الأزمات المُتعددة بعناوينها المُفزعة في المشهد العام في تونس، و تعمّق الأزمة بين الأطراف السياسية وفشلها في الوصول إلى حل سياسي، ينذر بأزمة غير مسبوقة قد تنزلق نحوها البلاد.. و يبدو أن النظام السياسي بِرُمّته أنتج مشهدا سياسيا مشوّها، و أصبح جثّة في حالة تعفّن لم يعد يخدم الدولة..
الشعب التونسي يتساءل : بعد عشر سنوات من العبث “وين ماشين”..؟
لا تزال الأزمة السياسية في تونس تراوح مكانها، حيث لم يصدر لغاية الآن تحرك ينبئ بإنفراج الأزمة والخلاف بين مؤسسة الرئاسة ورئيس الحكومة والبرلمان على خلفية التعديل الوزاري الأخير الذي رفض المصادقة عليه الرئيس قيس سعيد، من جانبه استبعد رئيس الحكومة هشام المشيشي فرضية استقالته من منصبه في ظل الأزمة الدستورية التي تعيشها تونس بسبب الخلاف المحتدم مع رئيس الجمهورية في ظل غياب المحكمة الدستورية و غياب الحوار و صمت جلّ العقلاء عن تعمق الأزمة السياسية الغير مسبوقة..، حدّة الإختلاف والتناقض بين الفرقاء السياسيين كبيرة جدا، وهذا ما يجعل إمكانية جلوس هذه الأطراف المتصارعة على طاولة واحدة للحوار يضمن الحد الأدنى من التوافق السياسي شبه مستحيلة ..و معركة الصلاحيات تتعمق بين رأسي السلطة التنفيذية بتونس (حكومة ورئاسة)، و أمام الأطراف المتصارعة خيارين لا ثالث لهما، فإما تقديم جملة من التنازلات و العودة إلى طاولة الحوار أو استقالة المشيشي لفتح باب الحوار و التوافق من أجل استقرار البلاد وضمان وحدة شعبها ومؤسساتها.. و إذا بقي الحال على ماهو عليه اليوم في ظل التصعيد و غياب الحوار بين الطبقة السياسية و بين مؤسسات الدولة نفسها ، فإن البلاد لن تتأخر كثيرا في الذهاب إلى الأسوأ لتعصف السياسة بالأخلاق و بالأفكار و بالديمقراطية و بالدولة في حد ذاتها و هذا ما لا نأمله و ما لا يجب أن نسمح به..
القوى السياسية أصبحت جزءاً من المشكلة بدلاً من أن تكون جزء من الحل و أسوأ ما في هذه الأزمة هو صمت جلّ العقلاء عن إرتهان مستقبل البلاد في صراع نرجسي مدمّر.. ليتأكد التونسيين أنهم يعيشون في دولة فاشلة، و عدم إستقرار سياسي رغم مرور أكثر من عشر سنوات على الثورة، فقد التونسيون الأمل و الثقة في الطبقة السياسية المُطبقة على خناقهم ، ولا زالت العملية السياسية متعثرة رغم كل التقدم فيها, ولازالت التجربة الديمقراطية الناشئة تواجه تحديات.. تونس اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى كل عقلائها ، لإطفاء هذه النار المشتعلة التي قد تأتي على الأخضر واليابس وسيكتوي بلهيبها الجميع.. لا يزال الغموض يلف المشهد السياسي، في الوقت الذي يمر الوطن بأصعب الظروف وتمر العديد من مؤسساته بحالة إحتضار حقيقي ، في ظل صراع سياسي عبثي وعدمي بين الأطراف السياسية و بين مؤسسات الدولة نفسها ، إضافة إلى غياب المحكمة الدستورية ، يجعل من العملية السياسة في تونس مبنية على التكهنات ورهينة الإشاعات و التأويلات ، ما قد يعمق الأزمة السياسية و الدستورية و يضعف الديمقراطية الناشئة والدولة في حد ذاتها..ممّا يفتح الباب لسيناريوهات أكثر تعقيداً تصب في مصلحة الشعبويين والعبثيين، الذين يطمحون إلى إجهاض التجربة الديمقراطية..
صراع الصلاحيات العلني بين الرئيس و رئيس الحكومة الذي قام بتزكيته قد بلغ مرحلة كسر العظام وبالتالي فالقطيعة بين رأسي السلطة التنفيذية قد وصلت درجات قصوى لا يمكن معها تقليص الفجوة بينهما، ممّا ينذر بأن هذه الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم نتيجة غياب الثقة بين هذه الأطراف وعدم استعدادها لتوفير الحد الأدنى من المسؤولية ، و ما يحصل اليوم غير معقول، وصلنا لنزاعات بين السلطة على حساب استمرارية الدّولة و مؤسساتها..
في وقت تواجه فيه البلاد أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة وأزمة صحية خطيرة ، تنشغل الطبقة السياسية بكل مكوناتها في التجاذب والتدافع فيما بينها، و بعضهم سقط فى مستنقع لا أخلاقي يقوم على المفاوضات والمساومات والألاعيب، و دخلت البلاد في منظومة الفوضى الأخلاقية في العملية السياسية، و انحرفت الديمقراطية إلى دكتاتورية جديدة تمارس فيها الأغلبية الفوضوية شتى انواع التضيقات و الهرسلة و الإبتزاز السياسي و المساومة، ليتحول الوطن إلى حلبة صراع سياسي شاهدنا فيها كل انواع التدني الأخلاقي و هبوط المستوى إلى درجة مخيفة و غير معقولة و غير مقبولة من التعفن.. و من الواضح جدا أن الازمة في تونس قد وصلت الى طريق مسدود، ليس بسبب أنها عصية على الحل، وإنّما بسبب تعنّت الأطراف المتصارعة بسياسة الهروب إلى الأمام و معارك الكرّ والفرّ و التصعيد ، رغم كل الاصوات المنادية بالتعقل والتحلي بالحكمة، و قررت إعتماد سياسة الارض المحروقة.. بدل العودة إلى طاولة الحوار من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة لإنهاء الأزمة السياسية و الدستورية..
الأزمة السياسية المستعصية تحتّم على الجميع الوعي بأنهم في معركة إستنزاف لا غالب فيها ولا مغلوب، وأنه لا حل إلاّ بالتخلّي عن أسلوب المغالبة والتحدّي والتصعيد، والتنازل من أجل ألاّ يغرق المركب بالجميع و حتى لا نتحول من مرحلة إنتقالية إلى مرحلة إنتقامية.. ولا سبيل للخروج من الأزمة السياسية و الدستورية إلاّ بالحوار..و أصبح إرساء المحكمة الدستورية اليوم ضرورة ملحّة، ومطلباً يتفق حوله جلّ مكونات الطبقة السياسية إقراراً منهم بكارثية الوضع الحالي.. لابد من هدنة سياسية عاجلة من كل الأطراف المتصارعة و العودة إلى طاولة الحوار لإنهاء الأزمة السياسية ، بعيدا عن كل الحسابات الضيقة و المعارك الجانبية و تغليب المصلحة العليا لتونس و شعبها و فتح معركة حقيقية مع الفقر والبطالة والتهميش وتقديم الأجوبة الحقيقية للشباب المحتج، وتوجيه كل إمكانيات الدولة للتسريع في توفير اللقاح بأقرب الآجال لحماية الشعب من الخطر المتزايد للجائحة.. هكذا تكون رجالات الدولة..
تونس اليوم لم تعد على حافة الهاوية بل هي في الهاوية..، في وقت كان فيه لزاماً أن يكون التنازل هو سيّد الموقف، إذ أصبح التصعيد يأخذ يوماً بعد يوم منحى المواجهة في انتهاج واضح لسياسة الهروب إلى الأمام و معركة كسر العظام.. مشهد سياسي مشوّه في بلد يكاد يعلن إفلاسه و شعب مغلوب على أمره، لا نعلم عاقبة هذا الصراع العبثي الأناني و من المستفيد ولكن الأكيد أن الجميع سيكون خاسرا لا محالة..
عشر سنوات من العبث.. وين ماشين..!!
#بقلمے : محمد البراهمي كاتب صحفي و ناشط سياسي