تدبّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم: تدبر في سورة عَبَس

تدبّر طالب التيسير  في فضاء القرآن الكريم:  تدبر في سورة عَبَس

بقلم: د.نعمان المغربي  (باحث في علوم الأديان المقارنة – جامعة الزيتونة)

 

قلب السورة: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ!! مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟! مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه،ُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ.

موضوع السورة: التذكير بقبح التكبّر والاستزلام للمسْتغنين.

 

  1. لا قيمة لإيمان مع التكبر على الزّمنى والضعفاء:

من سوء الحظ أن بعض المؤمنين لا يُردفون إيمانهم بالسلوك الأخلاقي القويم، فيكون إيمانهم بلا قيمة وُجودية.

فنجد مِنْ بيْنِهم مَنْ يعبسون في وُجوهِ الزَّمْنَى[1] (كالأعمى)، ويتولون عنهم، متوهمين أنهم مِن الصعب، أو المستحيل، أن يتزكّوا، ويرتقوا في المقامات الإنسانية متذكّرين: ﴿وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم: أَلَستُ بِرَبِّكُم، قالوا بَلى (الأعراف، 172)[2]. ونجد هؤلاء المتكبرين/«المؤمنين» في الآن نفسه «مُتَصدّين» للمستغنين، أي حريصين عليهم ومتزلفين، ولم يكن عليهم تزكيتهم إن رفضوا ذلك، فأوّل سورة بعد الفاتحة (سورة العَلق) نبّهت منذ البداية المؤمنين: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7).

والأكثرُ مَجْلَبَةً للغضب الإلهي حالةُ العبوس والتولّي أمام الزَّمين[3] أو الضعيف الذي ﴿يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى(9)، حيث يكون «المؤمن» المتكبر عنه متلهيا.

وهنا، كان الله تعالى، «يُذكّر» ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11). وقد جاءت «التذكرة» بنفس موسيقى سورة العَلق، بل بنفس إيقاعها في مقطع الغضب (مِن الآية 6 إلى الآية 14). إذ كانت متطابقة مع مقطع الغضب في سورة عَبس  (مِن الآية 1 إلى الآية 10).

سورة عَبس ﴿تَذْكِرَةٌ﴾ بقيم الصحيفة المكرَّمة، المرفوعة، المطهَّرة، التي اسمها: سورة العَلق، التي حدّدت أخلاقية الانتساب للدين الإسلامي منذ انطلاق الدعوة بها. تقول سورة عَبس ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟! تذكرةً بأوّل ما طالبتْ به سورة العلق المؤمن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. تلك هي المخالفة الأولى لـ«المؤمن المتكبر»!

تقول سورة عبس ﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾، تَذْكَرَة بما نصت عليه الصحيفة المكرَّمَة الأولى في الدعوة (بعد الفاتحة)، سورة العَلَق: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ.

تقول سورة عَبَس: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ تَذْكَرَةً بما نصت عليه سورة العَلق: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5).

تقول سورة عبس: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ تَذْكَرَةً بما نصت عليه سورة العَلق: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.

تقول سورة عبس ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى وتقول: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) تَذْكَرَةً بما نصت عليه سورة العلق: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13). هُنا يتقمّص «المؤمن» المتكبّر، المتزلّف «للمستغني» (سورة عبس، الآية 5 و6) النفسَ الشيطانية، للذي ﴿اسْتَغْنَى﴾: ﴿تَوَلَّى (سورة عبس، الآية 1 / سورة العلق، الآية 13). و«الموالاة» مِن أهم قرائن النفس، إن كانت مِن أهل التقوى أو مِن أهل الفجور.

كيف يكون المرء مؤمنًا وهو لا يتذكّر أُولَى القيم التي حظت عليها «أول» سورة في بالدعوة (سورة العلق)؟! كيف لا يقتدي بهذا «العبد» إذا صلّى، فأحسن القيام بالصلاة إذ ترجمها إلى أخلاق اجتماعية كريمة (وهو الذي على خُلق عظيم)؟! كيف لا يقتدي بهذا المحمّد (ص)، إذ ﴿كَانَ عَلَى الهُدَى﴾ (سورة العلق، الآية 11 و12)، أي «سفيرًا» بين الله المتكبّر (وحُقَّ له) وبين البشر، كريمًا، بارًّا بكل البشر: ﴿رَحْمَة لِلْعَالَمِين. فلقد كانت سورة العلق أول صحيفة قرآنية مطهّرة، تعلن لأوّل مرة «سِفَرتَه» «الكريمة»، «الهادية»، فهو مِن «السَّفرة» (السفراء) الكِرام، البررة، عليهم السلام جميعًا؛ فهو مذكِّر بهم وبكل صُحفهم المكرَّمة، المرفوعة. فهو ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ (البيّنة، الآية 2) / ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَة، مَرْفُوعَةٍ، مُطَهَّرَةً مُطَهَّرَة﴾ (عبس، الآيتان 13 و14). فهي ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ (البيّنة، الآية 3)، أي ﴿مَرْفُوعَة﴾ (عبس، الآية 14). فليس الرسول الأكرم ﴿بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾، بل هو وريثهم جميعًا، و﴿خَاتَمُ المُرْسَلِينَ﴾، ولا يمكن للمرسوم الملكي أن يكون كاملاً، ناجِزًا إلاّ بالخاتَم.

  1. سورة عبس تلعن «المؤمن» المتكبّر!

يلعن الله تعالى «المؤمن» المتكبّر، وهذا أمْرٌ مُرْعب، ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ، وَتَنشَقُّ الأَرضُ، وَتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا (مريم، الآية 90): ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ [الذي يَعْبس ويتولّى، خاصة مع الزمْنَى والضعفاء]!.

ذلك لأنه لم يقتدِ بمن هو ﴿رَسُولٍ كَرِيمٍ (9) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21) (التكوير). فلقد جعله الله تعالى ككلّ «السَّفَرة»، «كريمًا» (عبس، 16/التكوير، 19)، أي ذا مكانة عالية، لسمو أخلاقه وأمانته. ذلك «العبْدُ» (العلق، 10): متذلّلاً لله تعالى، متواضعًا مع خلقه: «يأكل أكله العبد، ويجلس جلسة العبد»، ﴿عَلَى الهُدَى﴾، آمرًا ﴿بِالتَّقْوَى﴾ (العلق، 11 و12).إن هذا الرسول الكريم، الذي ﴿عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ لا يُطيع «المستغني»: ﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ﴾، مصرًّا على التذلّل لله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ﴾، والاقتراب بالدعوة إلى مقاطعة مَنْ ﴿يَطْغَى﴾ ﴿أَنْ رآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق، 6 و7). ومَنْ كان مِنْ أتباع هذا «الرسول» «الكريم»، عليه أن لا يكون قلبه مع «الطغيانيين»، «الاستغنائيين»، سجَّادًا، متقرّبًا لله تعالى المتكبر بتقربه مِن ضعفاء عباده، مقاطعًا «نادي» الطغيانيين-الاستغنائيين، أي سُلْطَتهم. و«المؤمن» الذي لا يكون كذلك، مصيرُهُ مصير الطغياني الذي ﴿اسْتَغْنَى﴾، وهو اللعين (الإبعاد الوجودي عن الإنسانية الحقّة)، والعياذ بالله تعالى: ﴿قُتِلَ الإِنْسَانُ[في هذه الحالة الكفرية](عبس، 27). فهو ﴿لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ (عبس، 23) في الصحيفة المكرَّمة التي إسمها: سورة العَلق.

لا معنى لتكبر الإنسان على الضعفاء، وأوَّله «نطفة»/«عَلَقٌ»، ونهايته «إقبار»/«رُجْعَى» إلى الله تعالى (العلق، 8) أي «انتشار» (عبس، 22). وهناك يشترك «المؤمن» المتكبر في الذِّلة الوجودية: حيث ﴿قترة﴾ و﴿غبرة﴾ مع ذلة «المستغني» الذي أطاعهُ وتزلف له: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ (العلق، 15)، فيصبح كافرًا فاجرًا مثله (عبس، 42) والعياذ بالله تعالى.

إنهم أتباعُ صاحِب ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، مِثْله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.

إنهم مثله: ﴿رَحْمَة لِلْعَالَمِين﴾، ﴿رَحْمَة لِلْعَالَمِين﴾،﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنَتُّمْ﴾، ﴿بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

ليتأمل الإنسان طعامه، الذي تفضَّل به الله تعالى عليه، ليرى كرم الله المتكبر عليه. ليتذكر أن ﴿الصَّاخَّةَ﴾ لا ينفعه فيه ﴿نَادِيَهُ﴾ (العلق، 17)، ولا عصبية ﴿أَخِيهِ﴾ «المستغني» (عبس، 24) ولا عصبية ﴿أُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾، من نوعِ آباء اللهب وحمَّالات الحطبِ التكبّريِّ/الاستغنائيِّ، إذ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس، 37).

أما المتواضعون الذين لبّوا نداء: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾ (العلق، 19)، فلهم ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ(39)(عبس).

 

********************************************

[1] « اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى» (نهج البلاغة).

[2] راجع تدبرنا في سورة الأعراف.

[3] الزَّمين: Handicap (أمّا: «مُعاق»، «مَعُوق»، «مُعَوَّق»، فلا وجود لها في العربية!!).

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023