بقلم: محمد الرّصافي المقداد |
أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، ذلك الحدث العظيم الذي أطلّ على عالمنا المعاصر، يحمل أمل المستضعفين والمسحوقين، بغد يتنفسون فيه الصعداء، من تبعات الظلم والعدوان، الذي يقبعون تحت ثقله، ولا يستطيعون حيلة لدفعه عنهم، لضعف ألمّ بهم فأقعدهم عن مقارعته، واستكبار أصاب واسميهم ازدادوا به طغيانا، وأخرجهم عن طور الإنسانية المسالمة، إلى التوحش المادي، المتمرّد على جميع القيم الإلهية والبشرية على حد سواء.
عشرة أيّام كانت كافية لتحقق ذلك الأمل المنشود، مرّت بالتوّاقين لغد أفضل للإسلام وأهله، سريعة كأنها حلم، أعقب قيام ليلة، استجاب فيها المولى دعاء عباده الصالحين، حلّ آخرها اليوم الذي انتظرته طلائع الأمة الإسلامية، وتحقق فيه الوعد الإلهي بقيام نظام إسلامي واعد، فاستبشروا به، ولم يخفوا فرحتهم العارمة بقدومه، مباركا بقيادته العلمائية، وميمونا بشهدائه الأبرار، الذين ضرّجت دمائهم أنحاء إيران، واصطبغت بتربتها أرض الحضارات والرجالات، فزادت مولود الثورة رسوخا في أدائه ومواقفه.
في الوقت الذي بدأت الصحوة الاسلامية في تونس تخطو خطواتها الأولى، من حيث التنظيم والتأطير، وحشد الانصار والجماهير، برزت أحداث هامة في ايران، طغت على كل حدث، وحجبت بزخمها العالي رؤى المهتمين بالشؤون الدّولية كل ما يجري دونها، وكانت محلّ اهتمامهم، بسبب انفرادها بخاصيات لم توجد في غيرها، ولم يخبرنا التاريخ على مداه الطويل، عن نظير يحاكي قوّتها، ويوازي فكرها، ويتطابق مع أهدافها.
في ذلك الزمن، كنا نرى أنفسنا نحن طلائع العمل الاسلامي في تونس، مسؤولين عن اقامة الدين في مجتمعنا، وتبليغ متعلّقاته للناس، بما يعطيهم فكرة صحيحة عنه، ويوجّههم اليه لينخرطوا في خدمة أهدافه، ولم يكن ذلك بالأمر السهل والهيّن، في غياب ثقافة مواكبة للعصر، ومستجيبة لتطلّعات كافة أفراد المجتمع، غير فاصلة للدين عن السياسة، لكنه بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وانتشار ثقافة كبار علمائها، أمكن فهم الاسلام المحمديّ الأصيل، من رؤية ثورية إسلامية، قدّمها من قبل أبو الأحرار، سيد شباب أهل الجنة، الحسين بن علي، مثالا ونموذجا لطلب الاصلاح في الأمّة الاسلامية، قد تضمّنت قيما عالية للإسلام ومبادئه، جسّدها الشعب الايراني في ملحمة كبرى، أفضت به الى انتصار إلهي الباهر على أكبر طغاة العصر، وأحد أبرز عملاء أمريكا في المنطقة، شدّت إليه انظار شعوب العالم.
في تلك الأجواء صدّرت مجلّة (المعرفة) التونسية، لصاحبها الشيخ عبد القادر سلامة، احد مؤسسي حركة الاتجاه الاسلامي، غلافا ظهرت فيه صورة الإمام الخميني مبتهلا، قد غطّته وتوشحت بعنوان كبير، (وانتصر الإسلام)، وتحته مقولة الامام الخميني (عرّفوا الناس بحقيقة الإسلام، كي لا يظن جيل الشباب، أن أهل العلوم في زوايا النجف، يرون فصل الدين عن السياسة، وأنهم لا يمارسون سوى دراسة الحيض والنفاس، ولا شأن لهم بالسياسة) (1)
وبدا تأثير الثورة الاسلامية الإيرانية على الحركة الاسلامية في تونس كبيرا، وقد عبّر السيد عز الدين عناية (الاستاذ بجامعة لاسابيينسا في روما) عن ذلك بالقول أن الحركة : (حاولت تطعيم رؤاها ببعض المصادر الإسلامية الأخرى، على غرار التنبه للفكر الشيعي الإيراني والعراقي، والحديث عن الصراع الاجتماعي والسياسي في العالم، من خلال مقولتي الاستضعاف والاستكبار، فبات الإسلاميون في تونس يقرأون قوله تعالى: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) بنكهة أخرى لم يعهدوها، وتحولت البسملة إلى بسم الله قاصم الجبارين وناصر المستضعفين، حينها لاقت كتابات علي شريعتي، ومرتضى مطهري رواجا منقطع النظير، حتى أحدثت شرخا – وإن كان طفيفا- بين أنصار النهضة في الجامعة، عُرف بـ خطّ الإمام ، فضلا عمّا رافق ذلك الإنفتاح على التشيّع، من مساع لتأصيل الاقتصاد الإسلامي، بالاستعانة بمؤلّفي اقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام لمحمد باقر الصدر.) (2)
ولم يكن الشيخ راشد الغنوشي خارجا عن دائرة التأثّر والانبهار فقد كتب: (إن ثورة إيران هي ثورة الإسلام ضد الاستبداد والقهر والتبعية). مستشرفا مستقبلها بقوله: (ولذلك فسوف تكون نموذجا يهتدي به كل الأحرار في العالمين الإسلامي والنامي، وتصبح إيران قلعة للحرية ومركز الإشعاع الرسالي في العالم).
وبتعبير آخر أكثر تأثّرا ووضوحا، جاء مقال في العدد الثامن من مجلة المعرفة، بعنوان ( الرسول ینتخب إیران للقیادة ) جاء فیه : ( إن إیران الیوم بقیادة آیة الله الخمیني القائد العظیم والمسلم المقدام، معتبرا أ ّن الرسول عناه في حدیث ( إن الله یبعث لھذه ا ّلأمة على رأس كل مائة سنة من یجّدد لھا دینھا ). (3)وقال: (الثورة في إیران ھي المنتدبة لحمل رایة الإسلام بنجاح لیبدأ الإسلام دورة حضارّیة جدیدة ) (4)
ما يحاول الكثيرون تجنب الخوض فيه منذ ذلك الزمن الى اليوم، الحديث عن علاقة الثورة الاسلامية في ايران بالوحي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جانب أساسي بوّأها مكانة رفيعة وقدسيّة، جعلها محط اهتمام طلائع الامة وعلمائها ومثقفيها، ولم يبخل الحفاظ من أهل الحديث والتفسير بنقلها، فعند نزول قوله تعالى : ( وإن تتولوا يتبدل قوما غيركم ثن لا يكونوا أمثالكم) (5) وقوله تعالى : ( وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم)(6)
لما نزلت الآية كان سلمان الى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولّينا استبدلوا بنا؟ قال فضرب النبي على منكب سلمان وقال: من هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو أنّ الدين تعلق بالثريا لناله رجال من أهل فارس.) (7) أما فيما تعلّق بالآية الثانية، فإنّ البخاري لم يتأخّر عن ذكر ذلك بخصوصها، في جامع أحاديثه من كتاب التفسير، باب سورة الجمعة.
واقول انه لولا ارتباط تلك الظاهرة الفريدة بالوحي، لما قامت لها قائمة، مقارنة بما تعرضت له الثورة ونظامها الاسلامي، من مؤامرات ودسائس وعدوان مستمر، من القوى المعادية للإسلام المحمدي الأصيل، والعالم باٍسره يرى كل التكالب مسلّط على ايران، بسبب التزامها المبدئي بما أعلنه قائدها الاوّل، من مواقف تحررية ووحدوية، لفائدة الاسلام والمسلمين.
المراجع
1 –مجلة المعرفة العدد الثالث السنة الخامسة 1979
2 – https://www.babnet.net/festivaldetail-54600.asp
3 – سنن ابو داود كتاب الملاحم حديث: 4291
4 – مجلة المعرفة العدد الثامن السنة الخامسة 1979
5 – سورة محمد الآية 38
6 – سورة الجمعة الآية 3
7 – تفسير الطبري// تفسير ابن كثير الآية 38 سورة محمد