المهندس: ميشيل كلاغاصي |
هي دائما ً الثنائيات المزيفة, بين البطولة الأمريكية الخارقة والهزيمة النكراء لأعدائها, بين الشعارات الكاذبة وتكريس السطوة والهيمنة, بين إنقاذ الشعوب واستغلالها ونهب ثرواتها, بين تحرير البلاد من “ديكتاتورييها” وصناعة “المحرِريين” في أقبية ال CIA, وما بين الكذب والحقيقة خرابٌ ودماء وبطلٌ ومنقذ أو سفاح … فالسطوة الأمريكية جارفة وجاذبة لأناسٍ تقاسموا المقاعد بين حمائم وصقور, وجمهوريين وديمقراطيين … فبعض المسارح مشتعلة, وأخرى تكاد تخمد نيرانها, والهزائم الأمريكية ونكساتها مشاهدٌ لم يعد إخفائها أمرا ً سهلا ً,وبات المسرح الأمريكي بحاجةٍ إلى ستائر إضافية, ولجمهورٍ يرى ما يريده الأمريكي فقط, فيصفق له ويدفع ثمن التذكرة راضيا ً أو مكرها ً, فيما لسان حال الأمريكيين يقول انظروا إلى إيران ولا تنظروا إلى سوريا, انظروا إلى أفغانستان ولا تنظروا إلى الدوحة, انظروا إلى بحر الصين ولفضاءات روسيا ولمنصات الصواريخ المتوسطة والقصيرة, ولا تنظروا إلى فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا , هيا استمتعوا بوقتكم وأنتم تتابعون فيلم الاّكشن الأمريكي.
مالذي يحدث في فنزويلا، ولماذا تتكرر الإنقلابات ومحاولات إغتيال “الزعيم” منذ انتخاب الرئيس هوغو شافيز عام 1998وحتى اليوم، مالذي ميّز حكم الراحل شافيز، ويُميز حكم مادورو اليوم، من هي أطراف النزاع الداخلي ومن ورائها، ومن يريدها حربا ً أهلية، ومن هو المستفيد…؟ وماذا عن الثروات والإحتياطي النفطي الفنزويلي الهائل.
كيف لبعض الفنزويليين أن يضعوا ثقتهم بشخصٍ بالكاد سمعوا به قبيل إطلاقه أمريكيا ً، وأهم ما عُرف عنه مشاركته بأعمال الشغب والفوضى والتخريب التي شهدتها البلاد منذ 1998 على طريق تقويض الثورة البوليفارية، وبطريقة وصوله إلى رئاسة البرلمان، ولماذا اعترفت به بعض الجوار اللاتيني وبعض دول “الديمقراطية” والعالم “المتحضر” في القارة العجوز وفي غير مكان، أيسحبون أنفسهم يتوجون ملكا ً أو يطوبون قديسا ً بوضع الأيدي، أم هي المؤامرة والتبعية وسياسة القطيع! , لا بد من البحث عن صاحب القنبلة والصاعق والحشوة والضحية المحتمل؟.
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تنقل شهواتها ومطامعها وحروبها إلى دول أمريكا اللاتينية من بوابة فنزويلا البوليفارية، بعد سنوات حصارها الإقتصادي والتضييق السياسي عليها، وبعد الإنتهاء من رسم خارطة الحرب عبر التدخل السافر والمباشر، وبعد نجاحها بتغيير بعض الأنظمة المجاورة وجلبها نحو اليمين المتطرف، وإخضاع البعض الاّخر لرغباتها وإملاءاتها، وضمها إلى أتباعها…
تحضير المسرح، داخليا ً، وخارجيا ً، إقليميا ً، ودوليا ً … إذ حانت لحظة الإنطلاق بصافرة الرئيس الأمريكي وبقوله: “بدأ الكفاح من أجل الحرية في فنزويلا”، وأعلن أنه : “وضع كافة الخيارات على الطاولة”، وبلحظةٍ أمريكية تحول الرئيس مادورو إلى رئيسٍ مغتصبٍ للسلطة، وعليه تسليمها دون استمهال… في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس مادورو جهوزيته وشعبه وجيشه للدفاع عن البلاد, وتحدث أمام خمسون ألفا ً من طلائع المتطوعين في “جيش الدفاع الوطني”, اللذين سيتحولون إلى مليوني مقاتل في نيسان المقبل, وخاطبهم قائلا ً:” سندافع عن الميراث المقدس لمحررينا, ولهم وحدهم سيكون ولائنا, وليس للخونة”… لكنه في الوقت ذاته أكد انفتاحه على الحوار , واستعداده للقبول بإنتخاباتٍ برلمانية مبكرة, وليس انتخاباتٍ رئاسية.
فيما نال خوان غوايدو بعض التأييد الداخلي، وتتالت إعترافات بعض الدول اللاتينية، الأوروبية، وإعتراف حكومة الكيان الإسرائيلي، فيما عارضت روسيا الإتحادية، والصين وبوليفيا وعدة دول حليفة وصديقة لفنزويلا، وأعلنت روسيا صراحة ً وقوفها إلى جانب الرئيس مادورو.
ومع استعجال واشنطن بفرض عقوباتها على شركة النفط الوطنية الفنزويلية، والحظر على الشركات الأمريكية التي تتعامل معها والحظر على أموالها, بات على واشنطن أن تجيب عن السؤال من هو المطلوب, رأس مادورو ونظامه أم رأس الدولة الفنزويلية ؟ فالعائدات الرئيسية لفنزويلا هي تلك العائدات النفطية بالدرجة الأولى، والتي تشكل العصب الرئيسي للإقتصاد الفنزويلي، وعليه تبدو الإستراتيجية الأمريكية تهدف إلى انهيار النظام الإقتصادي للدولة الفنزويلية بذريعة عدم شرعية الرئيس مادورو والدفع به خارج السلطة.
ومع تصاعد التصريحات الأمريكية، والفنزويلية وتلك التي يطلقها “غوايدو”، ووسط غياب كلي للأمم المتحدة وللقانون الدولي، تستمر واشنطن بالتحضير لعدوانها على فنزويلا… ويبقى السؤال، لماذا فنزويلا …؟
بالتأكيد لم تكن واشنطن معجبة يوما ً بالنظام الفنزويلي، لكن التصعيد الكبير بدأ بالتوازي مع الإجراءات والقرارات السياسية والإقتصادية التي اتخذها الرئيس مادورو لكسر الحصار، وبدأت الحكومة بتطوير ورفع مستوى التعاون مع كلٍ من بوليفيا وكوبا بالإضافة إلى روسيا والصين وتركيا وايران، وبدأت بالعمل الحثيث لإصدار ال “بترو” وهي نوعٌ من العملة الرقمية المدعوم بالإحتياطات النفطية لفنزويلا والتي تعد الأكبر في العالم, الأمر الذي سيحرر أياديها المكبلة ويساعدها على كسر الحصار المالي ويجنبها هجمات وتأثيرات العقوبات الأمريكية وهيمنة النظام المالي الدولي.
لم يكن من السهل على واشنطن, غض الطرف عما توشك الدولة الفزويليلة فعله, ولم تكن لتنسى أنها الدولة التي تصطف في الخندق المعادي لسياستها في “حديقتها الخلفية”, وفي دعم القضية الفلسطينية, ودعم الدولة السورية في حربها على الإرهاب والمشاريع الأمريكية في سوريا والمنطقة عموما ً, ناهيك عن الثروات النفطية وغير النفطية التي تمتلكها والتي تدعم قدراتها في التأثير على السياسة النفطية الداخلية لواشنطن عن طريق رفع سعر النفط الخام الفنزويلي, وانعكاسات ذلك على الشركات والصراعات الأمريكية الداخلية خصوصا ً ما بين الرئيس ترامب والبرلمان وقضية الإغلاق الحكومي والميزانية والتمويل المتعلق ببناء الجدار مع المكسيك.
من الواضح أن الرئيس ترامب، يعيش أياما ً عصيبة في الداخل الأمريكي، وعلى حدود البلاد، وبعيدا ً عن حدودها لاّلاف الأميال، ويبدو أنه بقرار التصعيد والتهديد بتقويض الحكومة الشرعية في فنزويلا وبإجتياحها عسكريا ً، قد اختار الهروب إلى الأمام في معاركه الداخلية أولا ً، ومن هزائمه وقرار إنسحابه المجاني من سوريا وأفغانستان ثانيا ً، مع اقتراب المواعيد والإستعدادات الإنتخابية وعينه على الفوز بولاية ثانية، وبات من الواضح أنه يحتاج إلى ستار إضافي عاتم يبعد الأنظار عن المشهد الداخلي أكثر من حاجته لإبعادها عن المسرح الدولي.
فقد يرى في رفع مستوى التصعيد والتهديد لفنزويلا فرصة إعتلاء الشجرة البوليفارية بأغصانها وأفرعها المتشابكة مع ألد أعدائه كروسيا والصين وإيران وبشكل شخصي مع الرئيس أردوغان، ويعتقد أنه سيحظى بدستةٍ من أطواق النجاة، تقدمها له تلك الدول وتقايضته بها مقابل نزوله، لذلك أسرع إلى استفزاز الروس عبر إلغاء إتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، ولرفع سقف مطالبه التجارية أمام الصين، واستفزاز إيران بالتركيز على إخراجها من سوريا ومراقبتها من الداخل العراقي، والعودة عن قرار الإنسحاب من سوريا والتمسك بقاعدة التنف.
وفي الوقت الذي يرى المراقبون تشابها ً في الأساليب التي اتبعتها واشنطن في العدوان على دمشق وتلك التي تتبعها اليوم ضد كاراكاس، ما يشجع على الإعتقاد أن الرئيس ترامب يتصرف ب “جنون” – بحسب مادورو -, ويلعبها SOLDES، ويحلم بنزهةٍ جديدة في فنزويلا هذه المرة، تحت ذريعة جلب الحرية والديمقراطية للدول والشعوب، في وقتٍ يتجاهل فيه ما قدمته سوريا بصمودها وإنتصارها، وشكلت الرسالة المضادة والنموذج الأكيد لكسر الإرداة الأمريكية، وتكريس إنتصار الإرادة السورية عبر معادلتها الوطنية “القائد، الشعب، الجيش”.