تدبّر في سورة الحشر:  شروط التبيئة التدريجية لدار الإيمان والإنتصار على بني إصراع – إيل

تدبّر في سورة الحشر:  شروط التبيئة التدريجية لدار الإيمان والإنتصار على بني إصراع – إيل

د. نعمان المغربي (باحث في علوم الأديان المقارنة، تونس)

 

محاور السورة الكريمة:

  • {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}  (الحشر، الآية7).
  • {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر، الآية2).

موضوع السورة الكريمة:

تتناول السورة الكريمة شروط « أوّل حشر» بني إسرائيل.

  • معنى « بني إسرائيل»:

حسب اللغة السريانية، لـ « بني إسرائيل» معنيان: حسب السياق، وأحيانا يكونان متعاضدين ضمن معنى واحد.

1)- بنو إسرائيل = بنو إسراء – إيل  = بنو سريان – إيل = بنو إسراء الله = بنو أرض إسراء الله = بنو مسرى الله = بنو سام الله = بنو الشام.

ولقد كان أبو الشام الرمزي (بعد سيدنا إبراهيم عليه السلام) هو سيدنا يعقوب. فيعقوب عليه السلام هو إسراء الله لأنه نتيجة إسراء سيدنا إبراهيم عليه السلام للشام وهو المؤسس الثاني لإسراء الله، أي مسرى الله، بلاد الشام. ولقد كان موضوع دعوة يعقوب وموسى وداود وسليمان هو الشام وبني الشام أساسا.

2)- بنو إسرائيل = بنو إصراع – إئيل = بنو مصارع الله تعالى، أو بالأصحّ: بنو مريدي مصارعة الله تعالى، أي بنو مشاقة الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَه } (الحشر، الآية4). فمن يوهم نفسه أن باستطاعته مصارعة الجبّار قضى على نفسه بالانفصام.

فبنو إسرائيل بهذا المعنى، هم المنحرفون في إدعائهم التبعية لليعقوبية، (أي الإسرائيلية) وهم المنحرفون من بني المسرى (بنو الشام ). وانحرافهم خطير لأن العالم تبع للشام في استقامته وانحرافه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (الحشر، الآية4).

  • معنى أول الحشر:

لـ « أوّل الحشر» في سورة الحشر الكريمة معنيان:

المعنى الأول هو أن لحشر بني إصراع – إيل (المنحرفين عن إسراء – إيل ) للعدل الإنساني – الإلهي أول وثان. فأوّل الحشر لهؤلاء الظالمين هو مع الرسول محمد (ص) بالحجاز، وثاني الحشر يكون بالضفة الأخرى من الجزيرة العربية[1]، بالمسرى (أي بالشام).

والمعنى الثاني هو أن هؤلاء الظالمين سيجازون على مرّتين نوعيّا. فالمرّة الأولى        (أول الحشر) نوعيا هو عملية إجلاء (الحشر، الآية 3) عن الحمى الذي اغتصبوه       (سواء بالحجاز ماضيا أو بفلسطين لاحقا). أما ثاني الحشر فيكون تـتبيرا لـ { مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} (سورة الإسراء، الآية7)، بالشام أساسا وبالعالم كله جوهرا.

  • معالم الإمبريالية الاصراع – إيلية في الحمى العربي حمويا ومعاشيا:

سيطر بنو إصراع- إيل على الحجاز، بل على كل جنوب الجزيرة العربية (نجد       والحجاز، وفي وقت ما قبل الأبناء[2]– على اليمن) وكانت سيطرتهم حموية – بؤرية، فقد عرفوا على أي أراضي الحجاز يسيطرون على كله، بل على الجنوب الجزيرة العربية. فقد هيمنوا على أخصب الأراضي (خبير، بنوقريظة، فدك، تيماء…). ومن ثمة حققوا أمنهم الغذائي، وتحكموا في الأمن الغذائي للآخرين، ليصبحوا هم الممونين والمصدرين، ليكون  غيرهم تابعين ومستوردين.

و لذلك فقد استتبع بنو اصراع – ايل السيطرة الحموية – البؤرية بالهيمنة المعاشية – المالية. فلقد كان جل الرصيد النقدي لجنوب الجزيرة العربية بأيدي بني اصراع – إيل. ولقد امتدت هذه الهيمنة حتى على المكيين، أبناء إسماعيل، الإبراهيميين. ولكن سيدنا قريش، عليه السلام، ثم أبناء هاشم وعبد المطلب وعبد الله والمغيرة (أبو طالب) عليهم السلام، سعوا إلى تحطيم هذه الإمبريالية الإصراع- إيلية بتأسيس الإيلاف القرشي، الذي لم يكن يقتصر على الحموية المرفولوجية، بل امتد إلى حموية مرتكزة على مصارف غطت نقاطا عديدة بالحجاز واليمن والحبشة والشام ومصر. ولكن بعض المكيين رأوا التحالف مع كانزي الذهب والفضة، الباخسين، أصحاب الدّولة، الإصراع إيليين، محتلي الحجاز، فكان بنوأمية وأتباعهم بمكة مستزلمين للإمبريالية الإصراع-إيلية.

  • شروط الإنتصار العسكري بأول الحشر :

الانتصار العسكري مرهون بتشخيص معالم ضعف العدو.

فالمحتل الإصراع-إيلي جبان، لا يقاتل مباشرة، وإنما يقاتل من وراء جدار، أي من وراء جدر تقانة، أو من وراء جدر عملاء. وهؤلاء المحتلون ليسوا على قلب واحد، بل هم نزاعيون في ما بينهم وينفرون من بعضهم : { لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لّا يَعْقِلُونَ (14) } (سورة الحشر).

وهم بعيدون عن العقلانية، وليست لهم قيم إنسانية :{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} (الحشر، الآية 16).

أما المنافقون من «المسلمين»، وهم إخوانهم العملاء، فهم جبناء مثلهم، ولكنهم أكثر غباء من الإصراع-إيلين: { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ (12) } (سورة الحشر).

و من أهم الأسلحة المضادة  للإصراع-إيليين السلاح النفسي –الإعلامي : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (الحشر،الآية2)، فذلك يجعلهم يخربون بيوتهم بأنفسهم: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} (الحشر،الآية2). ذلك علاوة على محاربة أمنهم الغذائي: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } (الحشر، الآية5).

  • شروط الإنتصار المعاشي الاسلامي على بني إصراع-إيل:

إن الانتصار العسكري على بني إصراع – إيل مشروط بمؤهلات الانتصار المعاشي عليهم، أي بمؤهلات فكّ الارتباط المعاشي والنقدي والمالي بهم، أي بفكّ الارتباط بسيطرتهم المعاشية على العالم تدريجيا.

وكان حرص الرسول الأكرم (ص) على استرجاع فدك والقرى المجاورة لها من الاحتلال الاصراع – إيلي كان حاسما جدا في الانتصار النهائي للرسول والمسلمين المستضعفين عليهم.

         فقبل استرجاع الأحمية المحتلة، كان معاش دولة الرسول (ص) باشراف وزيرة معاشها، السيدة فاطمة بنت رسول الله (ص) قائما على «تبيئة » معاش مستقل واكتفائي    وماعوني : { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (سورة الحشر،الآية9).

إن تبيئة دار الايمان بالله والرسول والانسان المستقل عن المستكبرين يتطلب حب من يهاجر إلى هذه الدار المبوءة من حركات التحرر واللاجئين من الظلمة، كما يتطلب           « الْمَاعُونَ[3]» أي اجتماعا تعاونيا، لتكون هذه البيئة فالحة « بالكمالات القلبية» والانجازات السياسية والمعاشية.

والايثارية بهذه الدار المبوأة، هي نتيجة « تجردهم وتوجههم إلى جناب القدس       وترفعهم عن مواد الرجس وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا باقتضاء الفطرة وفرط صحبة الإخوان بالحقيقة والأعوان في الطريقة».[4]

فالخصاصة التي رانت على معاش المدينة المنورة في طورها الأوّل لم تمنع أهلها من « تقديمهم أصحابهم على أنفسهم لمكان الفتوة وكمال المروءة ولقوة التوحيد والاحتراز عن حظ النفس وفوق الرجوع إلى المطالب الجزئية[5] بعد وجدان الذوق من المطالب الكلية.»[6]      وبذلك كان تكريس الحديث النبوي الشريف : « حب الوطن من الإيمان»[7] .

لقد قادت السيدة فاطمة بنت محمد(ص) المرحلة المعاشية الأولى لدولة المدينة، باعتبارها وزيرة المعاش، وكانت المثال الأول مع أسرتها بعد أبيها في تكريس تلك المبادئ المعاشية – الإيمانية. وقد شهدت لها بذلك سورة الإنسان. فَسَمَّتها « البارّ» وسَمَّت عائلتها الكريمة «الأبرار» إذ كانوا {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (سورة الإنسان، الآية 8).

فلم تكن وزيرة المعاش تلك تطعم المسكين واليتيم والأسير، بل كانت تطعم طعامهم، أي توفّر لهم الوسائل الكريمة لينتجوا بأنفسهم الطعام الكريم. ولم تكن في ذلك تفرق بين مسلم وغير مسلم بتلك الدولة، ولا بين مواطن أصليّ فيها ومًعاد أسير لديها،    وتلك قمّة الإنسانية المجرّدة. وكانت تلك الوزيرة الفاضلة وأسرتها مستعدين للصبر على الجوع ليأكل سكان المدينة المنورة، فهم « يتجردون عن المنافع المالية ويزكّون أنفسهم عن الرذائل خصوصا عن الشحّ لكون محبة المال أكثف الحجب، فيتصفون بفضيلة الإيثار        ويطعمون الطعام في حالة احتياجهم اليه لسد خلة جوع من يستحقه، ويؤثرون به غيرهم على أنفسهم»[8] كما شهد فيهم العارف الحكيم الرباني ابن عربي.

  • تحطيم الامبريالية المعاشية الاصراع – ايلية :

         قال الله تعالى في نص التعيين الدستوري- العُقَلائي : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (سورة الحشر، الآية 7) : أي ما آتاكم به الرسول من تعيين هذه الصديقة الأعظم في منصب وزارة المعاش والتدبير المالي هو أمر إلهي، والاله تعالى هو الحكيم الأحكم، فهذا الامر النبوي (وغيره) « متحقق » بالله (تعالى)، فما أمر به رسول الله (ص) فهو أمر الله وما نهى عنه الله نهى عنه الرسول  : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (4) (سورة النجم).

فقد تحقق فيها منذ مرحلة المعاش إكتفاء فضيلة العفة والإيثار على أعلى مستوى ممكن بأعين الجميع، فلا يمكن أن نشكك في نزاهتها. وماهو تحت نظرها من حمى معاشي كان جيد الامبرالية الاصراع – ايلية ليس لها، باعتبارها ذات قربى مجدية نسبيا، بل هو لليتامى والمساكين وأنباء السبيل حتى لا ننكص من جديد إلى “االدُّوَلة“، أي الاكتناز        والبخس المعاشين اللذين كانا سائدين على عهد الهيمنة الإصراع-ايلية. ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )   سبأ(47)

ولذلك كانت لاَمُ النِّسْبة في الآية 7 متكررة مع كلمات «الله» و«الرسول» و« ذي القربى » لتُحْذف مع «اليتامى » و« المساكين » و«ابن السبيل». فالكلمات الثلاث الأولى هي في الحقيقة تدل عمليا على كلمة واحدة هي «ذي القربى ».

فالمدبر المستخلف من الله تعالى ورسوله هو من الكيان « ذي القربى » الفاطمي    وما المعطوفان الأوّلان إلا لتأكيد مشروعية الوزيرة الصِّدّيقة : {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}        ما أرجع الله تعالى لرسوله من مستوطنات إصراع-ايلية { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (سورة الحشر، الآية 7).

فإذا كانت مهمة الوزيرة الصِّدّيقة في المرحلة الأولى تدبير معاش الاكتفاء             والماعون، فإن مهمتها بالمرحلة الثانية هي تدبير « الإغناء العام» ومنع النكوص باتجاه «الدُّولة» ليكون الغنى دُوَلِيّا. وبذلك تكون الوفرة للمهاجرين بعد أن كانوا بمعاش الاكتفاء في خصاصة :{ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } (سورة الحشر، الآية8). فانفكاكهم من الدُّولة الأموية- المكية المتحالفة مع الدُّولة الاصراع-ايلية جرَّ عليهم الكثير من التضحيات المعاشية، ولولا التدبير الفاطمي الحكيم لكانوا في مجاعة.

ولذلك كانت مظلمة، ليس في حق الوزيرة المخلوعة، وإنما في حق الأمة، أن تُخْلَعَ، لأن الأمة،-موضوعيا- ليس فيها من هو في كفاءتها التدبيرية، الوزارية، بل ليست لها كفاءات بسيطة بعد، خاصة في المجال المعاشي والمالي، لأن الإمبريالية الاصراع-ايلية التي رانت قرونا بمساعدة أموية وثقفية كانت « دُولة» على مستوى الكفاءات التدبيرية أيضا. فغضْب الوزيرة ليس لأنها حرمت من منصب، وهي العفيفة، المؤثرة عليها نفسها     ولو كان بها خصاصة، كما دلت الامتحانات التي جرت عليها، سواء في مرحلة الاكتفاء أو مرحلة فدك الوفرة (فلم تبرز عليها وعلى أسرتها علامات إثراء بوزارتها بالمرحلة الثانية). وإنما كان غضْبها على تدمير الأمة معاشيا ورجوعها إلى «الدُّولة» الأموية والاكتناز، أي احتكار الثروة الوطنية من قِبل مجموعة صغيرة جدًّا، ورجوع المجاعة إلى الجزيرة العربية[9].

ولقد تحقق التحذير الإلهي من مغبة عزل الفاطمة عن ما آتاها رسول الله تعالى من وزارة معاش : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (سورة الحشر، الآية 7). فعام الرمادة كان هو المظهر الأول لذلك العقاب. فليس من المعقول أن دولة ذات حمى مترامي الأطراف، ليست له فدك فحسب، وإنما النيل         والفرات ودجلة وغيرها من الأنهار، ولها مطامير قموح في مصر والشام والعراق      وايران يمكن ان تعاني فيه ولايتان فحسب (الحجازو نجد) من المجاعة والموت منها، إلا لوجود بدايات « الدُّولة» وسوء التدبير في المعاش والمواصلات والولاية.

  • علامات ثاني الحشر:

ثاني الحشر هو طور تتبير العُلُوّ الاِصْرَاعْ-إيلي، أي أمد الظهور المحمدي على الدين كله. وهو أمد مهدوي-صَالِحيّ تتحقق فيها المظاهر المُلْكية لأسماء الله الحسنى.

قال رسول الله (ص) : «تشبهوا بأخلاق الله» فالله هو( الرحمن الرحيم) والطور دولة المؤمنين ومشيئة الكافرين- دون أن يكونوا مهيمنين كما كانوا في السابق فهو دولة رحيميّة للمؤمنين ورحمانية بالكافرين، وهو (المَلِكِ)، وأمد الطاعة لهذا « الغني» المطلق الذي يحتاج اليه كل شيء، المدبر للكل في ترتيب النظام وهو {القُدّوس} « المجرد عن المادة وشوائب الإمكان في جميع صفاته»[10]، والأمد هو أمد الطهارة الإنسانية بالاقتداء بأطهر الطاهرين. وهو {السلام}، والأمد أمد الدخول في السّلم كافة، بين الأمم وبين الجنسين وبين الطبقات وبين الأجيال. وهو {المؤمن} ينزل السكينة على المؤمنين، والأمد أمد تأمين الباطن الفردي والعلاقات الجمعية والأنس بالله تعالى. وهو المهيمن والأمد أمد هيمنة الرحمة الإلهية في أجلي مظاهرها بتوقف الإنسان عن الإصراع – إيلية، أي عن محادّة الله تعالى ورسوله (ص) … وهو الجبّار المتكبر، والأمد أمد القمع المطلق للشرور والكفرية، وأمد تسبيح الله تعالى: {سبحان الله عمّا يشركون}. وهو الخالق، البارئ، المصور وهو أمد سيطرة الإنسان الحقيقية على الكون نتيجة إسلامه الحقيقي والتام لله تعالى:           { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } (سورة الحشر). وبذلك الطور الطويل جدا، والأسعد في أخبار التاريخ الإنساني، تتحقق عينيّا وباكتمال حكمة الله تعالى من خلق الإنسان إذ طلب من الملائكة أن تسجد له.

وهكذا تتم سورة الحشر بمعالم أسماء الله الحسنى لأن ثاني الحشر هو تحديث أخبار الإنسان بامتثاله لتلك الأسماء. فالفوز البشري بعد الزلزلة الإنسانية الحضارية النهائية، سيكون بتفكّر أمثال الجبل المحمّدي الأخير، فذلك التفكر هو الذي يمهّد لذلك الجبل حفظة للأرض الإنسانية أن تميد:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) } (سورة الحشر).

إنّه جبل متصدع من خشية الله تعالى ككلّ عالم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (سورة فاطر، الآية28)، والقرآن الكريم هو أخلاقه مثل سيده محمد (ص). ولكن البشرية لن تستفيد منه إلا إذا تماهت به وتفكّرت في إعادة الفهم التي سيمارسها على القرآن الكريم.

 الخاتمة :

لقد كان أوّل حشر الإصراع – إيليين على أمد الجبل العظيم، سيدنا رسول الله (ص) مشروطا بطور أوَّل بتبيئة دار إيمان وإيثار، وفك ارتباط تدريجي بالمختل الإصراع-إيلي، ثم بطور ثان من مصادِِِِِيقه التطهير الحِموي للجزيرة العربية واجتثاث رأس المال الإصراع – إيلي واستزلاميته العربية بتدبير من وزيرة المعاش في دَوْلة النبي محمد (ص)

وكذلك الحشر الثاني للإصراعْ – إيليين، فهو مشروط، إذا أردنا إنجازه بتَبْيِئِِِِِة دون إيمان وإيثار ومَحَبَّة على طول العالم الإسلامي وعالم المستضعفين عموما، لا تفرّقها أغلال التعصب بين الجنسين والجهات والطبقات والأمم والأديان، فاكّين الارتباط تدريجيا بدُولة المعاش العالمي والكنز الإصراعْ – ايلي، والبَخْس الاستزلامي المعيد لإنتاج ذلك الكنز.

فتلك التبْيئَة هي التي ستمهِّد موضوعيًّا (=قِشْميّا) للأمد الصَالِحي الذِي سَيبدأ بتَتْبِيرِِِِِ ما عَلاَ الإصرَاعْ – إيلِيّون تَتْبيرًا، بالحِمَى الشامي وعلى المستوى العالمي : {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (سورة الأنبياء، الآية105)

 

*****************************

 ذكر ذلك رسول الله (ص) في أحد أحاديثه . [1]

[2]  الأبناء في الاصطلاح اليماني هم أبناء الفرس الذين غزوا اليمن.

[3]  راجع تدبرنا في سورة الماعون وسورة الفجر.

[4]  ابن عربي (محيي الدين)، تفسير القرآن الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001، ص310

[5]  …قارن ذلك بما ران على شعوب ما بعد 14 يناير 2011 من ركون إل المطالب الجزئية قيادات (المجلس التأسيسي، أطر، …) وطبقات عاملة، مع إهمال العاطلين عن العمل والمساكين والمطالب الكلية.

[6]  م، س، ص 310 أيضا

[7]  رواه ابن عربي في م.س، ص 310

[8]  م.س، ص 370.

 …رضاها رضا رسول الله (ص)، وغضبها غضبه، كما جاء في الحديث النبوي الشريف. فمواقفها متعقِّلة.[9]

[10]  ابن عربي، تفسير القرآن الكريم، دار الكتب العلمية، بيروت، 200، ص313

شارك على :
المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2023