بقلم: الناشط_السياسي محمد البراهمي |
إلى أين تسير تونس؟ وهل سيتوصل الفرقاء السياسيين إلى حل الأزمة الراهنة سياسيا وتهيئة ظروف انطلاق الحوار الوطني في ظروف عادية؟ أم ستزداد أزمات البلاد تعقيدا ويؤجل الحوار أو يلغى… وبذلك تدخل البلاد في مرحلة سياسية شديدة التعقيد على غرار الأزمة الإجتماعية المرشحة للإنفجار الوشيك..
تعيش تونس منذ أشهر أزمة سياسية غير معلنة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بسبب التحالفات السياسية، ومن الواضح ان إقالة وزير الداخلية توفيق شرف الدين المقرب من الرئيس قيس سعيد، في خطوة تظهر على ما يبدو عمق الصراع بين رأسي السلطة في البلاد ستجعل على الأرجح الصراع معلنا بين الجانبين، يراها البعض خطوة أخرى نحو إسترجاع رئيس الحكومة لصلاحياته الكاملة التي يعتبرها منقوصة في وجود بعض الوزراء الذين لا يمثلون قناعاته ومقاييسه ومشروعه وظلوا خارج الانسجام الحكومي وروح الفريق.. و البعض الآخر يراها قد تؤدي إلى محاولات لإسقاط الحكومة، وتعتبر إقالة وزير الداخلية هي الثالثة في حكومة المشيشي، وتأتي بعد إعفاء وتوقيف وزير البيئة مصطفى العروي في ديسمبر الماضي إثر شبهات فساد في ملف النفايات الآتية من إيطاليا، وإقالة وزير الثقافة وليد الزيدي المحسوب على الرئيس قيس سعيد في أكتوبر، وتتزامن الإقالة مع أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية حادة..التوتر الحاصل بين القصبة و قرطاج على إثر الإقالة الأخيرة سيكون فاتحة لصراع أطول بين رأسي السلطة التنفيذية، على غرار ما جرى بين الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي ورئيس الحكومة السابق، يوسف الشاهد، و هو ما يتطلب الدعوة إلى تسوية هذا الخلاف بشكل سريع، لتجنب حدوث صراع أكبر بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ستكون عواقبه وخيمة على الاستقرار السياسي للبلاد
ومن المتوقع أن يجري رئيس الحكومة في الفترة المقبلة تعديلا وزاريا جزئيا وسط مطالبات من الأحزاب التي تدعمه بإدخال وجوه سياسية في الحكومة، وهو ما ترفضه أحزاب المعارضة والرئاسة ويبدو أن تلك الحسابات تدفع بقوة إلى الذهاب نحو إجراء تعديل وزاري واسع، بعد إبعاد الوزراء المحسوبين على قيس سعيد، لتتحول بذلك الحكومة إلى حكومة سياسية بحزام حزبي، التحوير الحكومي بات أمرا ضروريا وليس خيارا، و السؤال الذي يطرح نفسه بشدة يوما بعد يوم ،في ظل تفاقم الأزمات و الصراعات السياسية و هو : أي دور للتغيير والتحوير ولمصلحة من؟ و هل أن لا مخرج لتونس إلا في تغيير وزير بآخر ونقلة وزير من كرسي إلى آخر؟ و أي تحوير وزاري سينقذ تونس من ازماتها المتعددة و المعقدة ، و البعض يرى بأنه مجرد سعي إلى إعادة انتشار حسب ما تمليه الإكراهات الحزبية والتوازنات السياسية الجديدة.. لاتعني غير تكتيكات و جولات في معركة كسر عظام رهيبة بين رأسي السلطة التنفذية ومن ورائهم الدولة العميقة،
في هذا الظرف الدقيق هل ان الحوار الوطني الفرصة الأخيرة قبل الكارثة أم مضيعة للوقت؟
الصراعات الجانبية بين أغلب الاطراف السياسية التي هي بحاجة الى نضوج سياسي وبلورة تجربتها نحو تشخيص الخلل وأصلاحه والاعتراف بالاخطاء التي مزقت نسيج المجتمع ,والاعتذار أمام الشعب للقصور والتقصير في الاداء و تغليب المصلحة العليا لتونس و شعبها قبل ان تغرق السفينة التي يركبها الجميع.. و لابد أن يستدرك المشاركون في الحوار الوطني أخطائهم في المرحلة القادمة والمتبقية والفرصة الأخيرة .. من أجل إيجاد حلول توافقية بخصوص جميع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأولويات الوطنية.، بعيدا عن نزعات التموقع و اعادة اقتسام الحكم.. لأن الأوضاع لم تعد تحتمل المزيد من المحاولات الفاشلة، و لابد أن تكون مبادرة الحوار الوطني تطرح مقاربة سياسية جديدة و صياغة عملية و إرادة سياسية لتوفير أرضية يمكن البناء عليها للخروج من حالة الانسداد السياسي و الإحتقان الإجتماعي.. وما دون ذلك فهو عبث سياسي، ومضيعة للوقت، وتفتيت للجهد..
المشهد السياسي الحالي كله متعفن، وهذا التعفن ناتج عن تدني الخطاب السياسي وعن وجود قطيعة سياسية أفقية بين مختلف الأطراف المؤثرة في المشهد السياسي وأخرى عمودية في علاقة الأحزاب و الإئتلاف الحاكم والحكومات المتتالية بالأطراف المعارضة، لهذا لا يمكن تحميل طرف دون آخر مسؤولية التعفن في المشهد السياسي و الجميع يتحمل مسؤولية مايحصل اليوم في الساحة السياسية و من المؤكد اليوم أن التمادي في هذا الصراع السياسي ، أمر يثير القلق و يدعو إلى دق ناقوس الخطر، و الأخطر ما في الأمر أن البعض يسعى إلى زعزعة المعادلة الوطنية السياسية القائمة على التوازن، و بالتالي المرحلة الحالية تؤشر الى درجة بالغة المأسوية، خصوصا مع الإنقسام السياسي اللعين وشبح الأزمة الاقتصادية و السياسية بالأساس..
لا تزال البلاد تتخبط في أزمة اقتصادية خطيرة ألقت بظلالها على المشهد السياسي ، إضافة إلى أزمة كورونا في ظل أوضاع خراب اقتصادي واجتماعي خلفته سياسة عقود نتيجة التبعية المفلسة و الصراعات السياسية العقيمة.. نتيجة ضعف أداء الحكومات المتعاقبة واعتماد سياسة “الهروب إلى الأمام” دون تقديم حلول اجتماعية واقتصادية جذرية وناجعة، ضاعفت من حدة التوتر الاجتماعي والاقتصادي الذي زادته جائحة كورونا تعقيدا..
حان الوقت كي تتعظ الطبقة السياسية من الدروس السابقة وتقطع مع الصراعات الجانبية و الخطابات الشعبوية و الوعود الواهية التي لا تستطيع الصمود أمام قوة الشارع اليائس من الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، والفاقد لأي ثقة في أداء السياسيين بمختلف ألوانهم وأيديولوجياتهم، بما يعني أن النظام السياسي الموجود عاجز عن إيجاد حلول سياسية واجتماعية واقتصادية ، و النخبة السياسية أثبتت أنها غارقة في الفساد والعجز وهي فاشلة وغير قادرة على إيجاد الحلول، ورغم انقساماتها وخلافاتها السياسية الظاهرة تحاول أن تعقد صفقات فيما بينها.. ، إذ لا يمكن بناء تونس في ظل مناخ سياسي متشنج وصراعات جانبية تدفع بالبلاد إلى مالا يحمد عقباه..
اليوم وأكثر من أي وقت مضى، المصلحة الوطنية تقتضي من الجميع أن يدركوا جيدا أن مصلحة الوطن هي الأهم والتي ينبغي أن يحرص الكل على تغليبها دون سواها.. و تقتضي ضرورة التقاء الأطراف جميعا لإجراء حوار وطني شامل يتفق فيه الجميع على تغليب لغة العقل والمنطق وتقديم المصلحة الوطنية ،و إخراج الوطن من أزماته وتفادي وقوع أزمات وإشكالات تفتك بمصلحة الوطن وتضر بالمصلحة العامة.. خاصة وأن البلاد تمر بمنعطفات خطيرة،
سيكتب التاريخ ذات يوم أن النخبة السياسية المتعاقبة خربت البلاد والثورة، وأن إعادة الثورة إلى مسارها أصبح أمرا حتميا، إذ لا يمكن لهذا البلد أن ينهض ويتقدم ما دامت النخبة السياسية لا تستشعر مسؤولياتها تجاه الوطن والشعب.. و لو كان في تونس نخبة سياسية لها وعي وطني متين لكان بإمكانها أن تتجاوز هذه الخلافات الجانبية وتلتقي حول برنامج حد أدنى لإصلاح البلاد، وهذا غير موجود للأسف إلى حد الساعة نتيجة المقايضات والتجاذبات السياسية والحزبية و معركة كسر العظام، ما يحدث في الواجهة السياسية هو نتيجة طبيعية لمسار سياسي خاطئ و علامة فشل الطبقة السياسية وخيباتها المتتالية.. و قدر تونس و التونسيون أن يعانوا تبعاتها منذ عشر سنوات.. فمن سيستفيد من معركة كسر العظام؟ و من المؤكد أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب سيكون الشعب الزوالي و تونس المقبلة على أشهر صعبة جدا على المستوى الاقتصادي و الإجتماعي و السياسي بالأساس..
و يبقى السؤال مطروحا : هل تشهد الايام القادمة انفراجا أم زوبعة سياسية تعصف بالجميع وتحصد الاخضر واليابس.. ؟