بقلم: عبد الحق خـالـد – كاتب من الجزائر |
ما هو مجتمع المعرفة؟.. مجتمع المعرفة بالتأكيد ليس هو مجتمعنا الحاضر، ولا هو مجتمع “كثافة” المعلومات، إنه مجتمعٌ رأسماله “الإنسان” بطاقاته اللاّمتناهية!.. منطلقه المعرفة ومنتهاه تحقيق كرامة الإنسان ومكانته اللائقة به في هذا الكون… فالمعرفة إذاً هي سبيله لتحقيق الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والسّلم الاجتماعي والتفوق الثقافي الحضاري.. إنه -بالمختصر المفيد- طموح الشعوب الحية في مُقبل الأيام.. فهل نحن منها؟..
قال لي وهو يحاورني، فقد كان طالباً “طاعناً في السن”، دخل الجامعة بعد الخامسة والثلاثين، وهو موظف وأب لثلاثة أطفال (أي طاب جنانو- بالتعبير الدارج عندنا).. وسألني في دهشة واستغراب: هل هذه الجامعة التي أراها اليوم بأم عيني وأرى ما يـدور فيها هي نفسها تلك التي كنت أحلم بالدخول إليها وأنا شاب يافع مولع بالعلم وصروحه، وقد أقمتُ لها تمثالا عظيما “على جبل الأوليمب مع آلهة الإغريق” تحوطه القداسة والرهبة والخشوع؟.. فأجبته متسائلا بدوري: وكيف هـي الجامعة التي كانت تسكن خيالك وتملؤك الحماسة والفضول لاقتحامها والتخرج فيها؟.. ثم ما هي المظاهر التي رأيتها في جامعة اليوم وأصابتك بكل هذا الإحباط وخيبة الأمل؟.. ولم يتمالك صديقي نفسه وراح يسرد عليّ الكثير مـن الحقائق والوقائع والقصص المثيرة.. فكان مما قال: لقد كنا نسمع ونحن صغار العجبَ عن الجامعة والجامعيين بعد الاستقلال وفي السبعينات من القرن الماضي، يوم كان الطالب طالبا للعلم بحق، له احترامه وهيبته بفضل تحصيله العلمي ورصيده الفكري وشخصيته القوية المؤثرة، حتى بلغ بالطلبة الأمر – كدليل على هذه المكانة المتميّزة- مناقشة الراحل بومدين (رئيس الدولة) بشجاعة وصراحة في الكثير من المسائل المصيرية، وكان – رحمه الله- يتفاعل مع تلك النقاشات ويسعد بها، ويتفاءل بهذا الغرس الذي غرسته يداه.. فيطمئن إلى مستقبل البلاد؟..
وأما الجامعات، على قلّتها، في تلك الأيام – إذ لم تكن في كل ولاية جامعة- فكانت صروحا علمية وفكرية حقيقية، تلتقي فيها التخصصات وتتنافس الأفكار والثقافات كما تتعايش فيها العادات والتقاليد المكوّنة للموروث الثقافي لمناطق البلاد المختلفة، فتنصهر جميعها وتتوحد لتنتج تلك الكفاءات المعوّل عليها في بناء الدولة، والسيّر بالمجتمع في طريق نموه ورقيّه؟.. لقد كانت الجامعة بالفعل “منتجة للنخبة”، وورشات مفتوحة للمعرفة، من ملتقيات فكرية ومؤتمرات علمية، ومخابر للبحث الجاد لم تكن تحلم بمثلها “كوريا الجنوبية” أو “الهند” أو “ماليزيا”؟.. واليوم؟.. وأخذ صديقي نفَسا عميقا قبل أن يكمل: واليوم، يدخل المرء الجامعة فيراها خاوية على عروشها -شكلا ومضمونا-.. حيطانٌ عالية لا روح فيها ولا جمال؟.. قاعات للمحاضرات مهجورة لا يرتادها، في أحسن الأحوال، أكثر من خمسين إلى ستين طالبا، والطلبة المتغيّبون عنها يفضّلون شراء محاضراتهم مطبوعة من أحد الأكشاك داخل “الحرم” الجامعي أو خارج باب المعهد، والمكتبة تكاد تكون خالية إلا من بعض الطالبات المشغولات بالتبرج والزينة، أو بعض الطلبة المنهمكين في الاستماع للموسيقى والأكل بشراهة؟.. وأما الملتقيات العلمية والأيام الدراسية التي ينظّمها (كسرا للروتين) هذا المعهد أو ذاك بين الفينة والفينة، فلا يحضرها إلا المعنيون بتنظيمها أو المدعوون إليها من أساتذة محاضرين.. وأما جمهور الطلبة فيتم إجبار أغلبهم على حضورها بعد غلق الأبواب وراءهم؟؟.. والطلبة عموما يتعاملون بسلبية مع هذه المناسبات فيفضّلون التسكع في أروقة وساحات المعاهد على المشاركة فيها، ويعلّلون موقفهم هذا بأنه لا طائل من ورائها، فهي تبذير للمال لا أكثر؟.. وأما ما أصاب الجامعة في مقتل فعلا وهبط بسمعتها إلى الحضيض فمظاهر الميوعة والتسيب التي حوّلتها أوكارا للرذيلة وأحيانا مسرحا للجريمة؟.. فليس خافيا تحوّل قاعات وحجرات التدريس وبعض الأماكن العامة داخل الجامعة إلى ملجأ للمواعيد الغرامية الحارة؟.. حتى أصبحت كثير من المظاهر الشائنة وفضائح الجامعيين مادة دسمة للجرائد “وصفحات التواصل الاجتماعي” على النت، تتناولها بنوع من التندر والتهكم؟.. وكان من نتيجة هذه الفوضى “غير الخلاّقـة” ذهاب هيبة الجامعة والسّخرية من الجامعيين، وقد تعدّت آثارها المتسببين فيها إلى المجتمع بأسره تنخـر قواه وتقوّض دعائمه؟.. وصمت صديقي لحظة ثم عاد مستدركا ليقول: لذلك، ليس غريبا – وهذا من الحقائق التي توجع القلب- أن تجد الشاب المتخرج في الجامعة الجزائرية، وقد تكوّن في مثل هذه الأجواء، وليس في رصيده المعرفي “كتاب واحد” قرأه خارج المقررات الرّسمية المفروضة عليه، وليس غريبا بالنتيجة ألاّ تجد “جامعة جزائرية” واحدة من بين الخمسمائة جامعـة المصنّفة عالميـا؟؟.. و…
فقلت مقاطعا: رويدك.. فقد صببت جامّ غضبك على الطالب المسكين، وحمّلته من المسؤولية ما لا يطيق.. والطّالب، كما تعلم، ليس هو كل الجامعة وإن كان العنصر الأساس فيها.. فمـاذا عن بقية الفاعلين في “عـالم” الجامعة.. البرامـج، والأستاذ والباحـث الجامعي مثلا؟..
فأجاب بامتعاض بادٍ: يا أخي أنا طالب قبل كل شيء، ووضع الطالب هو ما يعنيني، أما التحليل والخوض في بقية الأسباب فأتركه للمتفلسفين من أمثالك.. أنا أركّز على الطالب لأنه يحزّ في نفسي بعد كل جهود البناء تلك أن يتراجع دوره فيصبح “من سقط المتاع؟” وبعد أن كان يحمل مشروع دولة ناهضة يرضى لنفسه أن يُختزلَ دوره في الاحتجاج على سوء الإطعام أو النقل؟.. أيّ تقهقر هذا وأيّ مصير؟..
وأما سؤالك عن البرامج فأنا أستطيع أن أزعم، باختصار، أنه لا يد لنا فيها ولا إبداع، فهي ناجحة في موطنها فاشلة عندنا لأنها مستنسخة برداءة “عالية”؟.. وأما الأستاذ – يا سيدي- فهو ولا شك يتحمّل نصيبا من المسؤولية ليس بقليل، لأنه تخلى عن دوره الريادي هو الآخر في إنتاج المعرفة كباحث أكاديمي أو كمثقف، وتحوّل إلى مجرد موظف – وأنا هنا لا أريد أن أعمّم- وبعد أن كان يلهث وراء المتطلبات الضرورية من مأكل وملبس ومسكن، فهو اليوم يبحث عن “البريستيج”!.. إنه رجل مستهلك لا منتج مبدع، لا فرق بينه وبين رجل الشارع؟.. ومن المعيب حقا أن يقضي الرجل السنوات الطوال في هيئة التدريس بالجامعة ثم لا تجد له عملا منشورا أو بحثـا جـادا يجدّد به معلوماته ويواكب به التطورات الحاصلة داخـل تخصصه نفسه، ثم لا يتخذ “المجلس العلمي” أي إجراء بشأنه.. كما تفعل الجامعات التي تحترم العلم وتحترم نفسها، إذ تقضي تقاليدها أن تكون الأعمال المنشورة وتقديم بحث أو بحثين كل سنة شـرطا في التوظيف لديها والانتساب إلى هيئتها؟..
وبدا على صديقي الضجر فأنهى حديثه بالقول: كنت أتمنى أن أدخل عالم المعرفة من باب الجامعة فأكمل نقصي وأرتقي بنفسي محلّقا عاليا كالنسر، فإذا بها تهبط بي فأحـسّ بأني أعطي وقد قصدتُـها لآخذ، ومن سوء حظـّي أني قرأت مقولة رائعة “لنابليون بونابرت”عن قـوّة الإرادة ومضاء العزيمة عند أصحاب الهمم العالية تقـول: “أصحاب النفوس الضعيفة أفكارهم هزيلة، أما أنا فأحـسّ باللانهائية في داخلي؟..” وهـذا الإحساس باللانهائية هو الذي يدفعني إلى رفض الاستسلام.. إنه لشيء مؤلم بالفعـل أن توقّف عطاء الجامعة فتخلّت عن دورهـا في التأسيس لمجتمع ما بعد “الزراعي”.. مجتمع المعرفة؟..
فختمت بالقول: لابأس عليك، فقد أصبحت متفلسفا بدورك.. وقد صدق -صديقك- نابليون وصدق قبله شاعرنا الذي قال:
ومن تكن العلياء همّـة نفسه فكلّ الذي يلقـاه فيها محبّب؟..
لكن عليك أن تعلم أن أزمة الجامعة هذه ما هي في الواقع إلا تعبير عن أزمة “كـلاّنية” أعمق وأخطر، تبدأ من منظومة التربية والتعليم، بكل أطواره، ولا تنتهي عند النخبة السياسية المفلسة؟ لأن “مشكلة أي شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته”، ولأنه “من سنن الله في خلقه أنه عندما تغيب الفكرة يـبزغ الصنم” كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي..
لهذا ياصديقي لا تسأل: أين ذهبت قدرتنا على الحب والابتسامة البـريئة، ولا لماذا فقدت الزهور ألوانها، في زمن العـودة إلى البداوة واللاّمعـنى؟..
وقد صدق “المتـنبي”، عبقري الشعر العربي حين قال:
ذلّ مـن يغبط الذليل بعيش رُبّ عيش أخـفّ منه الحمام
من يهن يسهل الهوان علـيـه مـا لـجـــرح بميّــــت إيــــــلام؟..