رغم أن الوحدة الوطنية مفهومٌ ضروري ومصيري، يضمن التعايش الحقيقي بين مكونات الوطن الدينية والمذهبية والقومية والايديولوجية، لكنه في كثير بلداننا العربية والإسلامية، يبدو مفهوماً نظرياً فضفاضاً طوبائياً لاقيمة عملية له، بسبب تعارض الأهداف والسلوكيات بين المكونات الدينية والمذهبية والقومية والايديولوجية في البلد الواحد من جهة، وبسبب عقيدة الدولة الطائفية أو العنصرية أو الشمولية، وسياساتها في تهميش بعض المكونات، والتمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب أو القومية أو الايديولوجية من جهة أُخرى؛ فيكون هناك مواطن من الدرجة الأولى، ومواطنون من الدرجات الثانية والثالثة.
ولاتقتصر هذه التعارضات على الأهداف والسلوكيات السياسية الطبيعية الموجودة في كل دول العالم المتحضرة، التي تعتمد معايير المساواة في الحقوق والحريات بين مواطنيها، أو الخلافات المقبولة بين المكونات، بل تتعداها الى مظاهر كسر الإرادات والاحتراب، ومخططات تخريب الدولة والوطن والانفصال عنه، ومحاصرة بعض المكونات عقدياً ومذهبياً ومعيشياً، والتضحية بأبنائه في الحروب الداخلية والخارجية، والضغوط عليهم من أجل التنازل عن الهوية الخاصة، تحت شعار الوحدة الوطنية والتضحية من أجل الوطن، وهي في حقيقتها تضحية من أجل أن يبقى الدكتاتور الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة تعض على السلطة بقوة.
وبالتالي؛ لن يكون مبدأ الوحدة الوطنية منتجاً في بلداننا إلّا أذا توافر شرطان:
١- أن تكون الدولة التي يتحقق مبدأ الوحدة الوطنية في إطارها، هي دولة المواطنة والقانون، التي تحترم رأي الأكثرية وتضمن حقوق الأقلية، وينعدم فيها التمييز بين المواطنين، على مختلف مذاهبهم وأفكارهم، وتتكافأ الفرص بينهم، وأن يكون هناك فصل بين الوطن والدولة وسلطاتها والحكومة. أما إذا كان شخص الحاكم أو الحزب الحاكم أو الأسرة الحاكمة هو الوطن وهي الدولة والحكومة والسلطة، وكانت الدولة تابعة لحاضنة طائفية اجتماعية معينة أو مكون قومي معين؛ فإن الوحدة الوطنية لن يكون لها أي موضوع ومعنى، لأنها ليست وحدة من أجل الوطن، بل مجرد شعار سلبي يستغله الحاكم والأسرة والحزب أبشع استغلال، من أجل استحكام سلطتهم والاستقواء على التحديات التي تواجه بقاءهم.
٢- أن تكون هناك رغبة حقيقية من قبل المكونات الدينية والمذهبية والقومية في البلد، بتحقيق الوحدة الوطنية، على أساس المشتركات التي تُنشِيء قواعد التعايش والتعاون والتحالف. أما إذا كان بعض المكونات يعيش تحت حراب مكون آخر وقمعه وتهميشه، وكان مكون آخر يخطط ويعمل على الانفصال عن الوطن، ومكون ثالث يعمل على تخريب الوطن والدولة، لإحساسه بأن الدولة لاتمثِّله؛ فحينها تكون الوحدة الوطنية شعاراً للمناورات السياسية والابتزاز والمزايدات لا أكثر.
ولذلك؛ نرى في كثير من بلداننا العربية والإسلامية أن أبناء البلد الواحد، المختلفِين دينياً ومذهبياً وقومياً وايديولوجياً، لايجمع بينهم سوى الرابط السياسي القانوني المتمثل بالجنسية وجواز السفر، وأحياناً اللغة وفريق كرة القدم وبعض الرمزيات، أي أنها وحدة الانتماء السياسي للبلد فقط، ووحدة العواطف المؤقتة؛ بينما تفرقهم الأهداف والطموحات والثقافات والسلوكيات والعلاقات.
وللتغطية على هذه التعارضات العميقة؛ يصرخ بعض حسني النية والمثاليين والمتحمسين، بأن التعارضات والفوارق لاوجود لها بين أبناء البلد، وإن وجدت؛ فلابد أن تزول فوراً، ويتحدث عن المشتركات وعن حب الوطن الذي (يجمعنا)، وبين هؤلاء المتحمسين من يرى بأن المكونات الدينية والمذهبية والطائفية والقومية واللغوية وجودات زائدة يجب إلغاؤها، أو إلغاء تأثيرها في الحياة السياسية، أو أن لايكون لها مدخلية في بنية الدولة وتشكيلة الحكومة. والحال أن هذا الحماس يعبر عن خطاب طوباوي وغير واقعي، لأنه سرعان ما سيصطدم بالواقع عند أول مفترق أو حدث.
وهناك من يعتبر أن السياسيين والأحزاب والاستعمار، أي العامل السياسي الداخلي والعامل السياسي الخارجي؛ هم سبب إيجاد هذه التعارضات، وهذا الخطاب ــ هو الآخر ــ يقرأ الواقع وحقائقه بتبسيط ودون عمق؛ فلا شك أن الاستعمار والسياسيين المحليين وأحزابهم، يلعبون جميعاً دوراً مهماً في تكريس هذه التعارضات، لكنهم لايخلقونها ولا يوجدونها، بل يكرسونها، لأنها موجودة أساساً، ولها عمق تاريخي، وترتبط بتكوين الوطن والدولة والنظام السياسي والتشريعات والأعراف التأسيسية، ولو لم يجد الاستعمار والأحزاب والسلطات الداخلية حواضن اجتماعية أساسية نشأت على هذه التعارضات وشكّلت عقلها وخطابها الاجتماعي؛ لما استطاعوا استغلالها وتكريسها والنفوذ والسيطرة من خلالها.
ولذلك؛ ينبغي أن تذعن مكونات الوطن جميعاً، أن قدرها العيش في رقعة جغرافية واحدة توحدها الحدود السياسية والهوية القانونية للمواطنين، وأن عليها العمل على خدمة الوطن وبنائه وعلى تعزيز قوة الدولة وسيادتها وفاعليتها ونجاحها، دون النظر الى البقعة الجغرافية التي يسكنها كل مكون أو المذهب الذي ينتمي اليه المكون، ويكون ذلك بإرادة مشتركة وخطوات مشتركة، لا أن تتبادر بعض المكونات الى ذلك وتتردد أخرى أو تعمل بعكس الاتجاه؛ بحجة أن المكون الأكبر ــ مثلاً ــ هو (أم الولد) و(الأخ الأكبر)، وعليه أن يضحي ويتنازل للمكونات الأخرى، أو أن المكون الأصغر هو (مجتمع الأقلية) و(الأخ الأصغر) الذي يجب أن يضحي ويتنازل لمصلحة المكون الأكبر أو المكونات الأُخر؛ فهذه المفاهيم خاطئة أساساً ولاتبني دولة ولاتحقق الوحدة الوطنية.
كما ينبغي أن يذعن من يمسك السطة، سواء تمثل بشخص أو أسرة أو حزب؛ بأن الوطن والدولة والسلطة ليس ملكاً له، إنما هو مجرد أداة لخدمة الوطن والمواطن، دون تمييز بين مواطن وآخر، وأنّ تمثيله للوطن والدولة والسلطة هو بمقدار تخويل الشعب له، وأنّ تداول المسؤوليات، من قمة هرم الدولة الى قاعدتها، هو حق طبيعي لكل من ينتمي الى الوطن.
حينها؛ تتحول الوحدة الوطنية من مجرد شعار فارغ للتغطية على الأهداف المتعارضة للمكونات الطائفية والقومية في البلد، وعلى سوءات السلطة وسياساتها التمييزية، وأهدافها في إخضاع الشعب لعقيدتها ومخططاتها الخاصة؛ تتحول الى واقع منتج يقوم على قاعدتي التعايش والتحالف.
وتنسحب هذه الرؤية الواقعية أيضاً على مفهوم الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الإسلامية ووحدة أتباعها، وهي رؤية تتعارض مع الرؤية المثالية الشعاراتية، سواء على مستوى الوطن الواحد أو عموم الأمة الإسلامية. وكنت أشير دائماً الى ضرورة العبور على الرؤية المثالية، وتجاوز مصطلح الوحدة الإسلامية، لأنه مصطلح غير واقعي وغير منتج، حتى حين كنت مستشاراً للعلامة الشيخ محمد علي التسخيري رئيس مجمع التقريب ورمز مشروع الوحدة الإسلامية، ولطالما كان هذا الموضوع محور تداول مع سماحته (رحمه الله) خلال أسفارنا ومشاركاتنا في المؤتمرات الإسلامية العالمية، أو عند مراجعة سياسات مجلة رسالة التقريب التي ترأست تحريرها لفترة.
الرؤية الواقعية لقضية وحدة المسلمين، هي رؤية إنسانية، تقوم أيضاً على قاعدتي التعايش الميداني والتحالف الواقعي بين المسلمين الشيعة والسنة، كما هو الحال مع الوحدة الوطنية، وذلك بهدف التكافؤ الكامل، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل عقدياً وفكرياً وسياسياً وإعلامياً واجتماعياً، والعمل المشترك على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المشتركة، سواء على مستوى الأوطان أو على مستوى الأمة الإسلامية بشكل عام، واحتفاظ كل طرف بمتبنياته ومعتقداته، وأن تكون هناك رغبة حقيقية مشتركة من الطرفين الشيعي والسني لتنفيذ مشروع التعايش والتحالف، وليس رغبة من طرف واحد، في حين يقابلها الطرف الآخر بسياسة التمنع والتكبر، وعدم الاعتراف بالآخر، والإصرار على تهميشه ومحاربته سياسياً وإعلامياً وثقافياً.
وقد طرحتُ هذه الرؤية، بكل وضوح، في أكثر من مؤتمر وندوة وكتاب ودراسة ومقال وكلمة، ومنها كلمتي في الاجتماع السني الشيعي الخاص في القاهرة في العام 2000، بحضور شيخ الأزهر ومفتي مصر ووزير الاوقاف المصري والشيخ محمد علي التسخيري ووزير الثقافة الإيراني ومدير عام المجلس الشيعي اللبناني ومفتي عمان، وكانت الكلمة تؤكد معاني وحدة الواقع المتمثلة بالتعارف والتقارب والتعايش والتحالف، خلافاً لشعار الوحدة الإسلامية غير الواقعي.
ولعل أقرب صيغة لهذا التعايش والتحالف هو الصيغة الأوروبية الواقعية. ولا أقصد هنا (الإتحاد الأوروبي)، بل أقصد صيغة التعايش والتحالف المجتمعي المسيحي الأوروبي التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي أنتجت الإتحاد الأوربي فيما بعد؛ فالأوربيون المسيحيون تتوزعهم أيضاً مذاهب دينية وكنائس متصارعة ومتحاربة لمئات السنين، كاثوليكية وبروتستانتية وارذثوكسية وانجليكانية وغيرها، وتتقاسمهم تيارات سياسية متنوعة، وأطماع استعمارية، وايديولوجيات نازية وفاشية وماركسية وعنصرية وليبرالية، لكنهم توصلوا، بعد حروب داخلية وخارجية طويلة قضت على عشرات الملايين منهم، ودمّرت بلدانهم، الى صيغة التعايش والتحالف، ليحققوا لأنفسهم أفضل المكاسب السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والاستعمارية.
وأختصر رؤيتي في وحدة المسلمين بكلمتين فقط، هما: (التعايش) و(التحالف)، انطلاقاً من المشتركات الواقعية في المجالات العقدية والإقليمية والوطنية، والتي تفرض التعايش الاجتماعي والسياسي والمذهبي، والمساواة في الحقوق والحريات، والمواطنة المتكافئة، والتحالف في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
هذه الصيغة التعايشية التحالفية النابعة من الواقع وتفاصيله، والتي تأخذ بالاعتبار خصوصيات المسلمين العقدية والمذهبية، وتتجاوز الشعارات المثالية غير الواقعية من جهة، والخطاب الطائفي الانعزالي من جهة اخرى؛ ستجلب للمسلمين مصالح نوعية، وستدرأ عنهم قرون من الصراعات والمفاسد.