ظنّ الرئيس الأميركي ترامب أنّ الأسلوب والسلوك الوقح، والتعاطي الفوقي اللاأخلاقي الذي اتبعه منذ مجيئه إلى السلطة، حيال «حكام» ودول في المنطقة، يستطيع اعتماده مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، خاصة أن هذا السلوك أعطى أُكُله من خلال عقد الصفقات وبيع الأسلحة، وجلب الأموال، بعد سلسلة من التصريحات والتغريدات، أطلقها للعنان حملت في طياتها العنجهية والتهويل والتحذير، والتهديد والابتزاز، والتخاطب المهين والمذلّ، والتهكّم المتعالي، فكان له ما أراد، ليندفع أكثر باتجاه تصفية القضية الفلسطينية العالقة منذ عام 1948 ومقاومتها، التي تقضّ مضاجع الصهاينة باستمرار. لذلك أراد ترامب حسم مصير القضية معتمداً على حكام صوريّين يعرف كيف يبتزّهم ويتعامل معهم، وهم الذين ارتبطوا به مصيرياً، يحافظ على كراسيهم ومناصبهم وأنظمتهم، بعد أن آثروا السير في ركابه والخضوع له، أياً كانت النتائج الوخيمة والتداعيات الخطيرة عل بلدانهم وقضية أمتهم التي ستنجم عن الصفقة التي يروّج لها، وهي صفقة المتآمرين وعملائهم بكلّ ما تشكله من ضربة قاصمة لقضية الشعب الفلسطيني ووجوده وتاريخه وأرضه ومستقبله.
لم يعرف ترامب بعد، ولم يختبر معدن القيادة الإيرانية، ولا القرار الحاسم للشعب الإيراني بكلّ أطيافه، وإصراره على الخروج من دائرة الهيمنة والتبعية، والتمسك بكرامته الوطنية، أياً كانت التضحيات وطبيعة العقوبات التعسّفية الشرسة المفروضة على إيران. لقد ظنّ الرئيس الأميركي، أنّ التلويح بعمل عسكري، والتهديد، وحشد الأساطيل والسلاح الجوي، وتكثيف الوجود العسكري الأميركي في الخليج وغيره، يستطيع حمل إيران على الركوع والخضوع، وجرّها إلى مفاوضات الأمر، الواقع بالشروط الأميركية الكفيلة بإنهاء «الحالة الإيرانية» التي تشكّل العقبة الرئيسة في وجه سياسات دول الهيمنة وحلفائها، الرامية إلى احتواء المنطقة المشرقية بكلّ ما فيها، وفي ما بعد اقتلاع القضية الفلسطينية من جذورها ودفنها.
لم يرق للولايات المتحدة، وللعدو الصهيوني ولأتباعهما، أن يروا دولة كبرى في المنطقة، متحرّرة من النفوذ والوصاية والإملاءات الخارجية، تسير بخطى واثقة ثابتة في مجال التطوّر والتنمية المستدامة والقرار الحر، وامتلاك القدرات العسكرية الرادعة، وحيازتها على برنامج نووي سلمي، وتصدّيها لسياسات الاستعمار الجديد، ووقوفها بجانب القضايا العادلة للشعوب، لا سيما قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال، ودعمها للأنظمة الوطنية وللمقاومة في لبنان وفلسطين.
بعد فرض المزيد من العقوبات، والتهديد والوعيد… كان الردّ الإيراني حازماً: لا مفاوضات بالطريقة التي تريدها واشنطن. وإذا كان ترامب يعتزم دفع المنطقة إلى مواجهة عسكرية، فإنّ طهران جاهزة للردّ، وهي بالمرصاد لأيّ عدوان على أراضيها، قد تشنّه الولايات المتحدة عليها. وليتحمّل من يتحمّل تبعات ونتائج الحرب المدمّرة التي لن توفر أحداً، حيث ستجرف في طريقها أكثر من دولة في المنطقة وأكثر من حليف لواشنطن.
أميركا تريد إيران دولة هشّة، لا قدرة لها، ضعيفة، منـزوعة من برنامج نووي سلمي يوفر لها التقدّم العلمي، يجعلها تستخدمه في المجالات الصناعية والطبية والزراعية والبحثية، وأيضاً خالية من الصواريخ البالستية التي توفر لها الحماية والأمن والدفاع عن أرضها في وجه أيّ عدوان.
لا تكتفي واشنطن بهذا القدر، بل تريد أن ترى إيران مكتوفة الأيدي، تلتزم الصمت حيال ما يجري وسيجري في المنطقة، وأن تنهي حالة العداء مع إسرائيل، وإنْ كان ذلك على حساب مبادئها وأمنها القومي ومجالها الجيوسياسي الحيوي، وفي ظلّ وجود ترسانة نووية وصاروخية متنامية لدى دولة الاحتلال الصهيوني، التي تشكل تهديداً دائماً لسيادة وأمن واستقرار المنطقة. وما يريده ترامب أيضاً، عزل إيران عن غربي آسيا، وإفشال أيّ تعاون أو تنسيق مع دول الجوار، كي تخلو الساحة لواشنطن وعملائها ليفعلوا ما يفعلون للإمساك بالفريسة من كلّ جانب.
الردّ الإيراني كان حاسماً وواضحاً لا لمفاوضات الأمر الواقع، لا للمفاوضات حول ملف نووي تنكّر له ترامب، بعد انسحابه اللاأخلاقي من الاتفاق الدولي… ولا مفاوضات حول القدرات العسكرية الصاروخية الدفاعية لإيران حيث تريد واشنطن تفكيك الصواريخ البالستية ووقف البرنامج الصاروخي بالكامل. ولا تراجع عن مواقفها المبدئية الداعمة للأنظمة الوطنية وحركات المقاومة للاحتلال والهيمنة وتصدّيها لصفقة العصر والعمل على إجهاضها من أساسها.
يوماً بعد يوم يتضح للرئيس الأميركي ترامب، كما يتضح لغيره، أنّ سياساته العنجهية والتسلّط والابتزاز والاحتقار التي يعتمدها، وإنْ وجدت طريقها إلى بعض الدمى في المنطقة، وحققت غاياتها، فإنّ هذا الطريق مقفل عند حدود إيران… إذ انّ الإيرانيين ليسوا كغيرهم ممن أدمنوا منذ عقود على الخضوع والركوع والذلّ وهم ينفذون ما يُملى عليهم ويؤمَرون.
على الرئيس ترامب أن يعيد حساباته من جديد، فطهران تعرف ما لها وما عليها، وهي المحصّنة بقيادتها وقواتها المسلحة وشعبها وإرادتها وعقيدتها… وعلى واشنطن أن تعرف جيداً حقيقة ما يتوجب عليها إثر انسحابها المتهوّر من الاتفاق النووي، واستخفافها بالدول الموقعة عليه، وبعد الردّ الحاسم والموقف الحازم للقيادة الإيرانية حياله.
يعلم الرئيس الأميركي جيداً أنّ عقوبات أميركا المفروضة على إيران منذ أربعة عقود، لم تستطع رغم قسوتها وبشاعتها، أن تلوي ذراع إيران وتحيدها عن مبادئها ومواقفها الثابتة، كما أنّ العقوبات الجديدة، رغم شراستها وضغوطها وتأثيراتها العميقة على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والتنموية، لن تحمل إيران على الخضوع، والإذعان والابتزاز…
أمام هذا الواقع، هل يتراجع ترامب عن سياساته العدائية إزاء طهران، ويخرج من مأزقه ويتخلى عن سلوك القرصنة الذي يتبعه حيالها وحيال البعض في منطقتنا منذ توليه السلطة وحتى اليوم؟! فإذا كان هذا السلوك قد حقق غايته بعد أن لقيَ تجاوباً من قِبَل البعض، فإنّ طهران – وهذا ما يجب أن تعرفه واشنطن – ليست كالبعض في المنطقة، الذي عليه أن يفهم ويقتنع أنه لم يكن يوماً إلا وقوداً لحروب أميركا في المنطقة، ومطيّة لها، بأمواله وبشره واقتصاده وخزائنه ونفقاته العسكرية، حيث لم يحقق المكاسب والغنائم منها إلا اثنان: الولايات المتحدة والعدو «الإسرائيلي»…
حان الوقت كي يأخذ العرب العبرة ويتّعظوا…
*وزير الخارجية اللبناني السابق