تدبّر طالب التيسير في فضاء القرآن الكريم: تدبر في سورة النّحْل: التّخيير بين قَرْيَة النّحْل وقَرْيَة الظلم على  طريق الهِجْرة

تدبّر طالب التيسير  في فضاء القرآن الكريم: تدبر في سورة النّحْل: التّخيير بين قَرْيَة النّحْل وقَرْيَة الظلم على  طريق الهِجْرة

بقلم د. نعمان المغربي: (مختص في علوم الأديان المقارنة – تونس)

 

§     المقولات المركزيّة للسّورة:

 

1.     مقولة «الأمر».

2.     مقولة «القرية».

3.     مقولة «النَّحْل».

4.     مقولة «نِعْمَة الله»/ ﴿الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾.

 

§     القلب المفترَض للسّورة:

 

1)     ﴿وَأَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ أَنِ اتَّخِذي مِنَ الجِبالِ بُيوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعرِشونَ (68) ثُمَّ كُلي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخرُجُ مِن بُطونِها شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ(69)﴾.

2)     ﴿وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ41. ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ110﴾﴾.

 

§     السور الشقيقات: سورة التوبة (المقطع الغاري ــ المغاري) + سورة  يس+ سورة الدخان + سورة القدر

 

        موضوع سورة النّحل:

         يقول الإمام الرضا عليه السلام أنّ آية ﴿وَأَوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحلِ﴾ (النحل، 68)، نزلت في «أميرها»، سيدنا الإمام علي عليه السلام، «فسُمّي أمير النحل»[1].

         بدأ نزول هذه السورة الكريمة، في نهاية العهد المكّي لتعدّ المسلمين لمرحلة جديدة، مرحلة العهد المدني، وتمّ نزولها في بداية العهد المدني لتثبّت أولى مبادئ الاجتماع الأمثل، أو بلغة القرآن الكريم «النحل»، ومحذّرة في الآن نفسه من مشروع «وَأْدٍ» لبذور هذا الاجتماع المطلوب، مبيّنة خصائصه الرئيسة هو أيضا.

         توثق هذه السورة بيعة العقبة الثانية وهي تتناول ﴿أمْرُ الله﴾ (الآيتان 1 و2)، بما هو تدبير إسلامي –محمدي- إنساني للحياة البشرية، بمقتضى بيعة العقبة الثانية، التي واثقت رغبة جامعة بين المسلمين من قريش (سيصبحون «مهاجرين») ومسلمين من يثرب (سيسمّون «أنصارًا»)، مفترضةً «قريةً نَحْلِيّة» (اجتماعًا نَحْلِيًّا) ﴿فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ (النحل، 69)، من كل أمراض البشرية التي رانتْ عليها.

         فما هو «الأمْرُ» الإلهي؟

         وما هو «الأمْرُ» الإلهي المرتبط بهيمنة الرسالة المحمدية وبشهائدها؟

         وما هو «الأمْرُ» الإلهي المرتبط بالأَمَد المحمدي في تاريخ هذه الهيمنة، من خلال «صحيفتها» (دستورها) وكلّيات سورة النحل التي تحكّمت في هذه «الصحيفة»؟

         وما هي خصائص الاجتماع النَّحْلي في أمَد «العَدْل» المحمدي-العَلَوي ثم أمَد الإحسان مع الإمامين الحسنَيْن ثم أمَد «إيتاء ذي القربى» من أصحاب الكساء، عليهم السلام، كما افترضت سورة الهجرة، سورة العقبة، سورة الصحيفة، سورة النحل؟

         وما هي عواقب المخالفة عن الأمر الإلهي المتحسدة في «الفحشاء» ثم «المنكر»، ثم «البغي»؟

  • مقولة «الأمر»:

 

         تتنزّل الملائكة وروح القُدُس على شهيد العَصر (رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله، أو إمام الزمان، عليه السلام) في كل ليلة قَدْر، ويدفعون إليه ما قد كتبوه، وبرنامج أمَدِه أو برنامج سنةٍ من ذلك الأمد.

         ففي ليلة القدر «يُقدَّرُ كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل من خير أو شر، أو طاعة [من الناس] أو معصية، أو مولود، أو أجل، أو رزق»[2]. ووِفق ذلك يتصرَّف صاحب الأمد، ويتدخّل. وهو مطالَبٌ، وكذلك أتباعه، بعدم استعجال الأمر: ﴿أَتى أَمرُ اللَّـهِ﴾ (النحل، 1)، فهو قريب إذ كانوا صابرين، ووفوا بالعهد، ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ (النحل، 1)، فلقد قسّم كلَّ دورة رسالية تاريخية إلى «آماد»[3].

         و﴿وَلِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾. وهو يختارُ لكل أمْرٍ أَمَدِيٍّ الصاحبَ المناسبَ، فهو قيّوم على البشرية ومصيرها الأفضل: ﴿أَتى أَمرُ اللَّـهِ فَلا تَستَعجِلوهُ سُبحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشرِكونَ (1) يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرّوحِ مِن أَمرِهِ، إذ أن الروح القُدُس لا يفارق صاحب الأمَد، يفقّهه ويسدّده من عند الله[4]، وهو يُنزّلهم ﴿عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أَن أَنذِروا أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلّا أَنا فَاتَّقونِ﴾ (النحل، 2).

         إن «الأمْر» الربّاني، هو «الروح المحمدي»، أي «الكتاب المبين» بما هو حقيقة القرآن الكريم، «مُفرَّقًا»، مِنْ أَمَدٍ محمدي إلى آخر، ومن سنة من ذلك الأمَد إلى أخرى. وكل «أمر» دَوْريّ ينزل على إمام الأمَد «يبْتني على حكمة وصواب، كما ينبغي، من الشرائع والأحكام الفقهية»[5].

         إن «أمر الله»، على الرسول محمد صلى الله عليه وآله، كان «في عين الجمع»[6]، لأنه هو الرسول المهيمن على كل الرسالة الإلهية الخاتمة. فهو «من أهل القيامة الكبرى، يُشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجميع»[7]، إذ هو واحد يَجْمع كلَّ المرسلين ذوي القربى، علهم السلام، جاء عنه رسول الله، صلى الله عليه وآله: «بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين»[8]. وقد أخبر الله تعالى عن شهوده، صلى الله عليه وآله، بقوله تعالى: ﴿أَتى أَمرُ اللَّـهِ﴾ (النحل، 1).

         ولما كان ظهور أمر الله «مفَرَّقًا» آمَادًا ومفصَّلا سنواتٍ، كان من الضروري أن تستمرّ «ليلة القدر»، عليها السلام، إلى يوم الحساب:  ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرّوحِ ﴾، أي «العلم الذي يُحيي به القلوب»[9] مِن الكتاب المُبين (=البرنامج المفصّل) الذي يُحيي العالم: ﴿مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أَن أَنذِروا أَنَّهُ لا إِلـهَ إِلّا أَنا فَاتَّقونِ﴾ (النحل، 2). وهؤلاء «العِباد»، هم «ذوو القُربى» المعصومون، أي نَفْسُ الروح المحمّدي: ﴿أَنْفُسَنَا﴾ (سورة آل عمران، الآية 61).

         كان إنزال القرآن الكريم، ليلةَ القَدْرِ الأولى، الرئيسة، المهيمنةَ على كل ليلات القدر. فهذه الليلات هي في الحقيقة ليلة واحدة. فقد «أُنزلَ» مُجْمَلاً مستغرقا، ثمّ «يُفْرَق» الأمْر المكثف، ليلة قدر بعد ليلة قدر، أمدا بعد أمدٍ، وسنةً بعد سنةٍ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان، 4). ليُصبح الأمْرُ الجمعي، أمْرًا يَتْرى بعد أمْرٍ، حتى اكتمال الرحمة الإلهية، وطلوع فجر الأمد المهدوي.

         فليلة القدر المُجْمَلة، الرئيسة، هي «البِنْية المحمدية حال احتجابه عليه السلام في مقام القلب بعد الشهود الذاتي، لأن الإنزال لا يُمكن إلا في هذه البِنْية. والقدْر هو خطرهُ، عليه السلام، وشرفه، إذ لا يظهر قدره ولا يعرفه هو إلا فيها»[10]. وقد عظمها الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ!(القدر،2).

         وبعد «إنزال الأمر» الإلهي المشرّف للإنسان، سيكون «تَنَزّلهُ» «مفرّقًا»، أي يُصبح أمْرًا يَتْرى بعد أمْرٍ. فكلمة ﴿تَنَزَّلُ(=تتنزَّلُ) تفيد النزول المتواتر: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر، 4)، أي حتى اكتمال كلّ «الأمور» بنزول آخِرِ أمْرٍ محمديٍّ، أي الأَمْرُ المهدويُّ. وكل «أمر» دَوري، يحمل معرفة كل الأشياء ووجوداتها وصفاتها وخواصها وأحكامها وأحوالها وتدبيرها وتسخيرها[11]. فقد علَّم الله تعالى كل مُرْسَل ﴿الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا(البقرة،31)، والرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، و«أئمة القربى» المحمدية، عليهم السلام، يرون حركة الأُمَّة والعالَم: ﴿الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا(التوبة، 105)، فقد أرسلهم الله تعالى على حكمة وصوابٍ: ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ(الدخان، 5 و6). فرسول الله، المبعوث ﴿رحمةً للعالمين، يجب أن يَخْلُقَ اللهُ تعالى مِنْ نَفْسه، صلى الله عليه وآله،﴿مُرْسَلين من قَدْرِه الشريف، حتى تستمر الرحمة المحمدية حتى يوم القيامة. فرَحِمَنَا اللهُ تعالى بالمُرْسَلين المحمديين.

         ولذلك ينبغي أن لا نستعجل النتائج والانتصارات التي بشرت بها ليلة القدر المهيمنة، فظهورها، كما أراد الله الحكيم، سبحانه، يكون تفصيليا، وقد تحققت تلك النتائج العظمى بالليلة القدْرية الرئيسة: ﴿أَتى أَمرُ اللَّـهِ﴾ (النحل، 1). ولمّا كان ظهورها على التفصيل، بحيث لا تَكْتَمِل -كما نص سيدنا ابن عربي- «إلا بوجود المهدي عليه السلام، قال ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، لأن هذا ليس وقت ظهوره»[12].

         فلا بدّ من «الارتقاب» (الدخان، 10) أي «الانتظار» بمعانيه الجليلة. فقد جاء في آخر سورة الدخان القدْرية[13]: ﴿فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ﴾. وجاء في سورة النحل القَدْرية: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ﴾ (الدخان، 10). و«الدخان» هو أحد أشراط الانتصار المهدوي على «الجوْر» و«الكفر». قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: «بادِروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدجّال، والدخان، (وذكر كلمة أخرى – يعني الموت)، وأمر العامّة»[14]. و«الدخان» هو علامة تلك النار التي تنتقم من كل الجائرين في التاريخ البشري، ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى﴾ (الدخان، 16)، يوم انتصار الإمام المهدي عليه السلام وأصحابه ﴿عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء، 105). فستبقى ﴿الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ (القدر، 4) تتنزّل في كل ليلة قدر، على كل مُرْسَل في كل الآماد المحمدية ﴿رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ (الدخان، 6)، ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ من الأمور التفصيلية لأمر ليلة القَدْرِ المحمدية المهيمنة، سَلامًا بعد سلامٍ للبشرية وتحيةً من الله تعالى إلى الإنسان بعد تحية، حتى «طُلوع» المهدي عليه السلام من غيبته: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر، 3)، حتى ظهور الدين الحق على الدين كله نهائيا بوضوح.

  • الخصائص العامة لقرية النَّحْل: النَّحْلية واليَعْسُوبية:

 

         «القَرْيَة»: مِن «القَرْو» وهو تتبُّع أعيان جنس معيّن (مَوَاطِنُ أرض، أفْرادٌ، أثمانٌ…)، فتكون «القَرْيَة» في الاصطلاح القرآني هي النسق الاجتماعي الذي يُمكن وضعه ضمن جنس انتحالي-سياسي-معَاشي واحد. فأنطاكية سورة ياسين «مدينة» (= سلطة الدولة في الأصل العربي) تنتمي إلى «قرية» معيّنة، أي اجتماع خصوصي معين (سورة ياسين، الآية 13، والآية 20).

         ففي سورة ياسين نجد أن حاضرةَ أنطاكية، كانت في بداية مَسْرَدها «قَرْيَة»: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ﴾ (ياسين، 13)، بما هي النسق المُتَقَرِّي، أي النسق الاجتماعي. لكنها تصبح «مدينة» في آخر المَسرد: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ (ياسين، 20)، لأن السياق أصبح يتناول السلطة. فـ«المَدينة» في الأصل العربي هي الدَّوْلة، أو فضاء السلطة، أو الحِمَى ذو التحديد التواضعي أو القانوني.

         لقد قضى الله تعالى أن «القَرْية» (النسق الاجتماعي) إذا أرادت الاستمرار والنمو، فعليها أن تقيم «علاقة بين الاستقامة وتطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات ووفرة الإنتاج، وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الإنتاج»[15].

         أما إذا أرادت «الهلاك»، فإنها تجعل «المترفين»«أمراءها» فنشروا فيها «الفسق»، فيكون الدمار: ﴿وَإِذا أَرَدنا أَن نُهلِكَ قَريَةً أَمَرنا مُترَفيها فَفَسَقوا فيها فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرناها تَدميرًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 16).

         وإذا رأينا «سَكن» «القرية الرّومية» منذ ما أكثر من عشرين قرنا، قد نظن استعصاءها عن الدمار خاصة بتحالفها مع «السَّكن» الإسرائيلي ادعاءًا، ولكنّ سورة الإسراء تُعلن:﴿وَإِن مِن قَريَةٍ إِلّا نَحنُ مُهلِكوها قَبلَ يَومِ القِيامَةِ أَو مُعَذِّبوها عَذابًا شَديدًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 58). فلن تُغني الْقَرْيَة الرُّومِيَّةَ مَصَادِرُ قوتها الاستكبارية وتحالف«السكن» الصهيوني معها التي أسّستا كيان«إسرائيل» عام 1948م غ. ولقد كان تحالف القرية الرومية الاستكبارية مع قوة الدُّولة اليهودية، ضد الشعب النبوي أمرًا مبكرا، منذ الاحتلال الروماني، وتجسد – خاصة في الالتفاف على الثورة الزَّيْلُوتيّة السوريّة التي قادها «العيسى» (أي «المصْلح») ابن المَرْيَم(سيدة نساء مرحلتها) ضد الوجود الاحتلالي بالسلاح، وضدّ الانهيار الروحي-السَّدُومي والكَنْز المَعَاشي اليهوديَّيْن: «ما جئتُ لألقي سلامًا على الأرض، بل سيفًا ونَارًا» ضد المحتل (متَّى، 10: 34)؛ «مَنْ كان له ثوبان، فليُعْطِ مَنْ لا ثوبَ له، ومَنْ عِنده طعام فليشارك فيه الآخرين» (لوقَا، 3: 11)؛ «أنْ تدْخل الجمل في ثقب إبرة أيسر مِن أن يدخل الغنيّ مَلكوتَ الله» (لوقا، 18: 25).

         ولذلك كان اتفاق الطرفَيْن (الرومي الاستكباري والاستزلامي) على قَتْل الثائر الزّيلوتي، السوري: يَحيَى وقتل أبيه (زكرياء)، وعلى محاولة إعدام العيسى بن المَرْيَم الزّيلوتيّ. ومازال اتفاقها هذا مستمرًّا، على إعدام كل دعوة يحيوية (= إحيائية) وكل مقاومة زيلوتيّة-عَوْسيّة، وعلى التحريف البولسي[16]-اليهودي للعَوْسيّة، ذلك التحريف الذي جعل العَوْسِيَّة -المَرْيَمية بِنْتَ رومة في حين أنها بِنْتُ بيت المَقْدس، فأصبحت لغتها هي اللاتينية واليونانية عِوَض أن تبقى لغتها: اللغة العربية-السريانية المقدسة والأصيلة، وأصبح الإنجيل مترجَمًا إلى العربية من اللاتينية واليونانية عِوض أن يكون العكس، وأصبحت العَوْسِيّة مؤلِّهة للقيصر، ولم تعد زَيَلوتية، ثورية، وأصبحت ثالوثية-روحانية بعد أن كانت وَحدانية.

         إن الشيطان، لعنه الله، يصل أقصى مؤامراته على الإنسان بمشاركته في القرية الرومية-الإسرائيلية إعلاما وفَنًّا (=«صوتا») وقوة عسكرية (=«خَيْلاً» و«رِجْلاً») وأموالاً وسوادًا: ﴿وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكهُم فِي الأَموالِ وَالأَولادِ وَعِدهُم وَما يَعِدُهُمُ الشَّيطانُ إِلّا غُرورًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 64). فـ«تَتْرِيبُ» هذه القرية الأخيرة في الليل البشري ستكون على يد «العباد الصالحون»، ﴿عباد لنا، ولن تستطيع إفناءهم: ﴿إِنَّ عِبادي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكيلًا﴾ (الإسراء، 65)، فالعبودية لله تعالى، نِحْلَة تحميهم من سلطانها.

         مع سورة النحل، نلاحظ أن «التّقرّي» يقوم على «تجادل» الأنفس بالنسق الاجتماعي، وفي القيامة تَشهد الأنفس على ما كان في «تقرّيها» من «مجادلة»[17]: ﴿يَومَ تَأتي كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ عَن نَفسِها وَتُوَفّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت وَهُم لا يُظلَمونَ﴾ (النحل، 111). وتوضّح الآية الموالية أن «القرية» «السعيدة»، أي التي تكون ﴿آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ﴾ (النحل، 112)، إنما هي النسق  الاجتماعي الذي يُراعي «أنعم الله». و«نِعْمة الله»، هي نعمته الوجودية الخصوصية[18]، من نبوّة أو رسولية أو صِدّيقية أو شهيدية أو صالِحية، وأهمّ «أنعم الله» – طبعا- هو الروح المحمدية (ص): ﴿وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّـهِ فَأَذاقَهَا اللَّـهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ﴾ (النحل، 112). وتوضّح الآية الموالية أعظم تلك «الأنعم» زمن مكيّة النبي محمد (ص): ﴿وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمونَ﴾ (النحل، 113).

         فالمطلوب مِن أجْل بناء «قواعد» «قَرْية» هو «حَلاليّة» علاقات «التَّقَرِّي» و«الصلاة» على «نِعْمة الله»، بما تعنيه تلك الصلاة من «شُكرٍ» له متطلبات الطاعة العاقِلة[19]: ﴿فَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشكُروا نِعمَتَ اللَّـهِ إِن كُنتُم إِيّاهُ تَعبُدونَ﴾ (النحل، 114). فالإبْراهيم[20] هو « الإِمَّة » (=الأُمّة) أي المركزية الوجودية والسلوكية لكل قرية ﴿آمِنَةً مُطمَئِنَّةً﴾: ﴿إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ﴾ (النحل، 120).

         وتزيد الآية (115) في أول التنزيلات المدنية-اليثربية توضيح الخصوصية السياسية للقرية التي تكون ﴿آمِنَةً مُطمَئِنَّةً﴾: ﴿إِنَّما حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّـهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ (النحل، 115). وقد وضحنا في تدبر سورة المائدة (في آخرالتنزيلات القرآنية المدنية) خصائص النسق المَيْتِيّ والنسق السياسي الدَّمَويّ والنسق السياسي الخنزيري، والنسق السياسي الذي يُهِلُّ ﴿لِغَيرِ اللَّـهِ﴾ (النحل، 115). فمن المؤسف أن تَبدأ القرية الإسلامية «مُهَادِية»، أي مَهْدِيَّة وناشرةً للهُدى، وتنتهي إلى قرية «ظالِمة»، تعيش «الظلم» في علاقاتها الداخلية والخارجية: ﴿وَعَلَى الَّذينَ هادوا [ماضيًا] حَرَّمنا ما قَصَصنا عَلَيكَ مِن قَبلُ. وَما ظَلَمناهُم وَلـكِن كانوا أَنفُسَهُم يَظلِمونَ [حاضرًا] (النحل، 118).

         فـ«المجادلة» بالنسق الاجتماعي المحمدي(«قرية النحل») فعلا ينبغي أن تكون حِكْميّة، ومتحسّنة باستمرار: ﴿ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ﴾ (النحل، 125). وبذلك يستمر الاهتداء «مُهَاداةً» بإذن الله تعالى، بالامتلال المحمدي: ﴿مِلَّةَ إِبراهيمَ حَنيفًا﴾، وهو الإبراهيم الخاتم (ص).

         كما ينبغي على «القرية» المسلمة(التي ستتأسس بعد نزول سورة النحل) أن تجعل للبيئة «سَبْتا»:  ﴿إِنَّما جُعِلَ السَّبتُ عَلَى الَّذينَ اختَلَفوا فيهِ﴾ (النحل، 124)، حتى لا يكون ﴿ التَّكَاثُرُ  الذي «يُلهي» عن الخلافة: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، حتى زرتم الموت وهدّدتُم مصيركم بالانقراض: ﴿قَد مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى اللَّـهُ بُنيانَهُم مِنَ القَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتاهُمُ العَذابُ مِن حَيثُ لا يَشعُرونَ﴾ (النحل، 26). وبذلك تنهارُ «قواعد» «القرية» الظالمة[21].

         اجتماع «النحل» البشري واجتماع «النحل» الحيواني ليسا متطابقين، بل هما متماثلان استغراقيّا.

         فالإثنان اجتماعًا: «سَعْي» و«عمل» و«بناء» (الآيتان 67 و68).

         والإثنان قائمان على تراتب معقول، فهو ليس تراتبًا طغيانيا، وقائمان على التعاون والوظيفية، وقائمان على القانون المعقول، المثمر، المناسب. والإثنان قائمان على «الوجه الإلهي»، ومركزية «اليعسوب» و«الملكة»، وهي مركزية لا تكون اجتماعيا إذا لم يقم ﴿العَاملون  بما يجب عليهم من سعي معرفي وعِبادي وسياسي ومَعاشي.

         «النَّحل» هو الهِبَةُ والعطاء، وهو ما زاد على الفطرة «الساذجة»، مِنْ خصائص كوثرية، تَربُو في كل أمد مِنْ آماد الإمامات.

         سيكون اجتماع «النَّحْل»، كما هو مفترض ومطلوب من المؤمنين، أن يكون بداية بأمد «العَدْل»، وسيجسدونه بطاعة العقل المحمدي-العلوي (وعليّ، عليه السلام، هو «نفس» محمد صلى الله عليه وآله). بقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «وَيْحك مَنْ يعدل إنْ لم أعدل؟!». ولسنا في حاجة إلى تعداد أمثلة العدل المحمدي-العلوي، فهي مشهورة.

         وإذا كانت إرادة «المؤمنين» متطابقة مع ما يريده الله تعالى من المرحلة الأولى من «اجتماع النَّحْل»، سيكون مطلوبًا منهم أن يقيموا أمد «الإحسان»، بطاعة العقل الإحساني، أي العقل الحسني-الحسيني، وبذلك يصلون إلى أقصى درجات «العدل» التي لم يسمح العمران ان لسيدنا محمد، صلى الله عليه وآله، وسيدنا علي، عليه السلام، بالوصول إليها. فإذا عَصَوا العقل المحمدي-العلوي العَدْلي، وعرفوا نتائج خطئهم وتابوا، وأنقذوا أنفسهم بطاعة آخِرِ أهل الكساء، أي أهل «الإحسان» للمسلمين-التائبين، فيحسنُ الله إليهم بالعقل الحَسَني-الحسيني.

         فإذا أطاع المسلمون الحسنيْن، عليهما السلام، كان عليهم مواصلة طاعة «العَقل»، بـ«إيتاء ذي القربى» عليهم السلام، أي طاعة أرقى عقل بعد «العقل الكِسَائي»، وهو عَقْلُ  «ذي قُربى»، وهو الذي له القُربى الوجودية (الأنطولوجية) الأعلى من «العقل الكِسَائي»، وهو «إمام زمانٍ» (=إمام أَمَدٍ) يَتْرَى واحدًا بَعْد واحد. فهناك دائما «ذو قُربى» وحيد، مفترض الطاعة، ولا صلاح للمسلمين وللعالمين إلاّ بمعرفة معقوليته والتأسي بها، وإلا فبديله «الجاهلية»: «مَنْ لم يعرف إمام زمانه ماتَ ميتةً جاهلية». و«الجاهلية» هي نقيض «العاقلية» وإقامة العقل. فإذا عصى المسلمون «العقل الكِسَائي»، واكتشفوا مغبّة خطئهم، وتابوا بطاعة «ذي قُربى الأمَد»، تاب الله تعالى عليهم بتعويضهم عمَّا فاتهم بعصيان العقل/العقل، أي العقل الكامل، العقل المعصوم.

         بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى﴾ (النحل، 90).

         كلُّ أمة مَرْحلية، من الأمم المحمدية، لها ﴿شَهِيدٌ﴾ خاص. والشهيد على كل الشهداء الخاصّين هو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله: ﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم﴾ (النحل، 89)، أي مِنْ خالص فطرتهم، أي من غاية الكمال البشري في ذلك الأمَد أو ذاك. ويستطيع كل معاصِرٍ لذلك «الشهيد» المحمدي أن يكتشف كماله بسهولة وبداهة إذا اتصل به. ﴿وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هـؤُلاءِ﴾، على هؤلاء «الشهداء» عليهم السلام، لأنك المهيمن على هؤلاء الشهداء الأعظم: ﴿وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبيانًا لِكُلِّ شَيءٍ﴾، لكل «أمر» مِنْ «أمور» الآماد المحمدية: ﴿وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرى لِلمُسلِمينَ﴾ (النحل، 89).

       إنهم ﴿مِن أَنفُسِهِم﴾، أي مناسبين لمرحلتهم ولمشكلاتها الخصوصية، ولذلك يعرفونهم نعمةً من الله: ﴿يَعرِفونَ نِعمَتَ اللَّـهِ ثُمَّ يُنكِرونَها(النحل، 83)، وكل «ليلات قدْر» هذه النِّعم الإلهية الأعظم من كل النعم، هي « ليلة قدر» واحدة، وكل أمّاتهم هي منظومة أمة النبي صلى الله عليه وآله: ﴿وَيَومَ نَبعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهيدًا عَلَيهِم مِن أَنفُسِهِم وَجِئنا بِكَ شَهيدًا عَلى هـؤُلاءِ (…) إِنَّ اللَّـهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ. يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ(النحل، 89 و90)، ﴿إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(الأنبياء، 92).

    فالله تعالى يعظنا، دوريّا، بتواتر هؤلاء الشهداء، رحمةً منه إذ لم يشأ انقطاع السماء عن الأرض بالوفاة الطاهريّة لنبي الرحمة، ليستمرّ في«تذكيرنا» بما هو مركوز في فطرتنا بواسطة هؤلاء «المبعوثين» على رأس كل أمد من أماد سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله، خاصة وأنهم «من أنفسنا». فنحن سنتذكرهم باعتبارهم علامات فطرتنا، لأنهم مِنْ داخِلِنا. فأمتنا لن تكون  ﴿ وَاحِدَةً ﴾ إلا إذا توحّدنا على مودة ذوي القربى المعصومين، وإذا توحّدنا على سبيل ذي قربى أمَدنا ولم نتَّبع السبل الشيطانية: ﴿وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ﴾ (الأنعام، 153)، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد»[22].

         إن هؤلاء  ﴿المرسلين﴾  الذين أرسلهم محمد، عليهم السلام (كما أرسل سيدنا عيسى ثلاثة رسل إلى أنطاكيا) هم ﴿عَلاماتٍ﴾ البشر ولا هِداية لنا إلا بهم جميعا، عليهم السلام: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجمِ[محمد] هُم يَهتَدونَ(النحل، 16)، وقد أقسم الله تعالى بنجْمِهِ إذ «هواه»، صلى الله عليه وآله، فأحبّه الله تعالى، وشرط حبّ الناس لله تعالى بحب نَجْمِه: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ (النجم، 1)، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله (آل عمران، 31)[23].

         إن سبيل الله تعالى هو سبيل سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، وكل سبيل غير سبيله «جَوْر» وعمل «جائر»: ﴿وَعَلَى اللَّـهِ قَصدُ السَّبيلِ، وَمِنها جائِرٌ. وَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ(النحل، 9). لقد كان لعيسى عليه السلام ﴿مُرْسَلُونَ﴾ إلى مدينة أنطاكية (سورة يس، 13 و14)، فإن رُسُل سيدنا محمد صلى الله عليه وآله، إلى كل أُمَّات أمته، وإلى كل العالم. والله تعالى يطمئن رسول الله، ويبشره بانتصارهم: ﴿وَلَقَد بَعَثنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّـهَ وَاجتَنِبُوا الطّاغوتَ فَمِنهُم مَن هَدَى اللَّـهُ وَمِنهُم مَن حَقَّت عَلَيهِ الضَّلالَةُ. فَسيروا فِي الأَرضِ فَانظُروا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبينَ(النحل، 36). فمهمة الشهداء المحمديين التاريخية هي الإطاحة بالطاغوت تدريجيا حتى القضاء عليه نهائيا.

         وهؤلاء الشهداء هم ﴿رِجَالٌ﴾ أيْ مُشَاة[24] على السّبيل المحمدية، ودُعاةٌ لدين أفضل خلق الله تعالى، صلى الله عليه وآله، وسُعَاةٌ للخير، قَدْ «أَرْسَلَهُمْ» سبحانه وتعالى مِنْ ﴿قَبْلِ﴾ رسوله الأعظم، أي مِنْ قُرْبَاهُ[25] الأنطولوجية، ومن نفسه: ﴿وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ إِلّا رِجالًا نوحي إِلَيهِم﴾ (النحل، 43)، ليس وحيًا قرآنيا، وإنما وَحْي الإلهام والتسديد من رُوحِ ليلة القدْر المهيمنة. إنهم «أهل الذكر».

         و«الذِّكر» هو القرآن الكريم: ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ﴾ (النحل، 44)، ﴿فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمونَ(النحل، 43). فأهل الذكر هم أهل القرآن وأهل رسول الله الأعظم. وما داموا هُم نَفس رسول الله، ومِنْ قَبْله (من قُربَاهُ السامية) فينبغي أن نسألهم في كل أمَدٍ من آماد الرسالة المحمدية، لا أن نلجأ إلى غيرهم: ﴿وَما أَرسَلنا مِن قَبلِكَ إِلّا رِجالًا نوحي إِلَيهِم فَاسأَلوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمون،َ بِالبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ﴾ (النحل، 43 و44)، فلهم منطقٌ حِكْمي، هو الأفضل في تاريخ الحِكمة الإنسانية، ولهم زُبُرٌ (=مؤَلّفاتٌ) حِكْمِيّة هي الأعظم في زُبُرِ المعصومين (نهج البلاغة، الصحيفة السجادية، مصباح الشريعة، توحيد المفضّل، رسالة الحقوق…)[26].

         وذِكْر محمد، صلى الله عليه وآله، يُبين ما نُزِّل إلى الناس وخيرهم في تلك الزُّبُر العظيمة ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾ (النحل، 44). فعند ﴿أهل الذكر﴾، عليهم السلام، حقيقة الرسالة المحمدية في كل أمد من آمادِها، وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، ذَكَرَ النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، سنجد تِبيانًا لبيّناتهم وتأكيدا لصدقهم وأحقيتهم بحُكم الناس لقيادتهم نحو الخير والإطاحة بالطاغوت.

         إن رسول الله مطالبٌ بالقول، ﴿أَدعو إِلَى اللَّـهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني (يوسف، 108)، وهو المعصومون، ﴿أهل الذكر﴾، عليهم السلام «يُبْصِرون لا يُخطئون، كالمهدي عليهم السلام، فهو وارث آل محمد»[27]، وأتباعهم سيكونون بهم على بصيرة. وكل ﴿ذي قُربى﴾، عليه السلام، هو يُعسُوب المؤمنين في زمانه.

         وإن كانت السيدة فاطمة، عليها السلام، هي «ملكة النحل» الوحيدة أصالةً، «ملكة» المؤمنين إطلاقًا، فإن الله تعالى قد ادخر صُورًا لها. وأُخْرَاهُن، سيدتنا نرجس عليها السلام، فهي «مليكة الدنيا والآخرة»[28]، قد سماها الإمام الهادي «مليكة»، يشهد لها المؤمنُ: «وأشهد أنك مَضَيْتِ على بصيرة من أَمَرَكِ»[29]، ثم يدعو: «وثبتني على محبتها ولا تحرمني شفاعتها وشفاعة ولدها، وارزقني مرافقتها، واحشرني معها ومع ولدها»[30].

         ولقد كانت «الجدّة»، جدة سيدنا الإمام المهدي، عليهما السلام، سيدتنا سوسن، عليها السلام، «مليكة» على المؤمنين، إذ طلب منهم العودة إليها في ما يُشكل عليهم من أحكام شرعية.

         اجتماع النحل الحيواني والإنساني (=«القرية»[31]) هو اجتماع «التعاون» والتضامن و«العدل» (وضع كل شيء في مكانه الطبيعي) والتراتب العقلاني القائم على العدل («المليكة» و«يَعسُوب المؤمنين» و«العَامِلون» و«العاملات»). مكرِّسًا العدل بين الجنسين (تحريم «الوأد» بكل أنواعه) وبين الأعراق (تحريم استعباد البشر للبشر واستعباد الطبقة للطبقة)، وهو قرية «الشِّفاء» و«الرحمة» و«العالَمين»، عمومًا: ﴿يَخرُجُ مِن بُطونِها[=من مراتب درجات ناسها العرفانية] شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ[ بتنوع تلك البطون/الأوعية]. فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ [= فيه شفاء من كل أمراض البشرية التي رانت عليها قرونا]﴾.

      يوصي الله تعالى المؤمنين النَّحليين بأن يتخذوا بيوتهم ذلك «الشجر» النبوي(أي الأئمة الذين «تشجّروا» عن النبي، وأن يتخذوا «الجبال»[32] (أي العرفاء الأعظم الذين يعملون بأمر «ذلك الشجر») وكذلك «العروش»(= الدول) التي يبنونها بـ«ملة» هؤلاء «الشهداء»: ﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ﴾.

 

  • قرية الطاغوت: مشروع «وَأْد» قرية النَّحْل:

 

         تحذّر سورة النحل المهاجرين (والأنصار) من مغبّة «تَوْلية» أحد من ذوي «السَّوابق الجُرمية»، حتى إن كان من المؤمنين ومن المهاجرين. ففي كل دساتير العالَم، هناك اتفاق عُقلائي على استبعاد ذوي السَّوابق «العَدْلية»، لا انتقاصًا لهم، ولا ضِمْن نزعة غير عَدَالية أو غير تَسْوَوِيّة، وإنما احتياطا. فذوو السَّوابق الجُرمية ناسٌ مَرْضًى نفسيا، وليس من البَدَهي أن يكونوا قد استأصلوا بإيمانهم وتوبتهم الأفعالية الظاهرية كل ملامح المرض.

         ومن ناحية أخرى، من الأفضل، عَقْلا، أن تكون الولاية السياسية العليا لمن هو سليم، بل أسلم السّليمين، حتى نحقق بمشروعنا الاجتماعي الأفضل، لأهمية القيادة في التحقيق. وليس المريض محرومًا من كل الولايات، بل له الحق، في كثير من الولايات الأدنى (الوزارات، الولايات المحلية والجهوية، المشاركة أو الولاية المشتركة…)، بل ربما كان ذلك واجبًا عليه أحيانا: ﴿وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ﴾ (التوبة، 71).

         إن القتل جريمة خطيرة جدًّا، تخالف الفطرة الإنسانية، ومن أبرز مظاهر المرض النفسي، كما تؤكد دراسات علم نفس الجريمة. وتنبه سورة النحل أنه إذا كان القتل مُنْصَبّا على وَلد القاتل، كان المرض النفسي أخطر بكثير. ومن الضروري الاحتياط من القاتل، حتى وإن أعلن التوبة، ومن باب الاحتياط القانوني إبعاده عن أُبوّة الأمة والدولة، ففي كل لحظة يمكنه أن يَئد أبناءه/الرعايا، نُكوصًا إلى لحظة وأد الابن. يقول صاحب القرآن الكريم، فاطر الإنسان، سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدًّا وَهُوَ كَظيمٌ. يَتَوارى مِنَ القَومِ مِن سوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمسِكُهُ عَلى هونٍ أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ﴾ (النحل، 58 و59).

         ويَنصُّ الحكيم تعالى على أنَّ حُكْم هذا الرجل سيكون سيئا، بل الأسوأ في تواريخ الحكم: ﴿أَلا ساءَ ما يَحكُمونَ﴾ (النحل، 59). ولذلك فإن الحكيم، الذي لا يأمر إلاّ بِالْحَسَن /المعروف، يحرّم الحكم السيء وكذلك الحكيم تعالى يحرّم الحكم الأسوأ، وخاصة حكم قاتل وَلده[33].

إن الحكيم تعالى يحرّم عهدَ ولايته على ﴿الظَّالِمِينَ﴾: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة، 124). فالذين كانوا من ﴿الظَّالِمِينَ﴾ في تاريخهم الشخصي، ليس لهم حق في الولاية العليا، وعلى الأمة المؤمنة بالرسالة المحمدية أن تمنع تولّي ﴿الظَّالِمِينَ﴾، لأنَّ حِساب الاحتمالات في علم النفس ينص موضوعيا على أنه لن يكون إلا مؤسسًا لـ«الطاغوت». وإن الأمة ستظلم نفسها ظلما مبينا إذا وَلّت من مارسوا الظلم، وخاصة ظلم قتل الولد، فهو لن يستطيع أن يكون أبًا صالحًا للمجموعة الكبيرة لأنه لم يستطع أن يكون أبًا للمجموعة الصغيرة، فخالف الْعَقْدَ الفِطري ولذلك يستطيع مخالفة العقد الاجتماعي.

         إن مَنْ لم تُحرّك مشاعره طفلتُه الصغيرة وهو يحفر قبرها إذ تمسح عن جبهته العَرَق والتراب، وواصل الحفر ثم غدر بها ليرميها في القبر ويردمه بسرعة، لن يهمه أن يُسقِط جنينا ليس في بطنه، بل لن يهمه أن يؤسس لـ«وَأْدِ» المشروع المحمّدي، وأن يؤسس لـ«وَأْدِ» حفيده الحسين، عليه السلام، وأن يؤسس لـ«وَأْدِ» ابنته الوحيدة عليها السلام، ولـ«وَأْدِ» «يعسوب المؤمنين» الأكبر، ولـ«وَأْدِ» الحسن عليه السلام، ولـ«وَأْدِ» ﴿أهل الذكر﴾، «يعاسيب» المؤمنين في آمادهم، عليهم السلام.

         وقد خطب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته، وقالت: «يُغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابسًا ويخرج عابسًا»[34]. وهي كلها صفات جاهلية/طاغوتية. فإن كان عقله لم يُوصِلْهُ قبل إعلان الرسالة المحمدية إلى المبادئ البدهية في حقوق النساء، فلن يفهمها مطلقا. يقول الله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ (آل عمران، 93). فالعقل السليم، يمكنه أن يصل إلى المبادئ الرئيسة للدين، ليجد النص الديني متطابقا مع الفطرة. وأما إذا كانت الفطرة مُفْسَدَةً بالسوابق /الجرْمية، فلا يمكن للمرء أن يصل فيها إلى حكم الله تعالى.

         ولقد سمح الْعَدْوَانِي /العَدَوي لنفسه بإيذاء زوج النبي، صلى الله عليه وآله، وهو حي، فكيف لا يؤذي ابنتَه، وجسدُه تحت الثرى؟! لقد خرجت السيدة سودة بنت زمعة ليلاً لتقضي حاجتها، فآذاها بتجسسه قائلا: «قد عرفناك يا سودة!»، وكانت امرأة طويلة، فرجعتْ ولم تَقض الحاجة. وشكته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: «قد أذِنَ لكُنَّ أن تخرجن لحاجتكنّ». فأنكر القرآن الكريم هذا السلوك العدوي/الجاهلي: ﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ[35] فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ[36]. إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّـهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ. ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ﴾ (الأحزاب، 53). فقبل أن يسأل الرجل المرأة في الشارع، بـ«القرية» المسلمة،  عليه أن يراعي أمرين: اسدال «الحجاب» على الأجساد في الشارع و«طهارة القلوب».

         إن العدوي/العدواني ضد القرار الإلهيّ في مشاركة المؤمنات في «الولاية المشتركة»: ﴿وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعضٍ﴾ (التوبة، 71)، بل ضدّ مشاركة النساء في الأمر الإلهي للمسلمين بالانخراط في كلّ ﴿أَمْرٍ جَامِعٍ ﴾(النور، 62)[37]. ولذلك منع «الولاية المشتركة» عندما أصبح خليفة؛ وقمع زوجته عاتكة من الذهاب إلى المسجد، فخرجت سرّا إلى الرسول الأكرم لتشكوه بمخالفته للقانون القرآني وارتكاسه إلى القانون «الجاهلي» فقال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله».

         إن اتخاذ مُجملِ الأُمّةِ العدوانيَّ/العَدَويَّ «مَثلاً»، أي «تأسيسًا تاريخيا» هو ﴿مَثَلُ السَّوْء﴾. أمّا وليُّ رسولِ الله، صلى الله عليه وآله، المفترَض، فهو ﴿لله﴾، وهو ﴿المَثَلُ الأَعْلَى﴾ بعد حبيب ﴿النَّجْم إِذَا هَوَى﴾: ﴿بِالآخِرَةِ﴾(النحل، 60)، وهي لحظة انتصار « أهل الذكر » الحاسم، النهائي[38]، ﴿وَلِلَّـهِ المَثَلُ الأَعلى وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾ (النحل، 60).

         الإسلام يجُبُّ ما قبْلَهُ، ولكل مسلم ما لكل مسلم، وعليه ما عليه. ولكن «الولاية» ممنوعة عليه (النحل، 59) وكذلك «الشهادة»[39] (وهي دون الولاية) ممنوعان على كل من كانت له سوابق عَدْلية كالقتل (وأد أنثى) والعنف (صفعُ أختٍ) والربا في مهنة الدلالة، علاوةً على أنه لا يملك ﴿عِلْم الكِتَابِ﴾ (الرّعد، 43).

         إنّ صفع الأخت هو عدوانيّةٌ/عَدَوِيَّةٌ، يصدر عن مرض نفسيّ، وإذا كان دون جريرة جَنتْها يسمح إذا تولَّى الصافع، (أو بالأحْرَى: إذا مكّنه المسلمون من «التولّي»)، بالاعتداء على باب أعظم امرأة في التاريخ، ومن دخول دارها عنوةً وإرعابها، وحَرْق باب دارها، وربما كسر ضلعها وإسقاط جنينها.

         إن الذي يعترف: «والله إن كنا في الجاهلية ما نُعِدّ للنساء أمرا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقَسَّم لهن ما قسم»[40]، هو نفسه الذي يريدُ «تعديلَ» أمْرِ الله فبهن؛ ولم يتغيّر جذريا تجاههُنَّ. لقد خطب أمَّ كلثوم بنت عتيق التَّيْميّة، وهي صغيرة، وأرسل فيها إلى عائشة، فقالت لمّا توسّطت لها فيه: «لا حاجة لي فيه!». فقالت لها عائشة: «أترغبين عن أمير المؤمنين؟!». فقالت: «نعم إنه خَشِنُ العيش، شديدٌ على النساء»[41].

         لقد كان ضدّ الحريات والمشاركة، وخاصة ما همّت النساء. وليس صحيحا أنه جعل صاحبة الرُّقية، العَدَويّة: الشَّفّاء بنت عبد الله بن عبد شمس، قريبته، «محتسبة» على السُّوق، فصاحب الخبر هو صاحب الإصابة في معرِفة الصحابة قد قال: «وربّما ولاّها [الخليفة العدوي] شيئا من أمر السُّوق»[42]. فهو غير متأكد، وحتى إن كان فهو شيء جزئي جدًّا، لم يحدّده. فمحتسب سوق المدينة في الحقيقة هو ابنها سليمان، فالعَدويُّ الخليفة عَيَّن العَدَويَّ محتسبا على مركز المدينة، أي عيّن جاسوسًا، ورأسًا لجهاز استخبارات العاصمة، وكانت أمه تساعده بأن تُراقب النساء القادمات إلى السوق من داخل المدينة ومن خارجها. وكان انتحالها «الرُّقيةَ بالنَّملة»[43]، ضمن المسعى العَدَوي لـ«وأدِ» «مِلّة» «قرية النَّحْل»، فالفارق كبير بين «نَمْل الإخلاد» إلى الأرض و«نحل السماء» الواسعة والعطاء غير المجذوذ، والفارق كبير بين «الرُّقْية» وبين «الحكمة النبوية»، فالرقية «الجاهلية»[44] تريد أن تستبدِل «العاقلية المحمدية-العلوية».

        كان العدوي في خلافته(بل حتى أثناء حياة الرسول) يمارس مواقف تلغي صاحب السيادة الدينية العليا، مقيما سيادة دينية موازية.

         فالعَدَوي يؤكد لابن عبّاس: «لقد كرهت قريش أن تجمع هاشم الإمامة إلى النبوة»[45]، وستكون رُقْيَة الشّفاء ضمن مسعى الاستخلاف العدوي للميراث المحمدي. ولقد بقيت تدعو له حتى بعد وفاته، ملخصة خصاله التي يتفوق بها على الآخرين بقولها: «كان الله إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقا»[46]. فهل الضرب الموجع منقبة وقد كان القدوة ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ وهل سرعة المشي منقبة وقد قال تعالى ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ ؟!! وقد نسب عقبة بن عامر إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله «لو كان بعدي نبي لكان (…)»[47]، وهو أمر لم يقله رسول الله، صلى الله عليه وآله في الإمام علي، عليه السلام: «أنتَ مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».

         الشهوة الاسْتِنْبائية لدى العدوي، بمعنى شهوة أن يكون متبوعًا، كانت موجودة دائما في سلوكه. فقد رفض صلح الحديبية وأعلن تمرّده عليه، وكذلك في أثناء حُكمه: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء»[48] والتصرف في الآذان، وإحداث صلاة التراويح وتدخله في مسألة الطلاق، واشتراط التوارث بين الإخوة والأخوات أن يكون الموروث منهم ولد، وتزويج زوج المفقود، والتطوع بركعتين بعد العصر، وتأخير مقام إبراهيم عن موضعه، ونهيه عن البكاء على الموتى عكس ما نص رسول الله، ولَمْزُهُ الرسول، صلى الله عليه وآله، في الصدقات، كما ذكر أحمد بن حنبل، ولم ينته عن الخمر إلا في المورد القرآني الثالث في ذكرها[49]، [فهل يجوز تولية شارب خمر سابقا  وقاتل ابنته حية أعلى مناصب الولاية السياسية في الإسلام؟!]، وقد فرّ في الزحف عديد المرات (أحد، حنين، بعث أسامة…)، وأراد تشريع مهور النساء، ودرأ الحد عن المغيرة بن شعبة، وقطع شجرة الحديبية [لِقَطع ذاكرة المسلمين في تمرده عل رسول الله، صلى الله عليه وآله].

        وقد ألغى «صحيفةَ» الرسولِ (دستوره)، وكان حكمه فردانيا، وليس فيه «شورى» ولا مجالس دستورية، وكان من عنفه وتسلطه حمله الدِّرّة، وهي بِدْعة. ومن حبه للسلطة، أنه أصبح منذ تأمّره يسهو في الصلاة[50]. ولقد كانت أكثرية المسلمين لا تحب أن يصبح خليفة، ولكنه دعا الله أن يصبح محبوبًا لديها[51]، وهذا عجيب، ولا يعني إلا شهوة السلطة المفرط.       وقد لخصته السيدة عائشة، وهي من أنصاره بقوله: «كان أحْوَذيًّا، إلا أن فيه نِفارًا»[52]، أي هو ذو تخطيط قصير المدى، وهو خشن عنيف، فليس في ما شخصته السيدة عائشة أي مَنقبة. قالت له النساء زمن الرسول (ص) إذْ لم يَهَبْنَ الرسولَ(ص) وَ هِبنه: «أنت أفظ و أغلظ»[53].

   وفي الحقيقة، فإنَّ اختياره السكن في حيّ يهودي (حي بالعوالي) وحضوره الأسبوعي طقسهم الديني، مما يقتضي منه عدم الحضور لخطبة الرسول الجُمُعية مرتين في الشهر(«كنا نتناوب النزول على رسول الله، ينزل يوما وأنزل يوما»[54]). واقتناءَه لنصهم المقدس (رغم نهي الرسول(ص) له عن ذلك عديد المرات)، له تأثير في ذلك التوجه الاستنبائي والتمردي، حتى قال رسول الله (ص): «أَمُتَهَوِّكُونَ يا ابن الخطاب؟»[55]. وذلك مدلوله: «أمُتَحَيِّرونَ أنتم في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود؟(…). وقيل: معناه أمُتَرَدِّدُونَ ساقطون؟ وإنه لمُتَهَوِّكٌ لما هو فيه أي يركب الذنوب والخطايا. الجوهري: (…) التَّهَوُّر، وهو الوقوع في الشيء بقلة مُبالاة وغير رَوِيَّةٍ. (…). ابن الأَعرابي: الأَهْكاء: المُتَحيرون، وهاكاه إذا استصغر عقله. والمُتَهَوِّك: الذي يقع في كل أَمر»[56]. لقد أدى الأمر إلى أن قال الصاحب: « إني مررت باخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة»[57]، « إن أهل الكتاب يحدثوننا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا»[58].

        إن «أحوذيته» قد أضرت على المدى القصير وعلى المدى الطويل، لولا المسعى الامتصاصي الذي قام به أئمة أهل البيت عليهم السلام: ﴿لِيَحمِلوا [ الأحوذيون] أَوزارَهُم كامِلَةً يَومَ القِيامَةِ وَمِن أَوزارِ الَّذينَ يُضِلّونَهُم بِغَيرِ عِلمٍ. أَلا ساءَ ما يَزِرونَ. قَد مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى اللَّـهُ بُنيانَهُم مِنَ القَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم، وَأَتاهُمُ العَذابُ مِن حَيثُ لا يَشعُرونَ﴾ (النحل، 25 و26). فسورة النحل تنبّه أن تولية «وائدي» أولادهم تعني تولية من «يتنبّأ» لـ«يئِد» مشروع النبي محمد صلى الله عليه وآله. فهو يتهم من يطيع النبي بعبادته، ويعتبر وفاته الظاهرية موتا: «من كان يعيد محمدا فإن محمدا قد مات!». وذلك ما سهّل الإعلان الأموي في ما بعد: «لا وحْي نزل»، بل مجرد لعبة سلطان ومُلْك.

         إنهم ﴿يَعرِفونَ نِعمَتَ اللَّـهِ ثُمَّ يُنكِرونَها﴾ (النحل، 83)، إذ يُبَخْبِخُونَ لها ثم يحاولون وَأدها. ولقد وسوس العَدَوي لكبار المسلمين، وخاصة للتيمي، وهنا كانت الطامة الكبرى، أي الانقلاب على الأعقاب: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا. لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً. وَقَالَ الرَّسُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان، 27- 30). ولم يَكن عقاب الأمة فوريّا كالأقوام السابقة، بل على مراحِل حتى بلوغ الأوج: ﴿وَلـكِن يُؤَخِّرُهُم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ (النحل، 61)[59].

         لقد ﴿هَادُوا﴾ في لحظة مِنْ حياتهم، إذ سكن العدوي مع التيمي في العوالي بحي من اليهود. فقد تركا مجاورة النبي في قلب المدينة، واختارا العوالي التي كانت «جل سكنى اليهود»، وخاصة بني قريظة[60] فكان غَشْيُه مَدارس اليهود أكثر من غَشْيِه مجالس رسول الله (ص)، لبعد المسافة، رغم أن الرسول(ص) نهاه عن ذلك عديد المرات. وذلك حتى قال اليهود: «إنه ليس من أصحابك أحد أكثر اتيانا منك»[61]. فغضب الرسول (ص) من تكرار ذلك، لما تفطن أنه يحمل صفحات من توراتهم، قائلا: «أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي؟»[62]. ولما أصبح « متوليا»، قرب إليه كعب أحبار يهود اليمن طالبا منه التدريس في المسجد النبوي، بينما كان يحظرعلى الصحابة رواية الحديث النبوي والتدريس بالمسجد، حتى صار ذلك الحبر الأعظم مرجعا للمسلمين في تفسير القرآن الكريم ورواية الأحاديث النبوية. ورغم أن الوثيقة العمرية مع عالم الدين النصراني الفلسطيني(صفرونيوس) تحظر على اليهود سكنى القدس، إلا أنه سمح لهم بأن يسكنوا فيها لأول مرة بعد خمسة قرون من الطرد «الرومي»، مخصصا لهم موضعا للصلاة هناك. وقد أورد الطبري أن كعب الأحبار بشره بأنه حسب توراته سيكون حاكم فلسطين. ولذلك نعته أحد « المَدْراشيم» في العهد الأموي: «صديق إسرائيل»، وكانت النصوص التأريخية اليهودية منذ فتح القدس إيجابية مع الخليفة[63].

     ولكنَّهم بـ«مهاداتهم» ﴿كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل، 118). وذلك بإقصائهم «اليَعسُوب» وإقصائهم «المَلِكةَ» الوحيدة للقرية النِّحْلية المحمدية ودخولهم «القرى» (= الأنساق) السياسية: «المَيْتِيّة» و«الدّمَوية» و«الخِنْزيرية»[64]، بتحليلهم ما حرَّم الله. وذلك ما يجعل «بُنْيَانَهم» «القَرَويّ» في حالة انهيار منذ تأسيسه: ﴿قَد مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَأَتَى اللَّـهُ بُنيانَهُم [نسقهم الاجتماعيّ، «قرْيتَهم»] مِنَ القَواعِدِ، فَخَرَّ عَلَيهِمُ السَّقفُ مِن فَوقِهِم وَأَتاهُمُ العَذابُ مِن حَيثُ لا يَشعُرونَ﴾ (النحل، 26). فلم يضطهد حلفاء الخليفة (بنو أمية) أهلَ البيت النبوي فحسب، بل تمادوا ليضطهدوا الجميع مقصين كل العدويين.

وهذا ما يذكر بإقصاء هارون عند غيبة موسى بن عمران: ﴿ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى﴾ (سورة الأعراف، الآية 150).

     تحذر سورة النحل «المُهاجِرية» و «الصاحبية» عموما من نقضهما ما غزلتا منذ لحظة الهجرة النبوية: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا: تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ، أَن تَكُونَ أُمَّةٌ[هي أمة المهاجرين أو أمة الأنصار] هِيَ أَرۡبَى [=أفضل] مِنۡ أُمَّةٍۚ. إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦ[يختبركم باستمرار مجاهدة النفس التي تريد السلطة].ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ [مع يَعسوب المؤمنين ومع ملكة النحل]﴾(الآية 92).

 

 4 ـــــ ﴿غار الهجرة و﴿مغارات النفاق: حتى إن تركتم الرسولَ (ونَفْسَه) وحده سينصره الله تعالى:

 

 

 ﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ: إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ، ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ، إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا. فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ ، وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا. وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا. وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

 

 

       حسب هذه الآية كانت «صاحبية» لحظة الغار غير«مناصرة» للرسولية. ولذلك كان الله تعالى ثانيا(وهو الأول في نفس الوقت) [65] بالنسبة إلى الرسول، ولم يكن ـــ عملياـــ ثالثا(رغم أن الله تعالى هو ثالث موضوعيا)، لأن «الصاحبية» كانت آنئذ سلبية. ولذلك كان النهي النبوي على سلبية «الحزن». ولذلك لم تكن «السكينة» نازلة على طرفي «الغار» الفيزيقي ، بل على الكيان الرسولي فقط: ﴿فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ﴾. وذلك على عكس حالة الحُنَيْنِيِّين إذ أنزل عليهم «السكينة» بالحضور الرسولي: ﴿ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة، الآية 26).

     كما أن «الإخراج» (حسب هذه الآية) لم يكن للصاحبية، بل كان للرسولية فحسب: ﴿ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾، فلم تكن هناك ضغوط واضحة على هذه «الصاحبية» المختصة في تجارة الملابس دون أي تهميش من النسق المعاشي المكي، بينما كانت الإكراهات الإخراجية نتيجة التهديد بالقتل منصبَّة على الكيان الرسولي. ولذلك لم تستعمل هذه «الصاحبية» حدث «الغار» الفيزيفي آداة للاحتجاج من أجل «التولي».

         إن كثرة استئذان هذا «الصاحب»  أثناء استعداد أسامة بن زيد، رضوان الله عليهما، للخروج، فيتذرع بزوجاته وبضيعته في السِّنْح بالعوالي، إنما يعبّر عن «اثِّقال» إلى الأرض، ولكنّ مُدَّة تولّيه ستكون قصيرة جدًّا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا ما لَكُم إِذا قيلَ لَكُمُ انفِروا في سَبيلِ اللَّـهِ اثّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضيتُم بِالحَياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَليلٌ(التوبة، 38). ومن الأكيد أن ذلك تكرارا لاستئذانات أثناء طلب الرسول (ص) من الاصحاب الهجرة.

         وهذا «الاستئذان» يعكس ارتيابًا وتربّصا بخلافة رسول الله، صلى الله عليه وآله: ﴿لا يَستَأذِنُكَ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ أَن يُجاهِدوا بِأَموالِهِم وَأَنفُسِهِم وَاللَّـهُ عَليمٌ بِالمُتَّقينَ (44) إِنَّما يَستَأذِنُكَ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَارتابَت قُلوبُهُم فَهُم في رَيبِهِم يَتَرَدَّدونَ (45)(التوبة). ولقد زار يومًا ابنتَهُ، فوجدها تتلَقَى رُقْيَةً من امرأة يهودية، فأجَازَ فِعْلها، وقال: «اِرْقِيها بكتاب الله!»[66]، أي بِتَوْراتِها، وذهب في حال سبيله، دون أن يتأكد من مضمون فعلها. بينما كان رسول الله موجودًا، في دارها، من حقه هو أن يَرْقِيها: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ (البقرة، 61).

         كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، يخرج كل يوم، رغم إجهاد المرض، مشددًا على خروج جيش أسامة، وفيه كل كبار الاصحاب، ليبعدهم عن «المغارات» و«الانقلاب على الأعقاب» إن مات، ويغضب لطعنهم في الأمير: «إن تَطْعَنُوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيْم الله إنه كان لخليقا بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة». ولكنهم رأوا غير ما رأى محمد (ص)، فأمَّرُوا يزيد بن أبي سفيان. ثم يقول: «أنفذوا جيش أسامة!. لعن الله من تخلف عن جيش أسامة!»، يعيدها ويكرّرها[67]. فأسامة أفضل منهم للإمارة، بينما هم يتربصون الموتَ للنبي الكريم (ص) لتوليها.

        لقد «قَلَبَ» الصاحب وجمهوره الأمورَ ﴿وَيَتَوَلَّوْا﴾ السلطةَ السياسيةَ واحدًا واحدًا ﴿وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ (التوبة، 50)، بعد أن استعملوا «سَمّاعيهم» (=جواسيسهم) في تثبيط جيش أسامة وتأخير خروجه متربّصين بأهل البيت وبنظام الصحيفة (الدستور) الشريفة: ﴿يَبغونَكُمُ الفِتنَةَ وَفيكُم سَمّاعونَ لَهُم وَاللَّـهُ عَليمٌ بِالظّالِمينَ (47) لَقَدِ ابتَغَوُا الفِتنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبوا لَكَ الأُمورَ، حَتّى جاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمرُ[68] اللَّـهِ، وَهُم كارِهونَ(48)(التوبة).

         فقد ظهرت «الولاية» الدينية والسياسية لـ«يَعسوب» «قرية النحل» المفترضة ، عليه السلام، وهي أمر الله الذي أراده وفي ذلك حكمة اجتماعية – تاريخية واضحة، وهم «كارهون» لها. وقد كان أمْرُ عليّ، عليه السلام، محلّ تلاعب و«تنْسِئة»[69]: فيتعللون عامًا بأنهم «كرهوا جَمْعَ هاشِم للنبوة والسياسة»، وبأنهم يرون عليّا صغير السن (كأن المسألة قَبَلِيَّةً وجِيلِيَّةً)، أو «ذا فكاهة لا تليق بالأمر»؛ وعامًا بأنه لم يُرد الالتزام بسُنّتَيْ الشهرين المَغَارِيَّيْنِ الأوَّلًيْن، رغم أن هاتين السُّنّتين لم يأت بهما قرآن ولا سنة نبوية ولا عقل. وبهذه «التنسئة» يتراكم تكفيرُ المشروع المحمدي الأصيل، أي إهالة رُكامات الانحراف عليه: ﴿إِنَّمَا النَّسيءُ زِيادَةٌ فِي الكُفرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذينَ كَفَروا يُحِلّونَهُ عامًا [فيستشيرون الإمام في هذه المسألة أو تلك، عسكريا وقضائيا ومعاشيا وتدبيريا]، وَيُحَرِّمونَهُ عامًا [ويُهملون موقفه في هذا الأمر أو ذاك] لِيُواطِئوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّـهُ [فتكون مواطأةُ حَرَم أهل الكساء بإهانتهم ثم قتلهم واحدًا بعد آخر، وقد دُشن ذلك بخذلان صاحب المغارة أوَّل مرة]. فَيُحِلّوا ما حَرَّمَ اللَّـهُ. زُيِّنَ لَهُم سوءُ أَعمالِهِم وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الكافِرينَ(التوبة، 37). فقد برّروا عملهم وزيّنوه لأنفسهم وللناس، وبذلك سيحملون ﴿أَوْزَارًا عَلَى أَوْزَارِهِمْ﴾، طِيلَةَ التاريخ الدِّكتاتورِيِّ الآتي للمسلمين.

        إن إمكانية تحوّل «الصاحبية»  من «غار» الرسول، صلى الله عليه وآله، أي كهف أهل البيت، عليهم السلام، الحريز، الآمن، إلى «مَغارات»، إمكانية واردة، إذا لم «يُكلِّبْ»[70] المسلم نفسه. و«الجُموح» (بضمّ الجيم) خروج المسلم من غار رسول الله صلى الله عليه وآله إلى عصبية الهوى والقبلية دون طَرْدٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو الرحيم، الرؤوف بأصحابه، لا يُطردهم حتى إن فعلوا الأفعال القبيحة[71]، راجيا دائما توبتهم وأوْبتهم إلى «غاره» الوسيع المريح. أمَّا «الجَمُوح» (بفتح الجيم)، فهو «الذي يركب هواهُ فلا يُمكن رده»[72]، إذ هو من قوم ﴿يَفرَقونَ﴾ (التوبة، 56).

        إن مَقْطع «الغار» و«المغارات» في سورة التوبة يبدأ بتأكيد عِدَّة «الشهور»[73]، أي «العلماء» المعصومين، وهي إثني عشر، وأن منها «أربعة حُرُم» (علي، الحسن، الحسين، المهدي، عليهم السلام)، أي أعظم مقامًا في مقاماتهم العُظمى. فينبغي للمسلم أن لا يظلم نفسه بمخالفتهم وإيذائهم ومحاربتهم، لأنهم روح السماوات والأرض. وذلك ينبغي لكل مَنْ يرى نفسه داخل «غار» رسول الله صلى الله عليه وآله الدَّائم إلى يوم القيامة، أي كهف أهل البيت عليهم السلام («ولَنْ يَفْتَرِقَا حتى يرِدَا عليَّ الحَوْض: كتاب الله وعترتي»[74])، أن يحافظ على وحدة الأمة ولا يشقّ وحدتها بالانقلاب على «الشهور» الإثني عشر، عليهم السلام: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِندَ اللَّـهِ اثنا عَشَرَ شَهرًا في كِتابِ اللَّـهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ. ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ فَلا تَظلِموا فيهِنَّ [في السموات والأرض التي تَنْصُرُ الشهور الإثني عشر على مَنْ انقلب عليهم] وَقاتِلُوا المُشرِكينَ كافَّةً كَما يُقاتِلونَكُم كافَّةً. وَاعلَموا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقينَ(التوبة،36).

        إن «اللجوء» إلى «المغارات»، أي إلى غير ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، أي صِراط ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ و﴿الضَّالِّينَ﴾، سيؤدي إلى أن لا يكون الله معنا، أي معية التأييد والنصرة (وإن كان معنا بمعية الوجود الموضوعي)، فلن يكون الله تعالى ثالث الصاحب مع رسول الله[75]، صلى الله عليه وآله، فهو ثانٍ فقط، أي ثاني رسول الله فحسب: ﴿ثانِيَ اثنَينِ﴾ (التوبة، 40)، وبذلك كانت هذه «الصاحبية» في «الغار» المادّيّ، وليس في «الغار» المَلَكوتيِّ لرسول الله، صلى الله عليه وآله. فلقد اختارت هذه  «الصاحبية» أنْ تكون في «الغار» المُلْكيّ فيزيائيا وفي «المَغارَة» الضِّراريّة/المُوازية بالآن نفسه، أي خارج «الغار» الملكوتي/الحقيقي.

        ثم يواصل المَقْطع في التحذير من «تنسئة» أمير المؤمنين، وأهل البيت عليهم السلام (كتنسئة المأمون للإمام الرضا عليه السلام)، ثم يدعو «صاحب» «الغار» المادي إلى النفور مع جيش أسامة، رضوان الله عليه، ونصرةِ نَفْسِ رسول الله، صلى الله عليه وآله، أي الإمام علي، عليه السلام (الآيتان 38 و39). ويذكّره بأن حزنه وندمه على التفكير في «غار» رسول الله، صلى الله عليه وآله، تاركًا «مُدْخل» قريش، جعلا رسول الله يفقد لحظتها «ناصرًا» من «الصاحبية»، ولكن الله تعالى أيّده ﴿بِجُنُودٍكثيرين عِوَضها، وكانت كلمته، سبحانه، هي ﴿العليا (الآية 40).

        ثم تأتي الآية 48 لتبشر الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله، أن ولاية الإمام علي، عليه السلام، لن تَطْمُرَها «المغارات» الشيطانية، بل سيظهر أمْرُها (السياسي) رغم كراهة الانقلابيين/التنسئيين لها. وأنّ ازدواج القيادة العلوية لتوسط العالم، كانت بأنْ راهَنَ الانقلابيون، فإن كانت مصيبة الانكسار أمام الطاغوت الرومي وتحالفه العربي وكذلك الطاغوت الساساني، سيقولون: ﴿قَد أَخَذنا أَمرَنا مِن قَبلُ، وَيَتَوَلَّوا [= يغتصبون الوِلايَة] وَهُم فَرِحونَ [بالسلطة](التوبة، 50)، أي إن الأمر السياسي بأيدينا، وهذه الهزيمة لن تضرّ إلاّ بأنصار الإمام علي، أي بالقيادة الميدانية للفتح التوسُّطي للعالم[76] ، فتُدمَّر تلك القيادة الميدانية على الحدود ويُرَسِّخون فرِحين توليهم السياسي إلى الأبد، حَسَبَ سَوْقِهم الشيطاني.

        ومن هذه «المغارات»، «المغارة» اليهودية. ففي الوقت الذي يُمزّق فيه «المُتَهَوِّكون» أوراقا عديدة من السنة النبوية بتعلات واهية، ويحرّمون الرواية منها بتعلات واهية أيضا، يقرّبون كعب الأحبار ووهب بن منبّه وتميم الداري من الحاخامية اليهودية باليمن. وهذه «الصاحبية» التيمية تعود إلى «نبوءة» كاهنيْن يمانيَّيْن، إذ روى البخاري عن جرير بن عبد الله البجلي (الصحابي) أن التيمي طلب منه أن يأتي له «بِهِمْ» [وليس «بهما» تعْظيمًا لهما]، فقد قال أحدهما لجرير: «إنكم معشر العرب لن تزالوا ما كنتم إذا ملك أمير تأمرتم في آخره»[77]. فالرسول عندهم «أمير» وخلفه «أمير»، وهي «نبوءة» تجعل إمارةَ التيمي مشروعة بفضل «النبوءة»-«الجاهلية» الكاهِنيّة الكاذبة.

     تؤكد سورة النحل أن الهجرة تكون مَنْقبة إذا أعقبتها «الصاحبيةُ» بالمجاهدات («الجهاد الأصغر»  و«الجهاد الأكبر») والصبر: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ110﴾﴾. فمن الضروري أن تَفِيَ «الصاحبيةُ» بعهودها مع «الرسولية»: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ[العقبة، الغدير…] وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ. إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ(92).

 5 ـــ الهجرة: مرحلة جديدة في الإنسان الأكمل:

ــــ ﴿يسٓ« ياسين»: هو «إنسان» في اللغة العربية ـــ السُّريانية. أي إنك «الإنسان بما هو إنسان»،  «الإنسان» خالصا، «الإنسان» فعلا، أي إنك «الإنسان الكامل» أو«الإنسان الأكمل»، دون «سبُعية»  ولا «شيطانية». وقد كانت التسمية باللغة العربية ــــ السُّريانية لأن الرسول يرى بعيدا بإذن الله تعالى(﴿وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ ﴾)   ويعرف أن نهاية المعركة مع «السفيانية» ستكون في البلاد  العربية ــــ السريانية مع (﴿إِمَامٍۢ مُّبِينٍۢ﴾)،  هو الإمام المهدي (ع).

ــــــ أُقْسِمُ ﴿ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيم الذي هو الكمال الأكمل المناسب لاستعداداته، على أنه ﴿لمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ، مرة أخرى، في مرحلة أخرى تبتدئ بهذه الهجرة المباركة.

ــــــ ﴿ ٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ  «هو صورة كمالها الجامع لجميع الكمالات المشتمل على جميع الحكم» النبوية منذ آدم. « أي: القرآن الشامل للحكمة الذي هو صورة كمال استعدادك تنزيل بإظهاره مفصلا من مكمن الجمع على مظهرك ليكون فرقانا من العزيز الغالب الذي غلب على أنائيتك وصفات نشأتك وقهرها بقوته لئلا تظهر وتمنع ظهور القرآن المكنون في غيبك على مظهر قلبك وصيرورته فرقانا».
ـــــــ ﴿ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (3) عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ : ستبدأ بهذه الهجرة دورتك الرسالية العالمية بصراطك المستقيم الذي يبتدئ بك وينتهي، إذ يعقبك إثنا عشر «مرسلا» تحت هيمنتك المِلِّيَّة(مثلما كان للمسيح (ع) ثلاثة «رسل» إلى أنطاكية).

ـــــ ﴿  تَنزِيلَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ «الذي أظهره عليك بتجليات صفاته الكمالية بأسرها».
ـــــ ﴿ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا«بلغوا في كمال استعدادهم ما لم يبلغ آباؤهم فما أنذروا بما أنذرتم به».

ــــــ ﴿فَهُمۡ غَٰفِلُونَ«عما أوتي إليهم من الاستعداد البالغ حدا لم يبلغه استعداد أحد من الأمم السابقة».
ــــ ﴿لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ « في القضاء السابق بأنهم أشقياء ». ﴿فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ «لأنه إذا قويت الاستعدادات عند ظهورك قوي الأشقياء في الشر كما قوي السعداء في الخير».

ــــ ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا فِيٓ أَعۡنَٰقِهِمۡ أَغۡلَٰلٗا «من قيود الطبيعة البدنية ومحبة الأجرام السفلية». ﴿فَهِيَ إِلَى ٱلۡأَذۡقَانِ «تمنع رؤوسهم عن التطأطؤ للقبول إذ عمت الأعناق التي هي مفاصل تصرفات الرؤوس وأطبقت المفاصل حتى جاوزت أعاليها وبلغت حد الرؤوس من قدام فلم يبق لهم تصرف بالقبول ولا تأثر بالانفعال والميل إلى الركوع والسجود للانقياد والفناء، فإن الكمالات الإنسانية انفعالية لا تحصل إلا بالتذلل والانقهار ». ﴿فَهُم مُّقۡمَحُونَ« ممنوعون عن قبولها بإمالة الرؤوس».

ــــ ﴿وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ) «من الجهة الإلهية». ﴿ سَدّٗا «من حجاب ظهور النفس والصفات المستولية على القلب منعهم من النظر إلى فوق ليشتاقوا للقاء الحق عند رؤية الأنوار الجمالية». ﴿وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ «من الجهة البدنية». ﴿ سَدّٗا «من حجاب الطبيعة الجسمانية ولذاتها المانعة لامتثالهم الأوامر والنواهي فمنعهم من العمل الصالح الذي يعدهم لقبول الخير والصفات الجلالية فانسد لهم طريق العلم والعمل فهم واقفون مع أصنام الأبدان حيارى يعبدونها لا يتقدمون ولا يتأخرون». ﴿فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ «بالانغماس في الغواشي الهيولانية والانغمار في الملابس الجسمانية». ﴿فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ «لكثافة الحجب مع جميع الجهات وإحاطتها بهم. وإذا لم يبصروا ولم يتأثروا، فالإنذار وعدم الإنذار بالنسبة إليهم سواء»[78].

ــــ ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ. وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ﴾: لا تبتئس عليهم أيها «الياسين»، أيها «الإنسان الأكمل»، ولا على «آثارهم» (= استمرارهم) في البلاد العربية ــــ السُّريانية، فكل شيء من التغيير الصالح للإنسان أحصيناه بعدك ﴿فِيٓ إِمَامٖ مُّبِين، هو الذي نام على فراشك في هذه الليلة المباركة، ليواصل صراعك مع «الشيطانية» القرشية، وسيعقبه في كل أمد ﴿إِمَامٖ مُّبِين.

 

     

 

الملخص:

 

 

1) بدأ نزول سورة النحل ببداية الهجرة النبوية المبارَكة، وانتهت بنهايتها النورانية. ولم تكن هجرة النبي (ص) في شهر محرم الحرام، بل كانت حسب ابن هشام بداية من 27 صفر (13/09/622م). وانتهت في 12 ربيع الأول. قال ابن هشام: «حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم بهما قباء ، على بني عمرو بن عوف، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل»[79].

وكتب عبد الرحمان ابن الجوزي أن الخليفة الثاني سأل المهاجرين والأنصار: «متى نكتب التاريخ؟»، « فقال له علي بن أبي طالب(ع): « منذ خرج النبي(ص) من أرض الشرك»»[80]. فالتقويم قمريّ، والتأريخ هجري، مثلما أن هناك تقويما شمسيا يمكن أن نؤرخ له بميلاد المسيح(ع). فقد كان الواجب التمييز بين الاحتفال ببداية السنة القمرية شكرا لله تعالى، وبين الاحتفال ببداية السنة الهجرية، سواءا ببداية الهجرة أو بنهايتها.

 

2) إن «أمر الله»، على الرسول محمد صلى الله عليه وآله، كان «في عين الجمع»[81]، لأنه هو الرسول المهيمن على كل الرسالة الإلهية الخاتمة. فهو «من أهل القيامة الكبرى، يُشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجميع»[82]، إذ هو واحد يَجْمع كلَّ المرسلين ذوي القربى، علهم السلام، جاء عنه رسول الله، صلى الله عليه وآله: «بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين»[83]. وقد أخبر الله تعالى عن شهوده، صلى الله عليه وآله، بقوله تعالى: ﴿أَتى أَمرُ اللَّـهِ﴾ (النحل، 1).

 

   3)  تحذر سورة النحل «المُهاجِرية» و «الصاحبية» عموما من نقضهما ما غزلتا منذ لحظة الهجرة النبوية: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا: تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ، أَن تَكُونَ أُمَّةٌ[هي أمة المهاجرين أو أمة الأنصار] هِيَ أَرۡبَى [=أفضل] مِنۡ أُمَّةٍۚ. إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦ[يختبركم باستمرار مجاهدة النفس التي تريد السلطة].ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ [مع يَعسوب المؤمنين ومع ملكة النحل]﴾(الآية 92).

 

4)     تؤكد سورة النحل أن الهجرة تكون مَنْقبة إذا أعقبتها «الصاحبيةُ» بالمجاهدات («الجهاد الأصغر»  و«الجهاد الأكبر») والصبر: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ110﴾. فمن الضروري أن تَفِيَ «الصاحبيةُ» بعهودها مع «الرسولية»: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ[العقبة، الغدير…] وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ. إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ(92) .

 

5) ﴿إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ. وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ﴾: لا تبتئس عليهم أيها «الياسين»، أيها «الإنسان الأكمل»، ولا على «آثارهم» (= استمرارهم) في البلاد العربية ــــ السُّريانية، فكل شيء من التغيير الصالح للإنسان أحصيناه بعدك ﴿فِيٓ إِمَامٖ مُّبِين﴾، هو الذي نام على فراشك في هذه الليلة المباركة، ليواصل صراعك مع «الشيطانية» القرشية، وسيعقبه في كل أمد ﴿إِمَامٖ مُّبِين﴾.

 

6)  تناولت سورة النحل المشروع/«المَسْعَى» المحمّدي من أجل «بُنيان» «قرية النَّحْل» (نسق اجتماعي إبْ- رَاهيمي) يقوم على «الأبوة الرحيمية» المربّية لـ«القرية» اعتمادًا على «يعسوب المؤمنين»/﴿إِمَامٖ مُّبِينٖ﴾، و«ملكة» لهم، يُعَرّشان «شجرا» بإثني عشر «مرسلا» و«جبالاً» من العرفاء المجاهدين على امتداد العالم، و تُنْبِتُ «قواعد» «العدل» في «القرية النَّحْلية». ثم حذرت السورة من «وأد» هذا «البنيان» والكفر بـ«نعمة الله» فيه.

 

7) يوصي الله تعالى المؤمنين النَّحليين بأن يتخذوا بيوتهم ذلك «الشجر» النبوي(أي الأئمة الذين «تشجّروا» عن النبي، وأن يتخذوا «الجبال»[84] (أي العرفاء الأعظم الذين يعملون بأمر «ذلك الشجر») وكذلك «العروش»(= الدول) التي يبنونها بـ«ملة» هؤلاء «الشهداء»: ﴿وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ﴾.

 

  • الترسيمة الاختزالية لسورة النحل:

 

[1] كاظم (رسول)، حياة الحيوان، طليعة النور، قم، 1487 هـ ق (مادة: النحل).

[2] الكاشاني، الأصفى، ص908.

[3] راجع مقولة «الأمد» في: «تدبر في سورة الكهف».

[4] الكاشاني، الأصفى، ص436.

[5] ابن عربي، التفسير، المجلد الثاني، ص231.

[6] م. س، المجلد الأول، ص380.

[7] ابن عربي، م. م.

[8] رواه ابن حنبل ومسلم…

[9] ابن عربي، م. م.

[10] ابن عربي، م. س، المجلد2، ص418.

[11] ابن عربي، م. س، المجلد2، ص418.

[12] ابن عربي، المجلد1، ص380.

[13] هي إحدى سور «الأمْر القَدْري» الثلاث: الدخان، القدر، النحل.

[14] الداني (أبو عمرو)، كتاب السنن الواردة في الفتن، دار ابن حزم، بيروت، 2005، ص149.

[15] الصدر (محمد باقر)، مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ضمن: المدرسة القرآنية، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، 1426 هـ، ص65.

[16] انظر في الدور التهويدي الذي مارَسَهُ بولس (وكذلك أغسطين مَغْرِبًا)، مثلا: غاروي (رُوجِه)، في سبيل ارتقاء المرأة، دار الآداب، بيروت، 1988، ص16 وص17.

[17] راجع: «تدبر في سورة المجادلة».

[18] راجع: «تدبر في سورة الفاتحة» ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، و«تدبر في سورة الأحزاب».

[19] راجع مدلول الصلاة على النبوة في: «تدبر في سورة الأحزاب».

[20] إبراهيم بن تارح، عليه السلام، كان هو نفسه مصليا على «أنعم الله» المركزيين في العاَلمين، وهو محمد وآله: ﴿إِنَّ إِبراهيمَ [ابن تارح] كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ (120)، ﴿شاكِرًا لِأَنعُمِهِ اجتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾ (121).

[21] راجع «تدبر في حظ التمكن القوي والصحي في القرآن الكريم».

[22] الطبري، ذخائر العُقبى، ص17.

[23] «النجوم أمان لأهل السماء: فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»، (ابن حنبل، المناقب).

[24] الطريحي، م. س، المجلد5، ص380.

[25] « الْقَبْل هو نقيض البُعد» (الطريحي، المجلد5، ص448).

[26] … طبعًا مِن المستحيل أن يكون «أهل الذكر» هُمْ «رجال» دين طائفة دينية منحرفة عن تعاليم موسى بن عمران ليعلّمونا ديننا!!

[27] ابن عربي، الفتوحات، الجزء السادس، ص123.

[28] القُمّي (عباس)، مفاتيح الجنان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1998، ص592.

[29] و 7 القُمّي (عباس)، م. س، ص593.

[30]

[31] راجع: «تدبر في سورة الهُود» (العنصر 4).

[32] انظر تدبرنا في سورة طور الكتاب المسطور.

[33] مثل حكم العدوي (قاتل ابنته) وحكم سليمان القانوني (قاتل أبيه وأخيه وابنه).

[34] انظر التدبر في سورتي النور والتحريم.

[35] «رجل يطعم: رجل يتأدب» (راجع ابن منظور، مادة “ط ع م “).

[36]. ….فإذا كنتم متأدبين؛،فانتشروا في الطريق، ولا تستانسوا لحديث السوء مع النساء.

[37] انظر التدبر في سورتي النور والتحريم.

[38] انظر مدلول «الآخرة» في تدبر سورة الإسراء والنجم.

[39] ﴿أُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ (النساء، 69).

[40] مسلم النيسابوري، الصحيح، الجزء الرابع، ص140.

[41] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، القسم الأول، الجزء 5، مكتبة خياط، بيروت، 1965، ص2734.

[42] العسقلاني، الإصابة في معرِفة الصحابة، مادة «الشَّفَّاء».

[43] م.س.

[44] للرُّقية الإسلامية أصول مختلفة عن الشعوذة العَدَوية.

[45] تاريخ الطبري ج 2 ص 578 . وقد اعتمده بن تيمية.

[46] شيث خطاب (محمود)، الفاروق القائد، دار الفكر، بيروت، 2002، ص130.

[47] الترمذي، السنن، ص282.

[48] انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، في تفسير ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ (سورة النساء).

[49] ذكر ذلك ابن أبي شيبة وابن حنبل وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.

[50] خطّاب (محمود شيث)، م. س، ص109.

[51] .ابن الجوزي(عبد الرحمان) مناقب عمر بن الخطاب، دار الهلال بيروت، 2003، ص 162 و163.

[52] الرازي، الصِّحاح، دار الهلال بيروت، مادة ح و ذ.

[53] ابن الجوزي م . م ص 162.

[54] البخاري، الجامع الصحيح.

[55] حديث صحيح رواه ابن حنبل.

[56]ابن منظور، م.م، مادة: ه و ك.

[57]ابن حنبل، المسند، الحديث 15864.

[58]السيوطي، الدر المنثور، دار الفكر بيروت ، ج5، ص148.

[59] قالت السيدة الزهراء (ع) محذرة أبا بكر والأمة من مغبة إقصاء الإمام علي عليه السلام: «سيعلم الآخرون غِبَّ ما أسّسه الأوّلون»، ابن طيفور، بلاغات النساء، فصل خطب فاطمة الزهراء(ع).

[60] شُرّاب(محمد)، المعالم الأثيرة في السّنّة والسيرة، ص228.

[61] رواه السيوطي ،في الدر المنثور، دار الفكر بيروت 1993، ج1، ص223.

[62]  رواه أحمد والبيهقي في كتاب شعب الإيمان، وهو حديث حسن..

[63] فياض (نبيل)،  مدخل إلى مشروع الدين المقارن ، الأولى للنشر والتوزيع، 2003.

[64] انظر تدبرنا في سورة المائدة في تفصيلنا لتلك الأنساق السياسية.

[65] ﴿ … مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ… (المجادلة ، 7).

[66] … رواه البخاري.

[67] الحسني (هاشم معروف)، سيرة المصطفى، ص686.

[68] «الأمْرُ» هو الولاية السياسية.

[69] «النّسِيءُ» في الأصْل هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلّوه وحرّموا مكانه شهرًا آخر.

[70] راجع التدبر في سورةالمائدة.

[71] انظر تدبرنا في سورة الكهف.

[72] ابن منظور، المجلد 2، ص 426.

[73] «الشهر هو العالِم»، ابن منظور، مادة: ش هـ ر.

[74] رواه الترمذي، وهو حديث حسن صحيح (الألباني).

[75] ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ(المجادلة، 7).

[76] انظر تدبرنا في سورة العاديات.

[77] البخاري، الصحيح، الحديث عدد 4101.

[78] الاستشهادات في هذا العنصر من تفسير ابن عربي (سورة يس).

[79] ابن هشام، السيرة النبوية، المكتبة العلمية، بيروت، ص492.

[80] ابن الجوزي(عبد الرحمان) ، م.م ، ص 80.

[81] م. س، المجلد الأول، ص380.

[82] ابن عربي، م. م.

[83] رواه ابن حنبل ومسلم…

[84] انظر تدبرنا في سورة طور الكتاب المسطور.

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023