، قادها رُبّانها ليقدّمها نموذجا لبقية الشعوب الإسلامية، الرّازحة تحت هيمنة وتبعيّة الدول الغربية الاستكبارية، فينتشلها بجملة أفكارها الثورية من متاهة الدول الغربية الإستعمارية، التي ما زالت إلى اليوم مسيطرة على حياة تلك الشعوب، السياسية والاقتصادية والثقافية، ومنذ بشائر ذلك التاريخ 11/2/1979 إلى اليوم، جرت سفينة إيران الإسلامية رُخاءً بحسن قيادة ربّانها الراحل الامام الخميني رضوان الله عليه، رغم أنّ البدايات التي تلت انتصار الثورة لم تكن سهلة أبدا.
فقد أدركت أمريكا وحلفها الغربي، أنّ إيران قد افلتت من هيمنتها، وخرجت من سلطان نفوذها، ولم يعُد لها مجال للّعب داخلها، بعدما كانت تعرْبِدُ فيها بجواسيسها عبر سفارتها كما تشاء، فخطّطت وحرّضت عليها الدول العربية السائرة في ركاب الغرب، فانخرطت في أعمال عدائية ضدّها في الثمانينات من القرن الماضي، إرضاء لهوى حكام أمريكا، هؤلاء الحكام لم تكن لديهم ثقافة إسلامية واضحة، وإنما نسبتهم إلى الإسلام كانت وراثية، وبالهويّة الخالية من أيّ تطبيق ( بورقيبة نموذجا)، لذلك لم تفلح محاولات الدول العربية والإسلامية جرّ ايران الى المستنقع الأمريكي، في ظل قيادة إسلامية حكيمة مصرّة على المضيّ نحو أهدافها بثبات رجال أبرار من قوم سلمان المحمدي، وعلى ها المبدأ قال الإمام الخميني رضوان الله عليه: (إنه لا معنى لأن تبذل حكومات العالم الإسلامي مساعيها لتجعل من إيران على شاكلتها وأن تكون متعلقة بأمريكا ! فلا جدوى لهذه المحاولات، وإن إيران لن تمد يدها نحو أمريكا أبداً إن شاء الله، حتى لو تعرضت للفناء.)(1)
تتابعت المؤامرات الغربية في مواجهة إيران، هدفها اسقاط مصداقيتها، تشويه صورتها الإسلامية، بمختلف الدعاوى الكاذبة، من أجل زيادة التحريض عليها وعزلها عن عالمها، لكن كل تلك المؤامرات سقطت بفضل الله تعالى، وحكمة القيادة الإسلامية في حسن إدارة شؤون البلاد، وعزيمة قوم سلمان المحمّدي التي كسرت بها إيران عوائق كثيرة، لعلّ أقواها الحرب العدوانية المفروضة عليها، والتي استمرت ثماني سنوات، قدّمت فيها من أجل الدفاع عن أراضيها ونظامها الإسلامي العتيد، مئات آلاف الشهداء من خيرة رجال الثورة، فضلا عن أعمال الإغتيال التي طالت قيادات عليا ( تفجير مقر حزب جمهوري إسلامي28/6/1981 والذي يعتبر كارثة بحق فقد أودى ذلك العمل الاجرامي بارتقاء 73 شهيدا من رجالات الثورة الإسلامية في مقدّمتهم آية الله بهشتي(2)، وفي أقلّ من شهرين، فجّر المنافقون أعداء النظام الإسلامي، وعملاء أمريكا والغرب مقرّ رئاسة الوزراء 30/8/1981 (3)) وعلماء الذّرّة الذين استهدفتهم مؤامرات أمريكا والكيان الصهيوني، بهدف اضعاف إيران – وهي تخطوا خطواتها الأولى في النموّ متحرّرة من قيد التبعية – بعدما فشل المتآمرون في اسقاط نظامها.
عِداء أمريكا لإيران لا يمكن أن يتغيّر، طالما أن إيران ماضية في مشاريعها التحرّرية، فقط ستتغير سياسات أمريكا تجاهها في صورة واحدة، وهي أن تتخلى إيران عن تحرير فلسطين وفضح ومعارضة سياسات أمريكا الناهبة لمقدّرات الشعوب والمزعزعة لأمن الدول التي تعتبرها عدوّة لها، ولو استجابت إيران فرضا لهوى أمريكا، لعادت ايران كما كانت من قبل في عهد الشاه المقبور شرطيّ المنطقة، إذا فالخلاف هنا مبدئي ثابت، وعقائدي لا يمكن ان ينقلب إلى نقيضه، ولأجل ذلك أنهى الإمام الخميني كل جدلٍ، في اعتباره أمريكا الشيطان الأكبر، وكانت تعابيره عنها الكثيرة، تناولت جوانب من حقائقها، مختصرها قوله وهو حكم عادل لما ارتكبته هذه الدولة العنصرية الظالمة والمستكبرة: (ينبغي على العالم القضاء على أمريكا، وما دامت أمريكا باقية فستبقى هذه المصائب تعصف به) (4)
بالأمس كانت ايران ضعيفة ومفككة القوى، وحاولت أمريكا ايذاءها فلم تفلح، لتبقى صحراء طبس (25/4/1980) شاهدة على الهزيمة النكراء التي لحقت بنخبة عساكرها (5) واليوم أظهرت ايران بعضا من قوّتها، في مجالات علمية تقنية وعسكرية متطورة، مدركة أنه من دون الاعداد العسكري المناسب لمواجهة أعدائها والتفوّق في مختف مجالاته ليكون رادعا يحول دون اقدام أي عدو على القيام بمغامرة عسكرية تستهدفها، يكفي أن أشير هنا الى نجاحات محور المقاومة الذي ترعاه إيران، إلى أي مستوى من الندّية وصل في مقارعة أعدائه، وبفضل ايران حافظ الفلسطينيون على أملهم في تحرير أرضهم، بعيدا عن أوهام حلّ الدولتين، لتبقى ايران كابوس أمريكا ودول الغرب والكيان الصهيوني، الذي يتمنون زواله، لكن هيهات، فقد فات الوقت، ولم يعد هناك أمل في تحقيق هدف تلاشى، وأصبح من أضغاث أحلام الغرب التي لن تتحقّق، إيران اليوم عصيّة على أعدائها، وغدا أعصى، هي مفخرة وعز لمحورها الذي يبشر بكل خير، في تنوعه وتماسكه وانتشاره، وما يحصل اليوم على جبهات الصراع وإن كان قليلا، فيقينا كله خير، كما قالها الشهيد السعيد على طريق القدس اللواء قاسم سليماني.
المراجع
1 – الاستكبار الأمريكي في كلمات الإمام الخميني قدس سره
https://books.almaaref.org/view.php?id=213
1 – حادثة تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي فضح تيار النفاق
https://alwelayah.net/post/print/39052
2 – في ذكرى استشهاد الرئيس رجائي ورئيس الوزراء الشيخ باهنر
https://navideshahed.com/ar/news/385315/
3 – أمريكا وإسرائيل الامام روح الله الخميني
https://www.almaaref.org/maarefdetails.php?id=11435&subcatid=1537&cid=507&supcat=6
4 – هزيمة أمريكا في طبس .. يوم دفنت رمال إيران النسر الأمريكي
https://www.alalam.ir/news/6601683/