أوروبا، وفي سعيها لإيجاد حل لما غرف بـ”المسألة اليهودية” خلال القرن الماضي، هي المسؤولة عن إنشاء المشروع الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين من خلال: وعد “بلفور” البريطاني، و المحرقة “الهولوكوست” الألمانية، والدور الفرنسي في حيازة
إسرائيلللسلاح النووي، لذلك تتحمل أوروبا مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه فلسطين وشعبها.
أوروبا صاحبة مشروع “حل الدولتين” والتي ربما طالبت إسرائيل لأول مرة بوقف استيطانها داخل حدود 1967 من خلال ما يعرف بإعلان البندقية الصادر عن “المجموعة الأوروبية” في عام 1980، في ذلك الوقت وحسب بيانات منظمة “بيتسيلم” الإسرائيلية، كان عدد المستوطنات الاسرائيلية في حدود 1967 أقل من 50 مستوطنة. اكتفت أوروبا منذ ذلك الوقت (1980) بإصدار البيانات التي تشجب و تحذر إسرائيل من استمرارها بالاستيطان في أراضي 1967 التي من المفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية والتي تمثل أقل من 22% من مساحة فلسطين التاريخية. اليوم، أصبح عدد المستوطنات الإسرائيلية في أراضي 1967 أكثر من 250 مستوطنة (منها 110 بؤرة استيطانية يجري تشريع أغلبها) يسكنها أكثر من 600 ألف اسرائيلي، أي أن حوالي رُبع سكان الضفة الغربية هم من المستوطنين الإسرائيليين.
المجتمع الدولي وعلى رأسه الاتحاد الاوروبي، أكبر الداعمين لحل الدولتين، وبتبادلات تجارية بين دول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل تجاوزت الـ33 مليار يورو (40 مليار دولار) في 2019. يحاول الاتحاد الأوروبي ودوله اصطناع سياسات لتبدو كأنها متوازنة تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ولكن الحقيقة أن سياسات المجتمع الدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي تجاه إسرائيل والسلطة الفلسطينية هي سياسات لإدارة الصراع وإطالة الوضع الراهن أطول فترة ممكنة. بل أن تلك السياسات متهمة بالمساهمة الفعّالة أيضاً في سياسة “شراء الوقت” لصالح إسرائيل بالحقائق التي تفرضها على الأرض، وذلك يتضح من خلال:
أولاً: بعدم ممارسة أي نوع من الضغوط على اسرائيل لإنقاذ حل الدولتين الذي يدّعي الاتحاد الأوروبي ودوله بأنه لا يوجد بديل لهذا الحل. أما خطوة الإتحاد بوسم (وليس مقاطعة) منتجات المستوطنات الاسرائيلية، والتي سوّقها الإتحاد الأوروبي على أنها خطوة تاريخية للضغط على إسرائيل!! في الواقع هي حق من حقوق المستهلك الأوروبي بمعرفة منشأ المنتجات التي يستهلكها. والأهم أن نسبة تلك المنتجات لا تفوق الـ2% من مجمل صادرات إسرائيل إلى دول الاتحاد، وبالتالي فإن أثرها على الاقتصاد الإسرائيلي يقارب الصفر. في المقابل، يستفيد الاقتصاد الاسرائيلي بنسبة تفوق الـ70% من مجموع “المساعدات” الدولية للفلسطينيين التي معظمها “مساعدات” أوروبية. مع ذلك، دمرت إسرائيل مشاريع فلسطينية ممولة من الاتحاد الأوروبي بقيمة أكثر من 2 مليون دولار في الفترة ما بين 2015-2020.
ثانياً: دعم نظام السلطة الفلسطينية السلطوي بأكثر من 600 مليون يورو سنوياً (733 مليون دولار) من أموال دافعي الضرائب الأورروبيين، في الوقت الذي يطالب به ثلثا (66%) الفلسطينيين من رئيس تلك السلطة بالاستقالة وهو الذي أنتخب بآخر انتخابات رئاسية للسلطة عام 2005!! بل إن أغلبية الفلسطينيين (62%) أيضاً يتعبرون السلطة برمتها عبئاً عليهم وعلى قضيتهم.
لم تكتفي أوروبا بالمساهمة الفعّالة بسياسات “شراء الوقت” لصالح إسرائيل، بل تقوم بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا بمحاصرة ونزع الشرعية عن حركة مقاطعة اسرائيل وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات (BDS)، من خلال قرار البرلمان الألماني ـ بوندستاغ ـ في عام 2019 الذي يعتبر”حركة مقاطعة إسرائيل” معادية للسامية، ويرفض نشاطها، ويمنع تمويلها، ويدعو إلى مواجهتها. وكذلك قرار البرلمان الفرنسي في 2019 أيضاً، بتوسيع تعريف “معاداة السامية” ليشمل معاداة الصهيونية وإسرائيل. وهذا يوضح بأن سياسات الإتحاد الأوروبي ودوله تجاه إسرائيل والسلطة الفلسطينية هي على حساب معاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه ومستقبله.
بالرغم مما سبق، يعترف العديد من السياسيين والدبلوماسيين الأوروبيين بفشل وموت حل الدولتين إلّا أنهم يجدون صعوبة بالإعتراف بذلك علانية والتخلي عن حل الدولتين بحجة استمرار تمسك الطرف الفلسطيني الرسمي به وبسبب دفعهم لمليارات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين بذريعة المساهمة في حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لذلك يفضل الأوروبيون أن يأتي إعلان هذا الفشل من الطرف الفلسطيني المتضرر والخاسر الوحيد من استمرار الوضع الراهن. ولكن هذه الحجة باطلة، لأن الاتحاد الأوروبي ودوله يعلمون علم اليقين أن القيادة الفلسطينية الحالية لا تمثل الفلسطينيين وأن وجود ومصالح هذه القيادة مرتبطة أصلاً بإطالة وهم حل الدولتين الذي يؤيده فقط 39% من الفلسطينيين حسب استطلاع الرأي العام رقم 75 للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية. بالرغم من أن حل الدولتين هو البرنامج الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية والمجتمع الدولي، ورغم الجهد الإعلامي والتعبوي الذي روجت له المنظمة واستثمر فيه المجتمع الدولي مليارات الدولارات لأكثر من ثلاثين عاماً. لذلك تستغل أوروبا ضعف وافتقار هذه القيادة للشرعية من شعبها لتمنحها شرعية دولية بديلة قائمة على المال مقابل الحفاظ على الاستقرار.
على الاتحاد الأوروبي ودوله المثقلة بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية تجاه الفلسطينيين وقضيتهم أن تحترم القيم التي تؤمن بها أوروبا، والتي تتعارض مع سياساتها الحالية التي تساهم في إطالة الوضع الراهن وهو دولة واحدة قائمة على الفصل العنصري الإسرائيلي “ابرتهايد” المتواري وراء وجود السلطة الفلسطينية التي تعترف قيادتها بأنها ليست أكثر من وكيل لاسرائيل. لذلك على الاتحاد الأوروبي ودوله التوقف عن المراوغة المكشوفة وتبني استراتيجية جديدة تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هذه الاستراتيجية يجب أن تكون قائمة على حل دولة ديمقراطية واحدة تضمن المساواة لكل مواطنيها بين النهر والبحر واستبدال “المساعدات” المالية بتعويضات في إطار حل الدولة الواحدة. وهنا لابد من الاشارة إلى أن 37% من الفلسطينيين يؤيدون حل الدولة الواحدة رغم عدم وجود حزب سياسي فلسطيني واحد يتبنى خيار حل الدولة الواحدة، ورغم شعور الفلسطينيين بضعفهم وعدم قدرة قيادتهم على إجبار الإسرائيليين على قبول هذا الحل.