هم السلطة الرئيس في رام الله بعد أحداث جنين ليس إعادة بناء ما دمره العدوان الهمجي في مخيم جنين ولا التباحث مع أجهزتها الأمنية حول كيفية مقاومة الاحتلال ومقاومة أي عدوان جديد متوقع على أهلنا والمقاومة في مخيم جنين، بل هو جل ما رشح من الاجتماعات بين رئيس السلطة وأجهزة امنها هو كيفية منع أو تحجيم المقاومة في مخيم جنين والقضاء على البنية التحتية التي بنتها المقاومة هناك وهذا ما هدف اليه العدو الصهيوني ولم يحققه. واعطيت التوجيهات والاوامر للأجهزة الأمنية في جنين البدء بتنفيذ هذا المخطط الجهنمي.
أدركت السلطة حجم الغضب الشعبي عليها والذي ترجم مؤخرا وبشكل جريء وعلني على الأرض بطرد عزام الأحمد والعالول نائب رئيس حركة فتح ومنعهم من المشاركة في تشييع جثامين شهداء المقاومة في مخيم جنين كما وأدركت حجم فقدانها للسيطرة الى حد كبير على الأوضاع الامنية في جنين على وجه التحديد وخاصة مع تنامي المقاومة وحاضنتها الشعبية وأن وجودها (أي السلطة) المرتبط بالوظيفة التي استحضرت من اجلها نتيجة تفاهمات اوسلوا وما تلاها من اتفاقيات وتفاهمات مذلة أصبح مهددا بالفعل على الأرض. ومن هنا فإنها ستتحرك على أكثر من محور في محاولة لتصحيح الأوضاع لصالحها. وهنا نود ان نستعرض بعض هذه المحاور مع التأكيد أن النجاح في مشروع تصحيح الأوضاع لصالحها أصبح شبه مستحيل ولذلك فإنها من المؤكد والمرشح أنها ستلجأ ومن خلال أجهزتها الأمنية الى مزيد من العنف تجاه كل من يخالفها أو يهدد مكانتها المهترئة أصلا. أما بالنسبة الى المحاور فهذا تلخيص لبعضها.
أولا: القيام بشن أكبر حملة إعلامية وأمنية ضد تنظيم حماس في الضفة الغربية وذلك من خلال التصريحات التي تلقي كل مسؤولية الانقسام وبقاءه في الساحة الفلسطينية على حركة حماس وكأن قيادات تنظيم فتح بريئة من هذه المسؤولية. وهذا ما نشهده في صحافة السلطة وممثليها على الشاشات الصغيرة ولا شك ان هذه التصريحات ستزداد في الفترة القادمة وتوجيه الاتهامات الى حركة حماس بزرع الفتن باستغلال حدث طرد قيادي فتح ومنعهم من المشاركة تشييع شهداء جنين. وفي محاولة خبيثة للاستفراد بحماس والتقليل من حجم الغضب الشعبي فلقد أعطيت الاوامر بعدم توجيه انتقادات الى حركة الجهاد الإسلامي على الأقل في هذه الفترة وخاصة بعد الالتفاف الشعبي حول سرايا القدس التي شكلت العمود الفقري في مقاومة العدوان الاسرائيلي على مخيم جنين.
ولم يعد خافيا أن المقاومة في نابلس وفي جنين على وجه التحديد تتعرض لمضايقات جمة من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية يتخللها حملات اعتقالات في صفوف المقاومين أو التبليغ عن أماكنهم. وحتى أثناء المعارك التي كانت تدور في مخيم جنين لم تخجل عناصر الامن الفلسطيني من اعتقال المجاهدين المتوجهين الى جنين للمشاركة في الدفاع عن المخيم والاشتباك مع قوات جيش الاحتلال. وكانت سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي قد أشارت الى ذلك وأوردت أسماء المجاهدين الذي تم اعتقالهم لمنعهم من الوصول الى مخيم جنين.
ثانيا: التضييق على البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة. لم ولن يقتصر الامر على حملة الاعتقالات والمداهمات التي تشنها قوى الامن الفلسطيني وأجهزة مخابراته أو تمرير المعلومات عن أسماء وأماكن وجود المقاومين للاحتلال تحت ما يسمى “بالتنسيق الأمني المقدس” بل أن الامر يتعداه الى المس بالبيئة الحاضنة للمقاومة ومحاربة هذه البيئة في قوتها اليومي والتضييق على مصادر رزقهم اليومي لإعالة عائلاتهم. وهذه الظاهرة منتشرة الى حد كبير في نابلس.
ثالثا: محاولة رأب الصدع العميق في “شرعية” السلطة والذي تعمق على أثر الاحداث في جنين ومخيمها ووقوف أجهزة الامن الفلسطيني موقف المتفرج حتى لا نقول أكثر اللذين لم يحركوا ساكنا تجاه العدوان الهمجي ليس هذا وفقط بل ظهورهم من جحورهم بعد انسحاب قوات الاحتلال من المخيم ومدينة جنين لقمع التظاهرات التي أعقبت هذا الانسحاب واستخدامهم القنابل المسيلة للدموع وبكثافة لتفريق المتظاهرين. وهذا ما يجب أن يفهم من الدعوة التي أطلقها عباس الى اجتماع عاجل وطارئ للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية بما فيهما حركتي حماس والجهاد الإسلامي. فمن شأن هذا الاجتماع إذا ما تم عقده هو إضفاء صفة الشرعية على السلطة الفاقدة الشرعية أمام شعبها وربما أيضا على مستوى “المجتمع الدولي”. وهي دعوة خبيثة ولن تكون بأفضل من لقاء الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الذي عقد في أيلول من عام 2022 والذي وبالرغم من الخطب الرنانة والقرارات والتوصيات التي خرجت من هذا الاجتماع لم تلتزم السلطة بأي منها وانتهت أوراق المؤتمر وقراراته في سلة المهملات كالعادة.
رابعا: ومن ضمن محاولة استرجاع بعض من الشرعية المفقودة الى جانب محاولة تفكيك اللحمة المتينة بين المقاومة وقاعدتها الشعبية والتي تنامت أكثر بعد العدوان البربري على مخيم جنين بهدف استئصال المقاومة وتدير بنيتها التحتية فإن السلطة الفلسطينية ستستخدم سلاح المعونات والمساهمات المالية التي ستقدم من الدول العربية او الاتحاد الأوروبي لإعادة إعمار المخيم من خلال الإصرار ان تمر كل هذه المساهمات من خلالها وليس من خلال اية منظمات او جمعيات أو مؤسسات تعمل خارج السلطة. بمعنى انها ستقوم جهارة بابتزاز البيئة الحاضنة للمقاومة واستغلال الأوضاع الإنسانية المأساوية والدمار الواسع للبنى التحتية الخدماتية التي خلفها العدوان الصهيوني على المخيم على وجه التحديد وإظهار انها هي الطرف “الشرعي” الوحيد والمسؤول وليس تنظيمات المقاومة. وهذه التصرفات المشينة رأيناها في برامج إعادة إعمار غزة في العديد من المناسبات فلم تكتف السلطة بالإصرار على ان تكون أموال إعادة الاعمار عن طريقها، بل بالإضافة الى انه من الضروري اقتطاع جزء من هذه الأموال لصالح السلطة نظرا لعدم وجود أموال في خزينتها لدفع معاشات الخدم والحشم وملئ الجيوب قبل الرحيل. ولن نستغرب إعادة هذا السيناريو في حالة إعادة إعمار مخيم جنين.
كاتب وأكاديمي فلسطيني