محمد رسول الله (ص) في ذكرى مولده…بقلم محمد الرصافي المقداد

محمد رسول الله (ص) في ذكرى مولده…بقلم محمد الرصافي المقداد

 

 

عندما نصطلح على نبينا محمد صلى الله عليه وآله بأنه رحمة الله على أرضه، فان في ذلك شواهد قرآنية دالة على ذلك، ففي قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1) وقوله جلّ شأنه: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (2) وفيه أيضا شواهد من سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وآله، دلت على أنّه ملك تلك السّجيّة العالية بحيث أشركه المولى تعالى في رحمانيته ورحيميته، وسيرته كلها معبرة عليها بلا أدنى شك، ومن اطلع على تفاصيلها، أمكن له أن يلحظ من خلالها كيف كان حرصه في أن يجسّد اللطف الإلهي بوجوده، سواء أكان مع مواليه أو مع أعدائه.

 

مشكلنا اليوم لا يقف عند التعرّف على نبيّنا صلى الله عليه وآله، وقراءة سيرته كما يُفْتَرض أن نقرأها كمسلمين مؤمنين به، وما اشتمل عليه شخصه من خصال رفيعة، بل يتعدى ذلك إلى العمل بمقتضى ما قدّمه من آداب عالية المضامين، نحتاج كمسلمين إلى تطبيقها، خصوصا ونحن نعيش هجمات غربية عدائية متتالية، مستهدفة تارة شخصه الكريم، وتارة أخرى قرآنه المجيد، هذا الغرب الذي أدرك منذ تعرّفه على الإسلام المحمّدي، بأنّه دين إلهيّ سيعتنقه العالم بأسره، بمجرّد تعرّفه عليه.

 

لكن لقائل أن يقول أين نحن كمسلمين من نبينا صلى الله عليه وآله ومن دينه الخاتم؟ لماذا نرى سلبية شعبية عامة في الإلتزام بما قدّمه من سيرة عطرة، وهي نفسها مبادئ الوحي والقرآن، وليس هناك أسوأ من أن يُحْسَبَ شخص على فكر أو منهج أو معتقد، ثم لا يظهر عليه من ذلك أثر دال على حقيقة انتمائه، وقد ابتليت الأفكار والمعتقدات بمنْتمِينَ شكْلا ومحسوبين عددا بمآت الملايين، لكن أغلبهم كما قال النبي صلى الله عليه وآله (غثاء كغثاء السيل) (3)، أبعد ما يكونون عن انتماءاتهم تلك، بل لعلهم في كثير من الأحيان ماضون عكس اتجاهها، وعلى خلاف معها، فليس كل من قال إني مؤمن هو كذلك، فلا يُعْرَفُ المؤمن إلّا بمدى التزامه بتعاليم الإسلام وتمسّكه بآدابه وأحكامه.

 

النبي صلى الله عليه وآله باب الله الذي يؤتى منه، وحبّ الخالق يتجسّد فقط في اتباعه والتقيّد بآدابه التي عظّمها الله في كتابه ( وإنك لعلى خلق عظيم) (4)إنّ التأسّي بالنبي من ضرورات الدين، بل وأساسه الأول، فهو القرآن الناطق، المثال الحيّ المصاحب لكتابه، والنور الذي نستضيء به من ظلمات أنفسنا الواقعة في أسر أهوائها، ولأجل انقاذنا مما وقعنا فيه من زيغ، دعانا الله إلى أن ننهل من سيرته العطرة، بما ينقلنا من عالم الوضاعة إلى عالم الكمال الروحاني، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (5)

 

هذا الإلتزام المفترض أن نكون ضمن إطاره، متّبعين سيرة أفضل خلق الله، ملتزمين بأخلاقه الرفيعة العالية، ومن كان الله مؤدّبه ومعلّمه، فقطعا لا يحتاج إلى مؤدب أو معلم من الناس، وقد عبّر الامام علي عن تلك الخاصّية الرفيعة بالقول: (ولَقَدْ قَرَنَ الله بِه صلّى الله عليه وآله وسلّم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً، أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه)(6) لذلك قال صلى الله الله عليه وآله: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(7) وكان من رفيع شخصه أن عاش بين أهله شديد الحياء والتواضع، نائيا بنفسه عن الدنيا ومتاعها، تماما كما تحدّث عنه ربيب الوحي عليه السلام: ( أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وعَلِمَ أَنَّ اللهً سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وحَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ، وصَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ ورَسُولُهُ، وتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ الله ورَسُولُهُ، لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً لِلهِ، ومُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ … فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وأَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، ولَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، ولَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ، وأَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ، وغَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ. وكَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وأَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ) (8)

 

محمد صلى الله عليه وآله القدوة والأسوة

 

وقد قدّم لنا الإمام علي عليه السلام من وصاياه نصائح، لو عملنا بها لكنّا مع الصالحين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، ومن أحسن من الله ورسوله قيلا، فقد قال إمام البغاء: ( تَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى. وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، والْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً، ولَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً … ولَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم مَا يَدُلُّكُ عَلَى مَسَاوِئِ الدُّنْيَا وعُيُوبِهَا، إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ، وزُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ، أَكْرَمَ اللهُ مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ، فَقَدْ كَذَبَ ـ واللَّهِ الْعَظِيمِ ـ بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ، وإِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللهً قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ، حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ، وزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ، فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، واقْتَصَّ أَثَرَهُ، ووَلَجَ مَوْلِجَهُ، وإِلَّا فَلَا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ الله جَعَلَ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم عَلَماً لِلسَّاعَةِ، ومُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، ومُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ، خَرَجَ منَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، ووَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وأَجَابَ دَاعِيَ رَبِّهِ، فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا، حِينَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفاً نَتَّبِعُهُ، وقَائِداً نَطَأُ عَقِبَهُ..) (9)

 

هذا ولم يأتي الدين الإسلامي الخاتم بغير مكارم الأخلاق، وجعل نبيه من نفسه مثالا حيّا على تلك السجايا الرفيعة، وفي ذلك قال حفيده الإمام الرضا عن آبائه الكرام عليهم السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: (عليكم بحسن الخلق، فإن حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق، فان سوء الخلق في النار لا محالة)(10) فهلّا تأسينا بنبيّنا صلى الله عليه وآله وهو مورد تاسّ، لمن آمن به نبيا مرشدا وهاديا إلى الحق، مولد النبي صلى الله عليه وآله محطّة لمن وطّن نفسه على التطبيق والإلتزام الكامل للإسلام، الايمان علم وعمل، فمن علم ولم يعلم فلا يلومنّ إلا نفسه، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها.

 

المراجع

 

1 – سورة الأنبياء الآية 107

 

2 – سورة التوبة الآية 128

 

3 – سنن ابي داود اول كتاب الملاحم ج4ص315ح4297

 

4 – سورة القلم الآية 4

 

5 – سورة آل عمران الآية 31

 

6 – نهج البلاغة ج 2 خطبة 192 ص 157

 

7 – بحار الانوار المجلسي ج68 ص383

 

8 – نهج البلاغة الامام علي بن ابي طالب ج 1 خطبة 109 ص 210

 

9 – نهج البلاغة الامام علي بن أبي طالب ج 2 خطبة 160 ص 58

 

10 – أمالي الصدوق ص 126

 

 

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023