يتذكّر المتابعون للشأن الإيراني جيّدا، المدّة التي خسرتها ايران الاسلامية، بوقفها الطّوعي من جانب واحد، ودون فائدة تجنى – حتى لو كانت سياسية صرفة – تخصيب اليورانيوم في عهد الرئيس محمد خاتمي، وتلك التجربة في التعبير عن حسن النّية، من جانب الحكومة الإيرانية، رغم ثقلها السّلبي على برنامج إيران النّووي السّلمي، لم تؤثر في أنشطتها الذّرّية الصناعية، وأعادت دورتها كما كانت، وفي خلدها أنها تعرّضت لخداع ومكر غربيّ مقصود، أرادت منه دوله – بما فيها فرنسا – تعطيل عمل البرنامج الاسلامي الايراني، مع علمهم اليقيني بأنه برنامج نووي سلمي.
امريكا تدرك جيّدا قبل اي دولة اخرى، ان ما أمضى عليه وزير خارجيتها السابق جون كيري، هو اتفاق مستوفي الشروط، ويكتسي أهمّية بالغة، في إطار الحدّ من الانتشار النووي العسكري، وضمانة لكل من شكّك في نوايا ايران الاسلامية، بسعيها لامتلاك أسلحة نووية من خلال برنامجها، مع علم قادة الغرب والعلم، بأن القائد الأعلى الامام السيد الخامنئي، كان افتى بحرمة امتلاك واستعمال هذا النّوع من الاسلحة، وكل سلاح يكتسي صبغة الإبادة للحياة على وجه الأرض، ما غيّر موقف أمريكا بعد تولّي قيادة دبلوماسيتها رئيسها الجديد ترامب، الذي سارع الى الاعلان عن خروج بلاده من الاتفاق النووي 5+1، معتبرا أنه إتّفاق ناقص، وعلى إيران ان تستجيب لتوسعته ليشمل جوانب أخرى متعلّقة ببرامجها العسكرية الدفاعية، وبدأت بالضغط على إيران فارضة كل فترة عقوبات جديدة عليها من أجل إخضاعها للشروط الأمريكية الجديدة. المطالب الأمريكية التي جاءت على لسان ترامب ووزير خارجيته بامبيو، هي تمنّيات صهيونية، مؤيّدة بدول التّبعية العربية، التي تعيش تحت الإبتزاز الامريكي، وكاشفة عن تطابق في وجهة النظر بينها وبين الكيان الصهيوني، فيما تعلّق بإيران، فما يثير قلق ما سمّي بإسرائيل من شأنه أيضا أن يثير خوف وتوجّس تلك الدّول، من إمتلاك إيران بتطورها الصناعي أسلحة عسكرية دفاعية، تسدّ حاجة قواتها العسكرية، في الذّود عن بلادها من أي عدوان يتهدد أراضيها ويستهدف مصالحها، يروّج لها أعداء إيران، على أنها أسلحة تهدد أمن واستقرار المنطقة، من هنا نفهم ان الإتفاق النووي المبرم مع ايران، هو إتفاق كامل الشروط، ومستجيب تماما لرفع هاجس وتوجّس الغرب، ودعوة الامريكيين في بداية الأمر الى مراجعته، على اساس أنه اتفاق منقوص، ثم بعد ذلك تسميته بالاتفاق السيء، يراد من خلال ذلك جرّ إيران الى النزول عند رغبة تلك الدّول، في ادراج برنامجها الصاروخي ضمن الاتفاق، وقد يمتدّ الى جوانب عسكرية أخرى، يراها الغرب بالإعتبار الصهيوني، تشكل خطرا على المنطقة، وما يهمّهم من تلك المنطقة ثلاثة عناصر: النفط والغاز والكيان الغاصب للقدس.
ويبدو أن الرئيس الفرنسي ماكرون آخر من دخل على خط الوساطة، التي يسعى الرئيس الأمريكي الى جني ثمرة ما منها، وفي اعتقاد الطّرف الأمريكي والوسيط الفرنسي، أن الأمر في المتناول وإمكان جمع النقيضين ليس مستحيلا برأيهم، والعقوبات المسلطة لحد الآن كفيلة باعادة ايران الى بيت الطاعة الأمريكي، وكأنّهم نسوا أو تناسوا ما بنت عليه إيران نظامها الاسلامي من مبادئ أساسية، ترفض الخضوع والذّل لدول اثبتت أنها عدوّة للإسلام والمسلمين، ومن بينها من هي أشدّ عداوة وهي أمريكا، التي أطلق عليها قائد الثورة الاسلامية، ومؤسس نظامها الإمام الخميني لقب الشيطان الأكبر. بهذا السلوك وهذه السياسة، يعتقد الغرب أنه بإمكانه أن يتحكّم في سياسات دول العالم، وينسى نفسه أنّه بأسلوبه، يذكّرنا بطبيعة الثعالب في الخداع والمراوغة، من أجل الإمساك بفرائسها والفوز بها، هذا الأسلوب من المكر السياسي، أصبح مكشوفا بالنسبة لإيران، وهي التي استخلصت العبرة من نتائج سلبيّة سابقة، وبالتالي فإنّ الحاصل بالنسبة اليها، أنّه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وما يسعى إليه ماكرون اليوم – وهو المجنّد لخدمة امريكا والكيان الصهيوني – لن تقبله إيران تحت ظل العقوبات المسلطة عليها، مهما كانت إغراءاته. فليوفّر الرئيس الفرنسي جهوده التي بدأ في بذلها، وهو يأمل أن يكون ثعلبا ماهرا، بعدما لبس ثوب الوسيط الناصح.
ايران المبدئية بقيمها الاسلامية، ليست كوريا الشمالية، حتى تنزلق الى مفاوضات استعراضية بلا فائدة، كل ما تريده ايران من أمريكا والغرب، يتلخّص في استعادة حقوقها التي سلبت منها ظلما، بالغطرسة الأمريكية والإيحاء الصهيوني، ولا يمكن لماكرون أن ينجح في مسعاه، الا برفع العقوبات جميعها أوّلا، وبعد ذلك ينظر في إمكانية اجراء محادثات غير ثنائية، تكون امريكا طرفا فيها، نظرا لانعدام الثقة بها في المحادثات المتعددة، فما بالك بالثنائية، والمثال الإيراني المتمثل في خروجها من اتفاق ابرمته، بعد سنوات شاقة من المفاوضات، والمثال الكوري الشمالي في اعتبار أن المفاوضات كانت مجرّد تسجيل حدث عالمي سياسي استعراضي، لم يسبق اليه رئيس أمريكي غير ترامب. عندما تتطابق لهجة ماكرون وترامب في اعتبار ايران داعمة للارهاب، والمقصود به حركات المقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني، وأنّ تطوير منظوماتها الدفاعية، يشكلان عامل عدم استقرار في المنطقة، تصبح اي وساطة من الجانب الفرنسي، عبارة عن خداع مبطّن، يخفي وراءه نيّة خبيثة. إيران لن تسقط في فخ الثعالب الغربية مرّة أخرى، وعلى الرئيس الفرنسي ماكرون أن يراجع نفسه، في الوساطة التي اقحم نفسه فيها، اللهم الا اذا كان سيتخذ منها سببا هو الآخر، بالخروج بدوره من الاتفاق النووي، بناء على فشل مسعاه، وملقيا باللائمة على ايران، وهذا ليس مستبعدا من قادة مستهترين بحقوق الشعوب الأخرى التي لا تزال نظرتهم اليها دونيّة