تونس – من هيثم الزبيدي
المكتب الشخصي للرئيس التونسي الباجي قايد السبسي أنيق. ثمة تناسق بالألوان وتوزيع متجانس للأثاث. وفي مواجهة طاولة المكتب، إلى الجانب اليسار من الباب، هناك خزانة خشبية يتربع فوقها تمثال نصفي للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة. عندما يجلس الرئيس على مكتبه متصفحا أوراقه، فأن عينيه ستقعان دائما على التمثال. هو اختيار لافت للرئيس الباجي الذي لم يشأ أن يكون التمثال في أروقة القصر الرئاسي في قرطاج، بل في مكتبه الشخصي. كأنه يقول إنه الأمين على الارث البورقيبي. ليس ذلك محاولة للاستئثار بهذا الارث بقدر ما هو رغبة في الاستئناس به في مرحلة التأسيس بما تحمله من معطيات تفرض نفسها اليوم، وما تعنيه من حماية للتجربة الديمقراطية و ترسيخ للانموذج المجتمعي.. وذلك ربما أكثر من أية مرحلة في تاريخ تونس الحديث.
قدرة الرئيس الباجي على التركيز لافتة للنظر. يبدو وكأن لا شيء يفوته. القمة العربية القادمة في تونس حاضرة في ذهنه كما هو الشأن التونسي المتسارع حدثا وتغيرات.
بدأ الحديث باشا مبتسما، حتى قبل أن أستأذن منه بتشغيل جهاز التسجيل. كانت الإشارة واضحة بأن الأحداث سريعة ومتتابعة لا تعطينا ترف الزمن. لكني لاحظت عليه توثبا ورغبة في التحدي منحته طاقة استثنائية.
القمة العربية
تستضيف تونس القمة العربية في شهر مارس بعد ان اعتذرت البحرين. لا يخفي الباجي أن القمة بقدر ما يجب أن تكون قمة المصالحة العربية فهي تتويج لمسار تصالحي بين تونس والكثير من الدول العربية.
يقول وهو يدرك دوره في المسار “عندما توليت الرئاسة كانت تونس في قطيعة مع أغلب الدول العربية: مصر، الجزائر، ومختلف الدول العربية، إلا قطر. أعدت المياه إلى مجاريها. وقمت بزيارة كل الدول العربية من مصر إلى الكويت والسعودية.”
اليوم سوريا هي شاغل القمة القادمة. ويرى الباجي أنها قمة “جمع الصفوف وستتم في أحسن الظروف. نحن لا نملك مواقف سلبية ضد سوريا أو أي كان. نحن مع الاجماع العربي، والقرار الذي ستعتمده الجامعة العربية سنعتمده.”
لكن الباجي يقدر حجم الحساسيات المتراكمة بين الدول العربية في قضايا عدة ويشير إلى أن تونس لا تريد أن تكون طرفا فيها. فـ “الحساسيات الموجودة في الخليج اليوم لا نتدخل فيها ووجهنا الدعوة لنستضيف الجميع.
قمة تونس هي قمة الكل.” سنرى إن كان الكل سيشمل سوريا.
ليبيا دائما
نظرة الباجي الى محيط تونس العربي والدولي نظرة ثاقبة تتابع كل التطورات وتبحث عن مصلحة تونس والمنطقة العربية فيها. يرى الباجي في ليبيا عنصرا محددا في محيط تونس الاقليمي.
يقول “ليبيا بالنسبة لتونس شيء هام بل وحيوي. ونحن دائما نقول ليبيا وتونس شعب واحد وفي دولتين. تربطنا علاقات مميزة تاريخيا. وعندما انهارت الدولة في ليبيا تضررت تونس. نحن في تونس نرغب في عودة الدولة الليبية ونعمل من أجل ذلك. لكن عن طريق ليبي-ليبي ودون تدخلات خارجية لأن هذه التدخلات هي التي عقدت الأوضاع. وقد أخذنا مبادرة ثلاثية، تونس ومصر والجزائر، من أجل تحقيق ذلك، كما أن المبعوث الأممي يقوم بمجهود جيد، لكن ذلك غير كاف والوضع مازال غير مستقر.”
ويضيف: “أقول للأوروبيين أتركوا الليبيين ليجدوا الحل بأنفسهم مع الأمم المتحدة.” لكني أسأله بكيف يتركونها في حالها حيث يختلط السياسي بالميليشاوي فيرد :”صحيح، لكن هذه مسألة وقت. وعندما تتدخل الدول ستطول المدة أكثر. والمسألة في ظل التدخلات الأممية ما زلت تحت السيطرة. تونس تضررت كثيرا لأنه كان لديها معاملات كثيرة مع ليبيا، وأيضا تضررت بسبب الخطر الإرهابي. وما دام الوضع على حاله فسيأتينا الإرهابيون من هناك، وان كانوا ليسوا ليبيين بل تونسيين. مثلا العمليات الإرهابية الثلاثة الكبرى التي شهدتها تونس في سنة 2015 والتي كان مصدرها ليبيا.”
يرى الرئيس الباجي أن أطرافا عدة تتدخل في الاقليم. يقول “صحيح هناك دور تركي وأيضا أدوار تلعبها دول عربية بالإضافة إلى الأوروبيين.” ويعتقد أن الموقف الأميركي مرتبط بعلاقتها باسرائيل “أميركا دولة عظمى وتتدخل في كل شيء، لكن إذا لم تتخل عن إسرائيل وأن تتخذ موقفا محايدا، فإن الوضع سيبقى على ما هو عليه.”
ينتبه الرئيس الباجي إلى الدور الروسي في المنطقة فالعالم اليوم “لم يعد مثل عهد الحرب الباردة منقسما، وروسيا اليوم فاعل رئيسي. اليوم الولايات المتحدة والغرب يتعاونون مع روسيا لحل المشاكل في المنطقة.”
ويشخص التقاطعات السياسية للقوى الاقليمية الصاعدة كالمشروع الإيراني والمشروع التركي. ويقول “كنا نأمل أن يكون هناك مشروع عربي، لكن الأزمة الخليجية أثرت في العالم العربي وتوازناته. لهذا نحن لا نريد أن نأخذ موقف يعارض أو يساند طرفا على حساب الآخر. نؤمن أن مصلحتنا في أن تعود العلاقات. مجلس التعاون الخليجي أهم انجاز في المنطقة وكنا نفخر به. كنا سباقين في المغرب العربي لكن مشروعنا كان معطلا وابتهجنا بالمجلس التعاون الخليجي. لكن الأزمة الأخيرة جعلته في حالة تململ. يجب أن تعود العلاقات ويعود دور مجلس التعاون الخليجي ويساهم في جمع الصف العربي. وسنعمل في القمة على ذلك.”
النهضة المسيطرة على الحكومة
القمة العربية ستكون بعيدة عن مشاكل تونس الداخلية. ولكن المشاغل الوطنية غير بعيدة عن ذهن الرئيس في أية لحظة من اللحظات. والرئيس الباجي كان صمام الأمان في المشهد السياسي التونسي المتقلب دوما. واليوم الجميع في تونس يتابعون مواقفه باهتمام فقد تكون العنصر المحدد التوازنات القادمة. فحركة “نداء تونس” التي أسسها عام 2012 واستطاعت أن تحصل على المركز الأول في انتخابات 2014 التشريعية، تواجه جملة من التحديات والانشقاقات جعلتها عمليا في المركز الثالث من حيث عدد الأعضاء في البرلمان. أمامها تقف كتلة حركة النهضة التي أصبحت الكتلة الأكثر عددا، ليعكس هذا تنظيما والتزاما من قبل نواب وأعضاء الحركة بعد أن منيت بهزيمة مضاعفة في الانتخابات التشريعية أولا ثم بهزيمة مرشحها للانتخابات الرئاسية سنة 2014. فما خسرته الحركة في علاقتها مع الشعب التونسي في تلك الانتخابات، استطاعت تعويضه بفضل استغلالها الفوضى الحزبية التي سادت بين الاحزاب المنافسة لها على المشهد السياسي التونسي. وهو مشهد لا يمكن إلا أن يوصف بالتفكك أولا ثم التشظي ثانيا. فالاحصاءات تشير إلى وجود 215 حزبا سياسيا اليوم في تونس، كلها أو جلها هي نتيجة انشقاقات حزبية داخلية، لعل أبرزها الانشقاق على “نداء تونس” الذي صار حزبا اليوم يحمل اسم “تحيا تونس” تحت قيادة رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
الباجي لا يتردد في وصف ما يحدث في تونس. فالنهضة “مسيطرة على المشهد السياسي”. ويقول “كان عندنا مساهمات كثيرة من أحزاب سياسية مختلفة شاركت في ما يسمى ‘وثيقة قرطاج’ التي شاركت فيها النهضة لكن أيضا شارك فيها الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين واتحاد المرأة بالإضافة إلى نداء تونس وحزب الوطني الحر وأحزاب أخرى فازت في الانتخابات. بعد الحوار الذي انعقد، طالب أغلب المشاركين بتغيير الحكومة ورئيسها، لكن حركة النهضة امتنعت. وهي الآن مسيطرة على المشهد السياسي التونسي، باعتبار أنها المساند الرئيسي للحكومة، ورئيسها، الآن. والأكيد أنه بلا دعم النهضة لن تكون هناك حكومة.”
ترويكا جديدة بقيادة النهضة
ويرى الباجي أن “النهضة هي الحزب الأول وتملك الأغلبية في مجلس نواب الشعب ب68 نائبا، وهؤلاء صوتوا للحكومة الجديدة دون استثناء، كما صوتت لها أطراف أخرى منها الائتلاف الوطني، المكون من شظايا الكثير من الأحزاب التي انفصل أعضاؤها عن نداء تونس، وحزب آفاق تونس، يضاف إليهم نواب حزب مشروع تونس (وأصلهم من النداء)، ليكونوا أغلبية بـ130 نائبا، أي 60 بالمئة من مجموع النواب.”
ويرى الرئيس الباجي أن من أعطى المشروعية للحكومة (بعد المطالبة بتغييرها) “هي هذه الترويكا الجديدة: النهضة والائتلاف الوطني ومشروع تونس.”
ويؤكد أن واقعا تشكل اليوم بسبب السيطرة التي تمارسها النهضة على الحكم. فـ” الدستور في تونس يؤكد أن السلطة التنفيذية فيها رأسان: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وكل طرف حسب مشمولاته. وهي أمر سلبي يحتاج أن يتغير. لكن، إذا لم يوافق رئيس الجمهورية على الحكومة أو طلبت استشارته بشأنها، تصبح السلطة التنفيذية برأس واحدة فقط هو رئيس الحكومة، وهو الواقع اليوم، وهو ما يرسخ سيطرة النهضة على المشهد السياسي. ولو كنا نريد شيئا آخر غير مصلحة تونس كنا تمسكنا بنص الدستور الذي يقضي بضرورة أن يبدي رئيس الجمهورية رأيه في الحكومة ويوافق عليها قبل أن تتوجه إلى مجلس نواب الشعب الذي يقبل أن يتصل به رئيس الحكومة مباشرة دون تواصل مع رئيس البلاد. لأول مرة خرقنا القواعد لأنه هناك أغلبية ذهبت في اتجاه هذا الخرق.”
سألته: قبل سنتين في لقائكم معنا قلتم إن النهضة مكون سياسي له مكانته ودوره، ما الذي تغير؟
رد “هذا شيء ثابت لأن النهضة وقع انتخابها والشعب صاحب السيادة. اليوم المعادلة تغيرت. الائتلاف الوطني غير التوازنات. أغلب مكونات هذا الائتلاف انتخبوا على أساس انتمائهم لنداء تونس. ثم غيروا الوجهة في إطار ما يسمى بالسياحة البرلمانية، وهو أمر يجب أن لا يستمر. كل هذا يجعل الهيمنة للنهضة التي تسير في الحكومة، ودون النهضة لا وجود لهذه الحكومة. النهضة لديها سياستها وأهدافها وتحدياتها وهي الآن تؤثر في المشهد.”
تذكرت ما كان يقوله صحفي تونسي مخضرم عن “شهية” النهضة التي زادت “مع الأكل”.
الجهاز السري
لكن بعدا جديدا أمنيا دخل على الخط السياسي صار يثير القلق عند التونسيين بالعموم، لكنه يحمل الرئيس الباجي مسؤولية مضاعفة. إنه موضوع “الجهاز السري” للنهضة التي تتراوح أوصافه بين جهاز استخباري بمرجعية أخوانية دولية، إلى ذراع أمني لحركة النهضة بقدرات عسكرية، وصلا إلى ماكنة لتجنيد الجهاديين في تونس وإرسالهم إلى جبهات مختلفة منها سوريا والعراق وليبيا.
يسود الحديث في تونس عن تراكم مئات (البعض يتحدث عن آلاف) الوثائق عن “الجهاز السري” وأن أجهزة الأمن قد وضعت بين يدي الرئيس المعطيات وأن كشفها قادم لا محالة أمام الرأي العام التونسي وأن تحريكها قضائيا بدأ بعد.
يقول الباجي “أنا من موقعي كرئيس للجمهورية، بقطع النظر عن انتماءاتي الشخصية، أدعم الشفافية. الشعب يجب أن يكون على بينة من الطريق الذي نسير فيه. وهذه الشفافية تقتضي أنه إذا كان هناك تفاصيل ثابتة بالوثائق لن نتخلف عن إشهارها لسلامة المسيرة التي نحن نمشي فيها.”
ويضيف “لا بد أن نتأكد إن كان هناك ذراع سري. النهضة تنكر وجوده لكن الكثير من المراقبين السياسيين والمحامين الذين يتابعون قضايا اغتيال الشهداء يقولون إنه موجود. دولة مثل تونس تريد أن تكون ثورتها نزيهة يجب أن تعرف هل هذا الجهاز موجود أم لا. لهذا يجب أن نقوم بالاستقاء والتحقق للتأكد من أنه موجود. نحن لا نتهم دون حجة.”
يشير الباجي قائد السبسي الى اغتيال الزعيمين شكري بلعيد وأحمد البراهمي سنة 2013 في ظروف لم تتوضح تماما بعد.
و التحقق يفتح أبواب كثيرة في علاقة النهضة مع دول وتنظيمات عالمية وهو ما يراه الباجي جزءا من مسار الشفافية في تونس. فـ”الحديث عن البعد العالمي لحركة النهضة صحيح كونها من جماعة الإخوان المسلمين. لكن لا ننكر أن النهضة قامت بمجهود لتتحول إلى حزب سياسي عادي. لكن هذا المجهود غير كاف. عندما انعقد المؤتمر الأخير للنهضة حضرت في افتتاحه حتى أشجع على التحول إلى حزب سياسي حقيقي لكن تبين أنه المجهود غير كاف وذلك لأنه قام على فكرة الفصل بين الدعوي والسياسي، وهذا غير ممكن وليس المطلوب. على كل حال الثابت الآن أنه يجب التأكد من وجود هذا الذراع السري لسلامة الأوضاع أولا، وثانيا نتأكد هل كان لهذا الذراع دور في الاغتيالات أم لا، رغم رغبة بعض الأطراف في التعتيم على الموضوع لضمان دعم النهضة في الانتخابات القادمة.”
موضوع الاغتيالات قضية شائكة في تونس التي تطالب بمعرفة من استهدف صفوة من السياسيين التونسيين في مرحلة حرجة ما بعد الثورة. لكنه لا يقل أهمية عن معرفة طبيعة “الجهاز السري” في تجنيد المجاهدين وحثهم على الانضمام إلى جماعات خارجية. وهو الأمر الذي يحرص الرئيس على الوصول فيه إلى الحقيقة. يقول “لا بد أن نتأكد من ذلك. لو كنت أنا النهضة لكنت عملت على إثبات أن هذا الأمر غير موجود. لكن نحن ليس لدينا موقف معادي أو متحمس لهذا أو لذلك. نحن نتحمس للحقيقة لأنها ذات فائدة للجميع.”
لكن النهضة جزء من الحكومة والداعم الأكبر لها. وتحفظات الرئيس الباجي صارت معروفة وخرجت إلى العلن في أكثر من مناسبة. وهذا يعقد العلاقة بين قصر قرطاج والقصبة حيث تقيم رئاسة الحكومة. فالرئيس يتعامل مع “الحكومة التي هي حكومة النهضة (130 صوتا من جملة 217 صوتا). هي حكومة النهضة منذ أن زكاها 60 بالمئة من النواب بأصوات مريحة، لهذا هي حكومة النهضة. إذا تسحب النهضة ثقتها منها تسقط.”
ويضيف “بعد أزمة حكومة الحبيب الصيد، اختار النداء رئيس حكومة من بين أعضائه وهو رئيس الحكومة الحالي. لكن، حسب الدستور لا يصبح لرئيس الجمهورية أي نفوذ على رئيس الحكومة. السلطة التي تراقبه هي مجلس نواب الشعب. لذلك توجه رئيس الحكومة إلى مجلس أعطاه الأغلبية. لذلك قبلنا. للديمقراطية ضوابطها وقواعدها ونحن نحترمها. والآن عندنا حكومة تسير بأغلبية من النهضة.”
هذا الوضع جعل الكثيرين من المحللين في تونس يرون بقاء الشاهد على رأس الحكومة رهين موقف النهضة منه حتى وإن كان عدد الوزراء المنتمين لهذه الحركة، بشكل معلن، أقلية في الحكومة.
اتحاد الشغل.. الوطني والسياسي والنقابي
الاتحاد التونسي للشغل هو المتصدر للمواجهة مع الحكومة ومن خلفها النهضة. الاتحاد تحول إلى قوة سياسية بوجه نقابي. وهذا الأمر يلحظه الرئيس ولا يبدي الكثير من التحفظ عليه.
يقول “الاتحاد منذ تأسس هو منظمة وطنية لا تدافع فقط على الأجراء. فرحات حشاد لم يقع اغتياله لأنه نقابي بل لأنه كان يسير الحركة الوطنية عندما تم إبعاد ونفي الحبيب بورقيبة والمنجي سليم وزعماء الحركة الوطنية. وفي أول حكومة بعد الاستقلال كان الاتحاد مشاركا بعدد لا يستهان به من الوزراء. لكن، حدثت قطيعة بين الاتحاد والحزب الحر الدستوري التونسي. وفي 26 يناير 1978، شهدت البلاد إضرابا عاما تخللته أعمال عنف واعتقالات وسقوط قتلى وتفككت المنظومة الوطنية، وهو ما نريد تجنبه اليوم، ونبهنا الأطراف أنه عندنا تجربة سيئة ولهذا يجب الحوار أحببنا أم كرهنا، ومادمنا وطنيين ممكن نصل إلى قاسم مشترك. لكن، إلى الآن لم نصل إلى لغة تخاطب في المستوى.”
الاتحاد التونسي للشغل حزب سياسي قادم إذا، أم هو قوة مؤازرة للتركيبات السياسية الحزبية الأخرى؟ ثمة الكثير من الاشارات بأنه لا يمنع “المنظمة الوطنية” على حد وصف الرئيس من أن تتحول إلى حزب سياسي. أي أنها القوة المرشحة لخوض المواجهة مع النهضة والحكومة معا. ولكن أين “نداء تونس”؟
يقول الرئيس “بصفة واقعية النداء تراجع، لكن بفعل فاعل. التونسي ميال للسلطة، سواء أكان نائبا أو مواطنا. لكن السلطة الحقيقية في يد رئيس الحكومة وليس رئيس الجمهورية وفق الدستور. ومادام رئيس الحكومة لقي سندا كبير من حركة النهضة. وهي تسيطر عليها حتى أن الغنوشي مثل تونس في دافوس ومعه الكاتب العام للنهضة ورئيس الحكومة.”
مشاركة رئيس الحكومة يوسف الشاهد في ملتقى دافوس مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي تولد عنها تداخل في الاصوات التي تتحدث باسم تونس في الخارج وخلقت انطباعا بأن النهضة تريد الظهور بمظهر من يحدد سياسات تونس اليوم.
تم كثيرا تقديم العلاقة المتوترة بين الشاهد والنداء على أنها خلاف سياسي لكن الرئيس الباجي يرى بأنها قضية الرغبة في البقاء في السلطة.
يقول الرئيس “الشاهد يريد أن يبقى في السلطة فقال أن عنده خلاف مع النداء. لا أعتقد أن هذا الأصل، النهضة فهمت طموحه وتعاملت معه بذكاء ودفعته إلى تكوين حزب جديد يشاركها الحكم بعد انتخابات 2019 وراشد الغنوشي سيدعمه في السرّ ليترشّح لرئاسة الجمهورية. هذا لم يعد خافيًا على أحد في تونس.”
هل يعني هذا أن للرئيس الباجي موقف من الغنوشي؟ يقول “لست ضد الغنوشي. علاقتي به كأي تونسي. كانت هناك علاقات مميزة وعندي تقدير له. أرى أن من حق النهضويين أن يشاركوا في الحياة السياسية بعد الاعتقال والسجن. لكن علاقتي بالغنوشي ليست خاصة، إذا اتصل بي أجيب على اتصاله كما أجيب على اتصال أي كان.”
مرشح للرئاسة.. ولكن
الاستقطاب السياسي الحاصل في تونس متوقع في سنة انتخابية. فالرئيس يعتقد “أن المواعيد الدستورية يجب أن تتم في آجالها. هذا ما فعلناه في الانتخابات البلدية رغم الاحترازات الكثيرة والحساسيات السياسة.”
لكن الرئيس الذي ترك رئاسة حزب نداء تونس وتفرغ لعمله كرئيس للبلاد سيكون محور مهم في الانتخابات القادمة. يقول “لا أشجع أحدا ولا نقوم بعمل ضد أحد. الشعب هو الذي يختار. الانتخابات القادمة فيها عوائق منها أن الهيئة التي تشرف على الانتخابات غير مكتملة. في تونس ليست وزارة الداخلية التي تنظم الانتخابات بل الهيئة المستقلة. والهيئة الحالية حسب القانون يجب تعويض بعض أعضاءها كما أن رئيسها استقال. اعتقد أنه تم الاتفاق بين كل الكتل في المجلس على قائمة للتعويض. لكن يلزم مصادقة الجلسة العامة مع الرئيس وإذا تم هذا في آجال معقولة حتى يتم تنظيم الانتخابات في موعدها القانوني، وأنا حريص على ذلك.
ويرى الرئيس أن “الانتخابات ستضبط الأمور، وان شاء الله تقع استفاقة. سأدعو التونسيين أن يشاركوا بكثافة في الانتخابات، وأن يختاروا من يريدون، هو شعب واع، ويتحمل مسؤولية ممارسة حقه في الانتخاب. عندما كنت أنا مترشح، كان عندي خيار واضح: إما أنا أو النهضة. اليوم لم يعد بإمكاني ذلك، لكن سأدعوهم ليصوتوا لمن يعتبرونه الكفء.”
لكن هذا لا يرد على السؤال الأساس: هل سيترشح الباجي قايد السبسي لانتخابات الرئاسة القادمة؟
لا يخفي الكثير من التونسيين رغبتهم في أن يترشح الباجي ليبقى صمام أمان سياسي في بلد يتلمس طريقه في مسيرة الديمقراطية. الرئيس الباجي نفسه يدرك هذا ويقول “ليس هناك إنسان صالح لكل زمان ومكان. قمت بواجبي لكن ذلك لا يعني أنه من الضروري أن أرشح نفسي للانتخابات بالرغم من أن الدستور يمكنني من ولاية ثانية، وأنا لدي حرية التصرف استعملها أم لا. وأنا هنا أؤكد أنني لن استعمل هذا الحق إلا لما فيه مصلحة تونس. لست من المؤيدين لفكرة رئيس مدى الحياة. أنا ضد هذا التوجه. ليس طموحي أن أبقى رئيسا مدى الحياة.”
لكن الأمر مرتبط بالاوضاع داخل حزب النداء.. والرئيس نفسه لا يتردد في الإشارة إلى هذا الارتباط. يقول “صحيح أن هناك دعوة للترشح خصوصا من النداء الذي كونته، لكن ابتعدت عنه منذ تولي رئاسة الجمهورية. زارني أعضاء من النداء. قلت لهم لن استجيب للنداء الحالي. ستنظمون مؤتمرا جديدا وعندما تأتون بوجوه جديدة تقوي النداء، عندها سأرى.”
إذا الخيار أكثر من مفتوح. والرئيس يلوح به ويقول “اليوم الذي أقرر فيه الترشح من عدمه، سيكون حافزي الحقيقي هو مصلحة تونس. إذا كانت مصلحة تونس نرى شخصا آخر نساعده فسيكون ذلك. وإذا اقتضت المصلحة وجودي وقتها سأفكر في الترشح. ليست لدي موانع شخصية لكن المصلحة العامة هي التي ستحدد.”
الحاجة لإعلام مسؤول
الانتخابات تفتح الباب واسعا أمام أهم وسائلها: الاعلام. ويرى الرئيس الباجي أن للإعلام دور يلعبه وحرية الصحافة من أهم مكاسب الثورة في تونس ولا محيد عنها. ولكنه أسوة بكل الأنشطة العامة يجب أن يكون الاعلام مساءلا. يقول “الإعلام محل نظر، وأنا أيضا أضع نقطة استفهام أمام دور الإعلام. اليوم الكثير مما يذكر يكون على طريقة ‘بلغنا’ و’حسب مصادرنا’. هناك غياب للمعلومة الثابتة التي تبنى عليها المواقف.”
ويضيف “عشنا في تونس على امتداد 60 سنة بحزب واحد وبصحيفتين –عربية وفرنسية – وقناة تلفزيونية واحدة. اليوم عندنا 75 جريدة ورقية و72 صحيفة الكترونية و44 إذاعة و17 قناة تلفزيونية، كلها تتحدث في نفس الموضوع وفي نفس اليوم، ما يصيب الرأي العام بالتذبذب. طبعا وجودهم أفضل من غيابهم، وإلا نصبح كالماضي. لكن نلاحظ أنه ثمة افراط في بعض الأحيان. الحرية مهمة لكن تحتاج إلى ضوابط. ومن وجهة نظري من يجب أن يضع هذه الضوابط هم الصحافيون أنفسهم، لأنه لو وضعتها السلطة فسنعود إلى الخلف.”
في ختام اللقاء طلبت من الرئيس الباجي صورة شخصية بهاتفي قبل المغادرة. تحرك بالقرب من التمثال النصفي وتبسم. اخذنا الصورة وغادرت مكتبه مودعا. في الممر الذي يقود بين مكتبه ورواق الخروج ثمة قاعة استقبال كبيرة استطعت أن اميز فيها عدد كبير من وجوه السياسة التونسيين والوزراء وبعض الشخصيات الاجنبية وهم يتحادثون. لا شك أنهم هناك لمناسبة يحضرها الرئيس. لكن الحشد وطبيعة الحضور ذكرني بأن تونس لا تزال تنتظر الكثير من الباجي. وكذلك سيكون محط أنظار المنطقة عندما تحتضن تونس القمة العربية القادمة بعد أسابيع.
Présidence Tunisie رئاسة الجمهورية التونسية