بعد نكستي أمتنا العربية سنتي 1948 و1967، وردود افعال جميع شعوبنا، المصدومة بعامل خيانة عملاء الغرب من حكام بلداننا، وبسببها حكموا علينا بالتخلّف العلمي والتقني، اتباع مخططات الغرب الفاشلة، وما استتبعها من هزائم في مواجهة العدو الصهيوني، واصرارا منهم على التآمر علينا، بالبقاء تحت هيمنة مستعمرينا، أسواقا لصناعاتهم منتجاتهم، وعلى القضية الفلسطينية بتأجيل تنفيذ انتصار مستحق، يعيد لشعبها كامل حقوقه المشروعة التي اغتصبها الكيان الصهيوني، دخلت اغلب الدول العربية تحت خيمة التطبيع، بطرق مختلفة، تنوّعت بين الاقتصادية والسياسية والثقافية والرياضية.
التطبيع مع الكيان الصهيوني لم ينشأ نتيجة يأس حكامنا من وجود حلّ للقضية الفلسطينية، ولا رغبة من شعوبنا، الوفية دوما لأشقائها الفلسطينيين، والمساندة بما في وسعها للوقوف الى جانبهم، واستدامة صمودهم ومقاومتهم الباسلة، وإنما نشأ بإيعاز من الدول الاستعمارية الغربية، التي اوحت الى وكلائها من حكامنا العملاء، القيام بذلك على مراحل، ووفق برامج معدّة سلفا بدقّة وخبث كبيرين، لتجد شعوبنا العربية والاسلامية نفسها في نهاية المخطط، تحت هيمنة صهيونية كاملة، وأمر واقع لا مفرّ منه، عليهم أن يستسلموا له ويخضعوا لإرادته.
برئيس حكومة تكاد تنتهي صلاحيته، لولا وقوف حركة النهضة معه، دخلت تونس التطبيع مع الكيان الصهيوني من بابه الكبير، فالتطبيع الذي جرى سابقا في تونس، وان كان في ادناه ذنبا وخيانة عظمى، تعلق ببعض الوجوه المحسوبة على الفكر والفن والسياسة، التي لم يكن لها شأن معتبر بنظر الشعب التونسي، فضلا عن كونهم فاقدي التأثير عليه.
وموقف حركة النهضة في تزكية التحوير الوزاري الاخير، لم يكن مفاجئا بحد ذاته، بعدما أعطت ليوسف الشاهد جرعة بقاء في الحكم، لعل مقابلها التزامه بعدم خوض الانتخابات المقبلة، وبالتالي افساح المجال للنهضة، كي تقبض على زمام الحكم في انتخابات 2019 القادمة.
وما هو مرجح قبل هذا ما أملاه الغرب بزعامة أمريكا، على زعيم حركة النهضة، مقابل رجوعه ظافرا الى تونس، تجنب معاداة الكيان الصهيوني، والعمل على تبييض التطبيع من بابه الداخلي..
ينتظر بعد الذي حصل، أن تضخ الأموال، وتقدّم المساعدات والهبات والتسهيلات الاقتصادية، ايهاما للشعب التونسي بجدوى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعائداته في انعاش اقتصاد البلاد، الذي اشرف على الانهيار.
وما ينتظره الوطنيون في هذا الشعب ومكوناتهم المجتمعية المدنية، هو مزيد من الالتفاف على هذه الإجراءات المشبوهة والمدانة دينيا ووطنيا وأخلاقيا، وفضح اهدافها والتنديد بها، على أساس أنها مخالفة للمسار الثوري للبلاد، وبعيدة كل البعد عن الخيار الوطني، والتي تعبّر في مضمونها على سقوط مهين لسياسة ما بعد التغيير في تونس، وارتهان جديد لسياسات الغرب الداعم للكيان الصهيوني.
فهل سيكون التطبيع في هذا العالم العربي العجيب حكامه بطلعاتهم وفلتاتهم السياسية، وخداع شعوبهم، أسوة بمن سبق فيمن مضوا عليه أوّلا، وتدرجوا عليه من كعب الاحبار، الى سرجون، الى موسى بن ميمون، الى روني صهيون، نظائر يوحي بعضها الى بعض زخرف القول غرورا؟
إن كان لهذه الشعوب كرامة، فلتقف طلائعها في وجه هؤلاء المتآمرين على قضاياها المصيرية، وحقوقها المغصوبة والمنهوبة، ولتتكاتف جهودها من أجل وضع حد لهذه الانزلاقات الخطيرة في أحضان أعدائها، وقديما قيل (تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها)، واليوم نقول كما يقول الشرفاء: نجوع وتجوع شعوبنا ان لزم الأمر، ولا نأكل من التطبيع مع العدو الصهيوني.
ولن تعدم تونس أحرارها وشرفاءها فقد، بدأ تحرك شعبي في هذا الاطار، تقوده مكونات وطنية من المجتمع المدني، اعتبرت أن التحوير الوزاري الاخير، يستبطن محاولة ماكرة لجر البلاد، الى خندق التطبيع مع الكيان الصهيوني، ركوبا على الازمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها، فقد شهدت العاصمة وقفات احتجاجية، مطالبة بتغيير الوزير الصهيوني وكاتب الدولة المطبع، وذهب بعضها الى المطالبة باستقالة الحكومة.
وفي بيان لها، اعتبرت جمعية المحامين الشبان بتونس، أن التصويت الذي جرى ليلة الثلاثاء 12/11/2018 في البرلمان التونسي، والذي تمّ بموجبه تزكية التعديل الوزاري الاخير، الذي قام به رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وشمل تعيين وزير صهيوني، وكاتب دولة مطبع مع العدوّ الصهيوني، يعتبر مهزلة تاريخية، وعبّرت في بيانها الصادر امس، عن اسفها الشديد للشعب الفلسطيني والامة العربية، على هذه السابقة الخطيرة في تاريخ تونس، معتبرة أن ما حصل تحت قبة البرلمان، جريمة في حق الشعب الفلسطيني، وخيانة لقضيته العادلة، واذ تدين عملية التصويت التي جرت، وتعتبرها في نفس الوقت، وصمة عار على جبين الاحزاب الحاكمة، وكافة النواب المصوّتين لإقرارها، مطالبة هذه الحكومة بالاستقالة، متهمة اياها باللاوطنية، والمطبعة مع الكيان الغاصب، والخاضعة للدوائر الصهيونية.
وجدد البيان تمسك المحامين الشبان بخيار المقاومة، كحل وحيد لمواجهة الالة الصهيونية الغاصبة، داعيا المحامين، ومكونات المجتمع المدني، وكل شرفاء الامة، الى التصدي لهذه المؤامرة.
ومقابل حركة التطبيع التي أصبحت اليوم مكشوفة للعيان، قامت هناك على الأراضي المباركة حركة مقاومة شريفة، آمنت بأنه لا حلّ لقضية فلسطين والأمة، بغير حمل السلاح ومقاومة العدو الغاصب، وقد اثبت مشروع المقاومة الذي دعا اليه الامام الخميني، وأقام دعائمها الاسلامية في فلسطين، بجهود أبناء الامة الغيارى، المؤمنين بعدالة قضية تحررها من هيمنة الغرب والصهيونية ( فتحي الشقاقي ورفاقه / حركة الجهاد الاسلامي)، وفي لبنان ( عباس الموسوي ورفاقه / حزب الله)، وفي اليمن ( حسين بدر الدين الحوثي ورفاقه / أنصار الله).
ولم يكن الشعب التونسي يوما منفصلا عن نسيجه الديني والعرقي، ولا غير مهتم بقضايا امته، بل كان في مقدمة الساعين الى حلّها والمتطلّعين الى تحقيق آمالهم فيها، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وقدّم من أجل ذلك لفيفا من خيرة أبنائه، ممن لبوا نداء الجهاد، وكانوا ضمن كوكبة الشهداء، الذين ارتقوا الى بارئهم على تخوم فلسطين، وهو لن يرضى أبدا بسياسة خضوع وخنوع، التي مررتها حركة النهضة، وتتحمل وحدها مسوؤلية ذلك، طالما أن قرينها في الائتلاف الحكومي، حزب حركة نداء تونس انسحب من القاعة بدهاء، ولم يشارك في التصويت.
تاريخ نضال بتضحياته، يكتب اليوم بأحرف عبريّة فاضحة، نوايا شخصيات تونسية، كنا نعتبرها منذ زمن غير بعيد، ضمن عناصر النضال الوطني، وتستحق المساندة والاحترام، وكنا نرجو فيهم خيرا، وفي الأخير خاب ظننا فيهم.