الأربعاء , 18 ديسمبر 2024
أخبار عاجلة

تجلّيات الخُلُقِ العظيم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب إتّباعه…بقلم محمد الرصافي المقداد

لقّبته قُريشٌ بالصّادق الأمينِ(1)، قبل أن يبعثه الله نبيّا ورسولا صلى الله عليه وآله وسلم، فلمّا بعثه جلّ شأنه إلى العالمين، معلّما وبشيرا ونذيرا، أعلن عن السّبب الأساس لبعثته فقال: (إنّما بعِثْتُ متمّما لمكارم الأخلاق)(2)، وتجلّت خصاله ومحامد أفعاله ورفيع أخلاقه، في كامل سيرته التي أظهر فيها تمام الإستقامة، وكمال الشخصيّة، قبل البعثة وبعدها، وهو في أصل نشأته الإنسان الكامل، كفّله الله بتمام عنايته ودوام رعايته بعد أن أيتمه، فيكون هو المربّي، بعدما مات أبوه قبل أن يولّد، ولحقته أمّه بعد 6سنوات(3).

وفي تأديبه من قِبَلِ ربّه، يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في إحدى أشهر خطبه: (ولقد قرن الله به مِنْ لدُنْ أن كان فطيما، أعظم ملكٍ من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه إتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالإقتداء به.)(4)

وقد أثر عنه قوله: أنا أديب الله، وعليّ أديبي، أمرني ربي بالسخاء والبِرّ، ونهاني عن البخل والجفاء.(5) ومن كان الله مؤدّبه ومعلّمه، فهو من خاصّة الله وأوليائه، قد بلغ أعلى درجات الأدب ومكارم الأخلاق، ومن كان لصيقا به تابعا له ساعة بساعة ويوما بيوم، مثل أخيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه قطعا صاحب حظّ عظيم من التربية والمعرفة، بما يبلّغه مستوى فريد في رفعة الأخلاق وسموّ النّفس، ولم يكن ذلك متاحا لأيّ كان، وتنعدم المنافسة على محلّ شاء الله سبحانه أن يكون فقط لفدائي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

جمع الحفاظ آدابه فقالوا: كان أحكم الناس وأحلمهم، وأشجعهم وأعدلهم وأعطفهم، لم تمسّ يده يد إمرأة لا تحلّ له، وأسخى النّاس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، فإن فضل ولم يجد من يعطيه وجنّه الليل، لم يأو إلى منزله حتى يتبرّأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما أتاه الله إلا قوت عامه فقط، من يسير ما يجد من التّمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ولا يُسْأل شيئا إلا أعطاه، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما إحتاج قبل إنقضاء العام إن لم يأته شيء، وكان يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها، وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويفتح الباب ويحلب الشاة ويعقل البعير فيحلبها، ويطحن مع الخادم إذا أُعْيي، ويضع طهوره بالليل بيده ولا يتقدمه مطرق، ولا يجلس متكئا، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم وإذا جلس على الطعام جلس محقّرا…)(6)

هذه الشمائل السلوكية الرفيعة، ظهرت في شخصيّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصرّح بها الله منوِّها في كتابه العزيز، بأن عظم خُلُقه فقال: ( وإنّك لعلى خلق عظيم)، فلم يكن على وجه الأرض أرفع أخلاقا، ولا أكرم نفسا ولا أحسن معاشرة منه صلى الله عليه وآله وسلم، بل لقد كان متميّزا بين قومه بخصال من الآداب العالية، في مجتمع جاهليّ غلب على أهله الفسق والفجور، والإنحطاط والسّفالة والغدر والرّذيلة، وكلّ السيئات والموبقات التي اجتمع عليها أغلب نسائه ورجاله، ولم ينجو من آثارها منهم، سوى قليل ممن ضبطته أصوله الطيّبة من بني هاشم، وبعض آخر أقلّ من غيرهم.

وسيرة سيّد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمعه، سواء أكانت خلال إقامته بمكة، وعسر ما كابده فيها، من صدود وأذى المشركين طيلة 13 عاما، أو بالمدينة، وجهوده المضنية التي بذلها فيها، بين الأنصار والمهاجرين على مدى عشر سنوات، من أجل تأسيس مجتمع إسلامي مثالي، بإمكانه أن يتحمّل مسؤوليته، في الإلتزام بآداب القرآن التي أدّب الله بها نبيّه، عانى خلالهما ما عانى، من أجل النجاح في تنشئة جيل، مختلف تماما عن سابقيه من العصر الجاهلي، تتجلى فيهم عناصر خُلُقِ القرآن ومعاني آداب النبوّة.

اجتمعت فيه سماحة التعاون والتواضع ولين الجانب، ومشاركة النّاس في مجالسهم، فإذا انتهى إلى قوم، جلس حيث ينتهي به المجلس، وكان يأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحب أن يشعر أحد من جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه، ومن جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه (7).

من ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساهم بفعالية، في جميع غزوات الدّفاع عن دينه، وكان كما قال بشأنه الإمام علي عليه السلام كُنّا إذا احمرّ البأس ولقِيَ القومُ القومَ، اتّقينا برسول الله فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدوّ منه.(8) وهنا تبطُلُ رواية العريش الذي هيّأ للنبي بينما المسلمون يتقاتلون في بدر.

وفي حفر الخندق لم يكتفِ بإعطاء الأوامر، بل كان متقدّما على غيره في ذلك العمل الشّاق حول المدينة، حريصا على استكماله بسرعة، مُعْطِيا من نفسه المثال في الجِدّ والمثابرة، فساهم في الحفر بالمعول والمسحاة والمكتل، حفرا ورفعا للتراب ونقله خارج الخندق.(9)

كان منتهى التواضع والصّبر على الأذى، جعل من عاشره ولم يعي من سماحة أخلاقه ورفعتها شيئا، يرى فيها مسوّغا للجرأة عليه، ومع ذلك لم يتغيّر في سلوكه ولا طبعه، وبقي قبلة ومقصدا لصاحب الحاجة، مهما بعُدت أواصره، وصدرا رحبا وسع كلّ من قصده، بنزوله عند رغباتهم، وتحقيق طلباتهم، وقضاء حاجاتهم، يستوي عنده على كلّ حال، الغني والفقير والقوي والضعيف، ولا فرق بينهم عنده، إلّا أن يُحِقّ حقّا أو يبطل باطلا، أو ينتصر لمظلوم من ظالم،

تحدّت عنه أنس بن مالك فقال: ( خدمت النبي (ص) تسع سنين، فما أعلمه قال لي قطّ: هلّا فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب عليّ شيئا قطّ، فلم أشُمّ نكهة أطيب من نكهته، وما أخرج ركبتيه بين جليس له قطّ، وأدركه أعرابيّ فأخذ بردائه، فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عنق الرسول (ص) وقد أثّرت به حاشية الرّداء من شدّة جذْبَتِهِ، ثم قال: يا محمد مرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله (ص) فضحك وأمر له بعطاء، ولهذه الأخلاق الكريمة نزلت (وإنّك لعلى خلق عظيم) (10)

ومن عجيب ما قرأت في سيرته – وهذا مما قد لا يصبر عليه والد بولده ويحتاج إلى نفس عالية الصبر والسّكينة والرّضا – كان رسول الله يؤتى له بالصبيّ الصغير ليدعو له بالبركة أو يسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرُمة لأهله، فربما بال الصبي عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول، فيقول النبي: لا تُزْرِموا بالصبيّ. فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنّه يتأذى ببول صبيّهم، فإذا إنصرفوا غسل ثوبه بعده.(11)

نبيّ خاتمُ سلسة طويلة من أصفياء الله، شمله الله بخاصّية لم ينلها غيره، فهو حبيبه وصفيّه وصاحب المقام المحمود عنده، مُقَدّم في الدّنيا ومفضّل في الآخرة، جدير بمن قرأ سيرته – وإن كانت مختصرة – أن يعظّم شخصه الكريم، وينهل من بالغِ حِكَمِه، ويقتديَ برفيع أخلاقه، كما جاء في محكم قرآنه: (إن كنتم تُحبّون الله فاتبعوني يُحبِبْكم الله ويَغْفر لكم ذنوبكم)(12)

فأين نحن يا ترى من هذا المعلّم الإلهيّ الكبير؟ وما حالنا وقد طرقت مجتمعاتنا من بعده طُرُقَ الزيغ والإبتعاد عن مناهل مدرسته العظيمة؟ ألا نخجل منه ومن أنفسنا عندما نُلَقّب بلقبه محمّديون ثم لا ينطبق ذلك على سِيَرِنا وسلوكياتنا؟ ينهر منّا من ينهر المخطئ ويعنّف من يعنّف الصّبيّ لسبب بسيط، ويردّ من يردّ السائل بأي معذرة كانت ولو كذبا، ويترفّع منا من يترفع عن خدمة البيت ومساعدة الزوجة كأنّ قدرها أن تكون خادم الزوج والبيت، ويستضعف منا من يستضعف الفقير وذو الحاجة، كأنه مخلوق من صنف أقلّ، ويُكبِرُ منّا من يُكبِر المستكبر والغني تقرّبا منه، وقد نُهينا عن ذلك نهيا شديدا، فكيف تصدر منا مخالفة آداب هذا المصطفى العظيم ومعها ندّعي مجدّدا بأننا من أتباعه ونسير على نهجه، إنّها مفارقة غير قابلة للأعتبار عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

المجتمعات الإسلامية بحاجة ماسّة إلى أن تعود إلى نبيّها عودة الضال الذي أعياه التّيه، وأنهكه البعد عن الهُدى، عودة العطشان الذي ألهبه الضّمأ، بعد صحراء الشّبهات التي خاض فيها، خوص من تنكّب عن طريق الرّشاد، بعدما سقط من أيدي مثقفيه زيف الثقافة الغربية، وتبيّن له أن الدّعوى التي رفعها الغرب، استدراجا للمسلمين، للخروج عن طريق هداهم، لم تكن صادقة، وإنما هي فخّ نصبه أهل الغرب لهم، ليضلّوهم عما كانوا عليه.

وماذا يعني كوننا مسلمين، ولم نكن محمّديين حقا، نستقي من معين سيرته العطرة أخلاقا عظّمها الله، تعبيرا منه على قيمتها العالية، وحثّا للمسلمين على الأخذِ بها والعملِ على منوالها، بوِدّي أن يكون الأمرُ كذلك، وأتمنى تحقّقه سريعا في أمّة الإسلامِ، وهي السّبيل الوحيد الذي يفتح علينا أبواب رحمة الله وبركاته وتوفيقاته، ونصبح مصداق قوله تعالى: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(13)

النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي المثل للقادة في التواضع

فوق ما تميزت به شخصيته صلى الله عليه وآله وسلم من تواضع لا مثيل له، جاء أمر الله تعالى له بخفض الجناح للمؤمنين فقد نزل (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)(14)

جاء في تفسير الميزان بخصوص هذه الآية:

(أي اشتغل بالمؤمنين بك واجمعهم وضمهم إليك بالرأفة والرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، وهذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: ” واخفض جناحك للمؤمنين “(15)، والمراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون ” فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك واتبعوك فاجمعهم إليك بالرأفة واشتغل بهم بالتربية وإن عصوك فتبرء من عملهم.) (16)

فهذا نبي الله المقدّم على كافة أصفياء الله، على رفعة منزلته عند ربه، وقداسة شخصه عند المؤمنين من أتباعه، يأتيه أمر ربّه بأن يخفض جناحه لهم، بما تعنيه المفردة من تواضع كامل لهم، ونزول عند رغباتهم بما لا يتعارض مع جوهر بعثته، في نشر قيم التسامح والعفو مع الحفاظ على الحقوق، والمساواة بين الناس،

فهل اقتبس حكام الشعوب الاسلامية شيئا من ذلك في تعاملهم مع أفراد شعوبهم؟ يبدو أن هناك تباين كبير بين ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يكون سلوكا عاما حسنا بين أفراد الأمّة، من أعلى هرمها إلى قاعدتها، يجسّد قيم الإسلام الإجتماعية في أعلى مراتبها، وبين ما درج عليه الحكام من استئثار واستغلال واستكبار وعدوان، كأنّما خُلِقوا ليركبوا ظهور أفرادهم، ويعبثوا بحقوقهم بما يحلو لهم، من سلوك مستهجن دينيا وإنسانيا.

الاسلام وقيَمُ المساواة

لقد تضمّن الدّين الخاتم جملة من القيم الإنسانية، جرى بها القرآن الكريم وأحسن تبليغها وتطبيقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هادِما بها عنصرية الجاهلية، وأحكامها المجحفة بحق الأجناس البشرية، من إزدراء بحقوقهم، وتمييز لألوانهم، واستخفاف بألسنتهم، واستعباد لأشخاصهم، وامتهانهم بما يكرهون، وتبدو الحقيقة القرآنية الماثلة أمام أعيننا، كافية لنبذ كل مظْهر تحصّن بأعراضٍ جاهلية، وحشيّة خالية من قِيَمِ الإنسانية، فطرة الله التي فطر النّاس عليها، ولا شيء أنفع للناس من حسن المعاملة بينهم، قال النبي: الخلق كُلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عز وجلّ أنفعهم لعياله.) (17)

وبقيم عالمية رسالة الاسلام، لا يمكن أن يوصف بأنه إقصائي لأي جنس بشري، ولا مُحابٍ لعربيّ على أعجميّ، وقوله تعالى: (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) (18) ميزان حقّ وضعه للتمييز العمليّ بين العامل والعاطل وبين المحسن والمسيء، فلا قيمة لبشر عنده من دون تقوى، ومن اتقى الله في سرّه وعلانيته فقد بلغ كرامة الله وحقق رضاه، هذا هو الإسلام في إطاره العمليّ البسيط والواضح، (قل هذه سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (19)

محاولة تشويه شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تزال عقيدة الطاعنين في عصمته

مع كل هذه الآداب الخُلُقِيّة العالية، لا يزال في جميع تفاسير من تنكّب عن نهج أئمة أهل البيت عليهم السلام ما يسيء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويضعه موضع المخالف لآداب الله التي أدّبه عليها وعلّمه إيّاها، فقد نسبوا له ظلما وعدوانا أنه عبس في وجه ابن أمّ مكتوم الأعمى، وما أفظعها من نسبة، مع أنّ السورة ليس فيها ما يشير إلى ذلك أبدا وفي هذا يقول صاحب الميزان:

(وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل خبر محض لم يصرح بالمُخْبَرِ عنه بل فيها ما يدل على أن المعني بها غيره، لان العبوس ليس من صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعداء المباينين، فضلا عن المؤمنين المسترشدين، ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء، ويتلهى عن الفقراء، لا يشبه أخلاقه الكريمة، وقد عظم الله خلقه صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال – وهو قبل نزول هذه السورة -: ” وإنك لعلى خلق عظيم ” والآية واقعة في سورة ” ن “، التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور، على أنها نزلت بعد سورة أقرأ باسم ربك، فكيف يُعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته، ويطلق القول في ذلك، ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية، ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا، والتلهّي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا.

وقال تعالى أيضا: “وأنذر عشيرتك الأقربين وأخفض جناحك لمن إتّبعك من المؤمنين” (20)فأمره بخفض الجناح للمؤمنين، والسورة من السور المكية، والآية في سياق قوله: ” وأنذر عشيرتك الأقربين ” النازل في أوائل الدعوة، وكذا قوله: ” لا تمدّنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين ” (21)، وفي سياق الآية قوله: ” فأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ” (22) النازل في أول الدّعوة العلنيّة، فكيف يُتصوّر منه صلى الله عليه وآله وسلم العبوس والإعراض عن المؤمنين، وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح لهم، وأن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.)(23)

ولا أعتقد أنّ من وعى قوله تعالى أيضا: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (24) يمكنه أن يقبل في نبيّه أنه عبس وتولى، بمجرّد مجيء الأعمى، وهو الذي كلّلته الآية بخصال التفاعل الكامل مع المؤمنين، والحرص عليهم والرأفة والرحمة بهم، فأين ما إدّعاه عميان القلوب من عبوس لم يُر في وجهه، حتى وهو في مواجهة أعدائه، فضلا عن أتباعه؟ (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا أليما) (25)

فلنكن محمّديين، خلافا لقريش التي نسبته صلى الله عليه وآله وسلم – وهو جدير بذلك – إلى الصدق والامانة قبل بعثته ثم أخلفت ذلك، بالتّنكّر لرسالته ومحاربته بكل الطّرق، وخلافا لمن تسمّى بسُنّته تزييفا، ثم ذهب إلى ضرب أخلاقه بنسبة العبوس والتولّي له، كأنّما حاله محاكاة لموفد قريش الوليد بن عتبة في الإستمار إلى كلام الله فما كان منه إلّا أن (عبس وبسر)(26)، نعوذ بالله تعالى من أن نسقط في مسلك الغاوين، ومن لم يتّبع سبيل سيّد المرسلين، فإنّه سيكون حتما من الخاسرين، وإن إدّعى الإنتساب إليه بلا إتّباع، ولنحذر كل الحذر من أن ينطبق علينا قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (27) سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، جديرة بأن تكون بأكملها دستورا اجتماعيا وسياسيا لحياة الفرد، وتصريفها بما يتوافق مع هذا القرآن النّاطق والنّور المُبين، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وبما تتألّف به مجتمعات هذه الأمّة المتفرّقة عن نبيّها ودينه، تفرّق المِعزى في ليلة مطيرة بعد فقد راعيها، وحياتنا وكلّ ما نأمله من هذه الدّنيا لن يستقيم ويمضي صالحا، إلّا بفضل إتّباع الإنسان الكامل هذا النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ففي سيرته العطرة الإستقامة الكاملة آدابا وسلوكا، وبها فقط ينصلح حال الأمّة أفرادا ومجتمعات، وأعتقد جازما أنه بعد ذلك، لن يوجد من يجرؤ على الطّعن في سيّد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم رحمةُ الله المُهداة، عندما يرى نماذج مليونية تتحرك أمامه بالخير والرأفة واللطف بالانسانية، هذا حبيب الرحمان يدعونا إلى اتّباع سيرته لخير ديننا ودنيانا، سِبّاق مفتوحٌ للخير، ومن سبق فيه فقد فاز، وما التّوفيق إلّا من عند الله العزيز الحكيم، والعاقبة لمن إتّقى، واستمع القول فاتّبع أحسنه، جعلنا الله وإيّاكم من أهل ولاية الله تعالى.

المراجع

1 – الشفا بتعريف حقوق المصطفى القاضي عياض ص 144/148

2 – بحار الانوار العلامة المجلسي ج68ص382/جامع أحاديث البخاري الأدب المفرد

3 – تاريخ اليعقوبي ج2ص10

4 – نهج البلاغة شرح محمد علي دخيل الخطبة 190 المسمّات بالخطبة القاصعة ص 373

5 – منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل ج1ص27

6 – البحار ج 68ص382/ منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل ج1ص31

7 – المصدر السّابق ج1ص24

8 – المصدر السّابق ج1ص31

9 –السيرة الحلبية ج2ص312/ مغازي الواقدي ج2ص453

10 – سورة القلم الآية 4 / المصدر السابق ج1ص31

11 – المصدر السابق ج1ص30

12 – سورة آل عمران الآية 31

13 – سورة آل عمران الآية 110

14 – سورة الشعراء الآية 215

15 – سورة الحجر الآية 88

16 – تفسير الميزان العلامة الطباطبائي ج15ص329

17 – بحار الأنوار العلامة المجلسي ج96ص 118

18 – سورة الحجرات الآية 13

19 – سورة يوسف الآية 108

20 – سورة الشعراء الآية 215

21 – سورة الحِجْرالآية 88

22 – سورة الحجْر الآية 94

23 – تفسير الميزان العلامة الطبا طبائي ج20ص203/204

24 – سورة التوبة الآية 128

25 – سورة الاحزاب الآية 57

26 – سورة المُدّثّر الاية 23

27 – سورة الصفّ الآيتين 2و3

شاهد أيضاً

الردّ على جرائم الكيان قادم لا محالة…بقلم محمد الرصافي المقداد

لم نعهد على ايران أن تخلف وعدا قطعته على نفسها أيّا كانت قيمته، السياسية أو …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024