بقلم: محمد الرصافي المقداد |
لن أتكلم هذه المرة عن الاستقلال المشبوه، الذي جاء به الزعيم (بالدعم الفرنسي)، وهو في حقيقته صفقة مبرمة بين حكام فرنسا في ذلك التاريخ، وبين أحد أكبر عملائهم في بلادنا، بموجبها تحولنا من الاستعمار الاستيطاني، الى الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي، ومن مقاومة كافة اشكال الاستعمار، الى اللواذ به، والتطبع بمظاهره، فذلك أمر بات مكشوفا، لمن يبصر حال تونس وما آلت اليه.
لكنني سأتكلم اليوم، عن الفوضى التي أطلقوا عليها ثورة شعبية، وجعلوها منطلقا للربيع العربي، وما هي في ممارساتها التي شهدناها سوى ربيع عبري- التطبيع مع الكيان ولا شيء غيره – جعله الغرب وأذنابه مطيّة جامحة بالشعوب المستهدفة، الى حمى الكيان الصهيوني، ولو درس عاقل ما جرى على ارضنا وفي محافظاتنا، لاقتنع بأن الأمر محكم التدبير، من طرف استخبارات الدول الاستعمارية، لتغيير انظمة حكم استبدت طويلا، حتى لم يعد هناك مجال لمزيد من الدوس على مصائر شعوبها.
وعندما نتكلم عن (الثورة التونسية )، فإنه من الضروري أن نبحث فيها عن مقومات الثورة، وهي القيادة المؤسسة والساهرة والموجهة لمراحل تطورها، وما علاقتها بالشعب ومصالحه؟ ثم النظر في برنامجها وشعاراتها، وهل هي نابعة من الشعب واستحقاقاته المشروعة ؟ وبالنظر الى كل ذلك نجد أن الذي حصل، لا يملك من خصائص الثورة وحقائقها شيئا، سوى تلك الهبة الجماهيرية البسيطة في اعدادها، والتي لا تشكل في وجودها خطرا حقيقيا يهدد النظام، ومن عاش أو تابع انطلاق المتظاهرين من أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل مرورا بنهج روما ولا حظ ذلك الصف البسيط من اعوان مكافحة الشغب المجرّدين من ابسط أدواتهم، كيف اخترقه المتظاهرون بكل بساطة باتجاه وزارة الداخلية، أمكنه كشف أحد خيوط اللعبة، التي لم يكن لها حظ في الاستمرار، لو أطلق الغرب يد الدكتاتور بن علي لتعصف بهؤلاء المحتجين بكل سهولة وبسرعة، كما فعل سابقا في أخطر احداث شهدتها تونس، يوم 26 جانفي 1978 عندما كان مديرا للأمن الوطني.
وعلى اية حال فإن ما حصل بتونس، هي فورة حرّكها واستغلها الغرب، لتغيير الاجواء السياسية في تونس، وجعلها منطلقا لإطلاق دابة الفوضى على مصر وليبيا وسوريا والعراق، وبابا دخل منه الارهاب وتغوّل علينا، وعلى بقية الشعوب المستهدفة، بمساعدة امريكية واضحة تماما، وامريكا هذه السنوات لم تعد تخجل من اظهار مخططاتها، والكشف عن نواياها الخبيثة، بعد أن غلب عليها هوى صهينة حاكمها ترامب.
ما كان مخالفا للثورات الحقيقية، ظهر في اوساطنا عاهة، أبانت أنانية شعب، لم يكن همه سوى المطالبة الفورية بتحسين الاجور، بليّ ذراع السلطة المفترض أنها سلطة الشعب، بقطع الطرق والاعتصامات المتتالية، وشل حركة الاقتصاد البطيئة، ولم يكن للسلطة ان تستجيب لكل تلك المطالب، سوى بمزيد من التداين الخارجي والارتهان لدول الغرب، التي هيأت تلك الاجواء، لوضع اياديها على ثرواتنا، وامتصاصها باقل التكاليف.
الشعب التونسي اليوم يقاد الى مذبح معابد كهنة الغرب مجردا من ابسط حقوقه في معرفة ما آلت اليه مطالبه في تحقيق العدالة الانتقالية وارساء شفافية كاملة بشان ملفات ضلت طي الكتمان كما هي حال العقود البترولية والغازية المبرمة مع شركات اجنبية، اما عن تشغيل الشباب، فان الحالة ازدادت تفاقما على ما كانت عليه سابقا، ونسبة البطالة قد تضاعفت، ولا أمل أصبح يرجوه عشرات الاف المعطلين من اصحاب الشهائد، منهم من تجاوز سن الاربعين وهو ينتظر شغلا.
وبين هذا وذاك ينزل علينا خبر نزول الصاعقة ويصيبنا بإحباط وياس من جدوى حكومة اظهرت فشلها الذريع ولم يعد لها مجال للإستمرار بقيادة سلبية البلاد، فلا هي نجحت في مجال من المجالات حتى نعذرها في بقية الاستحقاقات، ولا هي استجابت لنداء الضمير، بالتخلي عن السلطة استجابة للنداءات المتكررة اليها للاستقالة.
عار على هذه الحكومة برئيسها ان يستقيل وزير الصحة من منصبه بعد فضيحة مقتل عدد كبير من الرضع في مشفى الرابطة بالعاصمة- القائمة التي اعلنتها وزارة الصحة قابلة للزيادة في عدد الضحايا- وتسليمهم الى ذويهم في كراتين، لا تعبر سوي مزيد من الياس من انصلاح حال قطاع الصحة العمومية، شانه في ذلك شان بقية القطاعات التي استوطن فيها الفساد، وانعدم منها الضمير المهني، وانقطعت روابط الوطنية والتفاني من اجل الوطن والانسانية.
وفي هذه الحال لا يمكنني ادانة الحكومة بمفردها في ما يحصل بتونس، فللشعب نصيب منها بتخليه عن واجب التصدي لهؤلاء المفسدين .. واقول له انك اليوم ظاهرا امتلكت حريتك، فلماذا تتهاون في التحرك، من اجل تحقيق ما تصبو اليه، من حرية وديمقراطية حقيقيين؟ لماذا لا يخرج اغلب افرادك الى الشارع، للمطالبة بإسقاط الحكومة، والضرب على ايدي العابثين المتنفذين في دواليب السلطة؟ ما عليك ايها الشعب اليوم سوى مراجعة حساباتك السياسية، خاصة وان موعد الانتخابات اصبح قريبا، بالمشاركة فيه بكثافة، وحسن اختيار من يمثلك حقا، الاوضاع في البلاد لا تحتمل خطا اخر نقع فيه، باختيار خاطئ يبقينا في مستنقع الفشل فترة اخرى.
لقد كان اعلان رئيس الحكومة على محاربة الفساد مجرد ذر رماد على العيون، فلا هو حارب الفساد وأوقف المفسدين عند حدهم – بل انه اشرك منهم في حكومته – ولا هو استقال من منصبه بعد الطعن في كفاءته، وطالما أنه مدعوم من جهات داخلية وخارجية، فانه سيبقى ذلك الحمل الثقيل، الذي سينوء به الشعب التونسي الى حين استفاقته.
تونس في خطر قاتل، واهم استحقاقات ما يسمى بالثورة لم يتحقق منها ما يطمئننا على استقامة مسيرة البلاد وحسن توجهها بعيدا عن سيطرة الغرب وتغلغل الصهيونية في دواليبها، والكلمة الاولى والاخيرة لمختلف فئات الشعب، القادرة على التغيير، خصوصا اذا تركوا خلافاتهم جانبا، وتوحدوا لوقف هذا النزيف الحاد.