أخطر أنواع الاستعباد هو ذلك الاستعباد الخفي الذي تتوهم معه بأنك حر في اختياراتك بينما لا تستطيع أن تختار إلا ما يرسم لك..
هذا النوع من الاستعباد يمارسه الإعلام ضد الجماهير فيعبئهم بمعلومات صحيحة أو خاطئة بشكل انتقائي وممنهج لصياغة وعيهم في اتجاه محدد بما يخدم سياسات معينة..
هذا الاستعباد أخطر من الاستعباد الواضح المكشوف الذي يحكم فيه الطغاة بالحديد والنار لأنه في الحالة الثانية تكون الشعوب متنبهةً بأن هناك من يصادر حريتها فيكون ذلك مستفزاً ومحرضاً لها على الثورة أما في الحالة الأولى فتتوهم الشعوب أنها تملك الحرية الكاملة في اتخاذ قراراتها وهي غير متنبهة لأثر المصادر التي تستقي منها معلوماتها في تشكيل وعيها في اتجاهات محددة..
كثيراً ما نظن أننا مخيرون بينما نحن مسيرون في مساحات كبيرة.. فالطفل ينشأ في بيت أبويه فيشكل أبواه مصدر وعيه الأول فيهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ويشربانه قيمهم وسلوكياتهم، فينشأ كما عوده أبوه يوالي من والاه ويعادي من عاداه وهو يظن أنه حر في قراراته وأنه اتخذها بمحض إرادته ولو خلا مع نفسه في ساعة صفاء لأدرك أنه يسير في اتجاه حتمي دفعته إليه البيئة التي نشأ فيها ولو قدر له أن ينشأ في بيت تلك العائلة التي يعاديها أبوه لاتخذ نفس موقفها ولعادى أباه الذي يواليه الآن..
وما ينطبق على حالة الفرد ينطبق على حالة الشعوب فنحن نظن أن الشعب الأمريكي مثلاً ينعم في حرية مطلقة وأن للمواطن حق التفكير وتقرير اختياره دون قيود لكن حقيقة الأمر أن حرية الشعب الأمريكي لها سقف معلوم لا يستطيع تجاوزه، لكن المواطن الأمريكي لا يشعر بأن هناك من يتحكم في إرادته فهو حين يتوجه إلى صندوق الاقتراع ويختار أحد المرشحين الديمقراطي أو الجمهوري لا يدري بأنه مأسور داخل صندوق، وأن الدنيا لا تنتهي عند هذين المرشحين وحدهما بل كان يفترض أن تكون هناك خيارات أوسع، وأن ما يظن أنه قراره الذاتي الحر ما هو إلا نتاج الضخ الإعلامي المتواصل ليلاً ونهاراً من ماكينات الإعلام الضخمة التي تصب في عقله الباطن وتسرب إلى لا شعوره ما تريده من معلومات منتقاة وتخفي عنه ما لا يتناسب مع أجندتها، إنه في حقيقة الأمر يفكر تبعاً لما تمليه عليه السي إن إن أو الفوكس نيوز، ومقتضى الحرية هو أن يخرج من الصندوق وأن يستكشف آفاقاً جديدةً وأن يسير في الأرض ليرى الحقائق التي لا تعرضها هذه الوسائل الإعلامية الضخمة التي تقوم بدور سحرة فرعون: “وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم..
يتشكل وعينا وفق المصادر التي ننهل من معينها، والعكوف على مصدر واحد أو مصادر متعددة ذات اتجاه واحد أو تنهل من نفس المعين الثقافي يبقينا في أسر الجبرية وإن توهمنا أننا أحرار، ومن أراد أن يتحرر حريةً حقيقيةً فإن عليه أن يخرج من الصندوق وأن يسير في الأرض فيرى المسائل من زوايا جديدة ويستشرف آفاقاً أوسع..
في عالمنا العربي نضرب مثالاً قناة الجزيرة، فهذه الآلة الدعائية الضخمة تمارس توجيهاً لوعي الجماهير في الاتجاه الذي يخدم الخط السياسي للجهة الممولة فكثيراً ما نفكر ونقرر ونرتب أولوياتنا كما ترسم لنا قناة الجزيرة، مثلاً هي التي قررت إثارة قضية مقتل عرفات في الوقت الذي رأته، فلم يسعنا إلا أن نتلقاه تلقياً سلبياً ونسارع إلى إصدار ردود الفعل ظانين أننا نفعل ذلك بخالص حريتنا بينما حقيقة الأمر أننا لم نخرج قيد أنملة عن الخط الذي رسمته الحسابات السياسية لقناة الجزيرة.
إن تركيز هذه الآلة الدعائية الضخمة على موضوع محدد وتعمد إثارته وتضخيمه يشعرنا بأهميته ويضعه في دائرة أولوياتنا ونحن نظن أننا أحرار في اختيارنا ولكن لو لم يثره الإعلام لما تنبهنا له..
ناقشت ذات مرة شباناً مصريين فوجدت نظرتهم سوداويةً تجاه الحركة الإسلامية ويخشون من وصولها إلى الحكم-قبل فوزها- مع أنهم لم يقابلوا في حياتهم ولو عنصراً واحداً من الحركة الإسلامية ولم يقرؤوا أفكارها، ففطنت إلى المصدر الذي استقى منه هؤلاء نظرتهم السلبية وهو القنوات المصرية الرسمية أو شبه المستقلة التي لا يشاهدون غيرها، فقلت لهم: معكم حق في أن يكون هذا هو انطباعكم، وأنتم لم تختاروا هذه القناعات بل اختيرت لكم وأمليت عليكم. أنتم تظنون أنكم أحرار في تفكيركم بينما لا تفكرون إلا وفق ما يريده الإعلام المصري، فهذا التفكير تفكيرهم ولكنهم سحروا أعينكم وزيفوا قناعاتكم حتى ظننتم أنكم تفكرون بخالص حريتكم.
إن هذا النوع من تزييف الوعي خبيث لأنه يخدع الجمهور فيغرس فيه أن هذه هي قناعاته الذاتية التي يجب أن يتحمس لها ويدافع عنها وربما يموت من أجلها، بينما قد حول الجماهير إلى أبواق تردد ما يريده منها..
ليست الحرية في أن تتخلص الشعوب من الأنظمة التي تحكمها بالحديد والنار وحسب، بل من مقتضيات الحرية كذلك أن تتخلص من سحر فرعون المتمثل في الآلة الدعائية الضخمة التي تواصل حشو دماغ الإنسان ليلاً ونهاراً دون أن تسمح له بساعة صفاء يخلو فيها مع نفسه ليتخذ قراره بإرادته الخالصة.
إن من مقتضيات الحرية أن تتاح أمام الشعوب فرص متساوية للاستماع إلى مختلف الألوان والاتجاهات، ونصيحتي للأفراد حتى يكونوا مستقلين في تفكيرهم أن يعددوا مصادر معلوماتهم، وألا يرتهنوا إلى مصدر واحد مهما كانت مصداقيته حتى لا يقعوا في أسره فتصادر حريتهم وهم لا يشعرون.
والله أعلم..
أحمد أبورتيمة