أفرغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب كل الخرطوش الذي كان في جعبته، فقال كلاماً أقل ما يُقال فيه إنه فوق الأساطيح، لا صلة له بالواقع ولا بالوقائع. فمرة يهدد إيران بالمحو عن الخريطة وهو لم يجرؤ على الرد على إسقاط درة تاج التكنولوجيا التجسسية في جيوشه وأغلاها ثمناً. ومرة يصف الإيرانيين بالغباء وقلة الذكاء وقد نجحوا خلال أربعة عقود بإفشال كل معادلات الإدارات الأميركية المتعاقبة صاحبة العقول الذكية والصواريخ الذكية والحرب الذكية، وتحوّلوا مصدر القلق اليومي وعلى مدار الساعة في البيت الأبيض، وتبجّح ترامب بالعقوبات التي قال مستشاره للأمن القومي الذكي جداً جون بولتون، إنها تجعل إيران على حافة الانهيار، بينما قال ترامب إنها تحتاج زمناً طويلاً، بينما تحديات إيران النووية والمتصلة بالملاحة النفطية لا تمنح سوى وقتاً قصيراً للتصرف، لكن ترامب الذي لم يبخل على الكونغرس بهلوسات تحاكي هلوساته عن إيران، مهدداً ومتوعداً بعدما قرّر الكونغرس الاستماع إلى المحقق الخاص روبرت مولر، وحزم حقائبه نحو قمة العشرين التي تنعقد في اليابان.
– في اليابان ليس من فرص لما وصله التهديد، بل الوقت الداهم لمحاولة فعل ما يمكن لتفادي المواجهة التي تزحف بسرعة مع عودة إيران المرتقبة للتخصيب المرتفع لليورانيوم، وتجدّد أزمات الناقلات واشتعال أسعار النفط إذا انتهت قمّة العشرين ولم يعلن بختامها ما يطمئن بأن السياسة قد أفلحت في تفادي الأزمة الكبرى، أو أنها أنتجت هدنة تحت السيطرة لفتح الباب لخريطة طريق جديدة تخفض التوتر وتبتكر حلولاً مموهة يرتضيها المتنازعون، والواضح أن ترامب يدرك بأن التهدئة تتوقف على قبوله حلاً ضمنياً يوقف المفاعيل التي يريدها للعقوبات وينتظر نتائجها على المدى الطويل، لأن العالم كله مجمع، حلفاء ترامب وخصومه على السواء، على اعتبار جوهر المشكلة لا يكمن في الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي رغم اعتبار ذلك مشكلة كبرى، ولا في العودة للعقوبات الأحادية على إيران رغم رفضهم لها كمنهج بمعزل عن المستهدف بها، بل في كون العقوبات الأميركية تستهدف غير إيران، وبالتحديد هي عقوبات على مَن يطبق قراراً أممياً محوره التصديق على الاتفاق النووي مع إيران، والقبول بهذه السياسة الأميركية يعني نهاية كل ما بناه العالم في المجال الأممي القانوني الذي بقي رغم هزاله ورقة التوت التي يختبئ وراها اللاعبون الكبار، لستر مساوئ النظام العالمي الذي تقوده واشنطن، قبل أن تتغوّل العقوبات إلى هذه الدرجة.
– المساعي التي ستشهدها قمة العشرين ستتركز على كيفية إيجاد حد أدنى مقبول إيرانياً للمتاجرة بنفطها والتعامل مع مصارفها، تحت عين واشنطن، ولكن بغض نظر منها، عبر آليات يصيغها الشركاء الآخرون في التفاهم النووي، الذين سيتفاوضون بالجملة والمفرق مع ترامب وأركان إدارته، بمبادرة ثنائية يابانية فرنسية، وبرؤية تجارية وسياسية يحملها الرئيس الروسي القوي جداً والمرتاح لوضعه جداً جداً، والذي لا يمانع بأن يترك ترامب على عماه، كي يتورط أكثر ويقع في المستنقع الذي لا مفر منه دون أن يتمرّغ أنفه بوحل لا يمكن إخفاؤه. فترك الحبل على الغارب يعني المواجهة. والمواجهة هي ما لا يريده ترامب ويخشاه، لكنها ما لا تريده إيران ولا تخشاه، وأولى التبعات ستكون في سوق النفط وملاحته وفي النمو النووي والاقتراب من لحظته الحرجة، وسقف ما يمكن أن يمنحه بوتين لترامب هو بوليصة تأمين عنوانها الصمت، فيدع لقاءات فيينا التي ستضم الشركاء الباقين في التفاهم النووي يقدمون لإيران ما يشكل أساساً لعدم وضع تهديداتها موضع التطبيق، وإلا فالصيف حار جداً وفي كل المنطقة وكل العالم.