بقلم إبراهيم أبو عواد – كاتب من الأردن |
1
العواطف الإنسانية التي تتحكَّم بالأنساق الاجتماعية ، تُمثِّل نظامًا وُجوديًّا مِن الرموز والإشارات . وتحليل هذا النظام المُركَّب يتطلَّب عودة الإنسان إلى أعماقه ، والبحث عن الأشياء التي ماتت فيه . والإشكاليةُ المركزية في المُجتمعات هي عدم الانتباه إلى تحوُّلات الإنسان الوجدانية ، لأنَّ النظام الاستهلاكي المُغلَق يَطحن المشاعرَ الإنسانية ، ويُصنِّف العواطفَ كمنظومة عبثية ، وتراكيب ساذجة ، ولحظات ضَعْف ، ويُكرِّس النَّزعةَ المادية المتوحشة في عَالَم مُوحِش . وهذا الضَّغْط الهستيري على وُجود الإنسان ومشاعره ، يُحوِّله إلى كِيان مُفرَغ مِن المَعنى، يَخجل مِن التَّعبير عن مشاعره ، ويَجعله آلةً ميكانيكية عَمياء ، ومقبرة متنقلة لا شيء فيها غَير طَعْم العَدَم ورائحة المَوت ، المَوت في الحياة .
2
تَحَوُّل الإنسان إلى مقبرة مُتنقلة ، يَعني أن الكِيان الإنساني صار وِعَاءً للأحلام المَقتولة، والذكريات المَيتة، والأفكار المَذبوحة ، والأصوات الخرساء . وهذا الانهيارُ الشامل في داخل الإنسان ، يَنقل معنى وُجوده مِن الهُوِيَّة إلى الهاوية، ويصير الإنسانُ الخاضع للضَّغْط الاجتماعي اليومي شَيْئًا عابرًا في الزَّمان والمكان ، وكائنًا حَيًّا وهميًّا مُكوَّنًا مِن عناصر مَيتة ، أي إنَّ الإنسان يصير مجموعة أموات ، وكأنَّ الأموات قد اجتمعوا في جِسم واحد . وإذا فَقَدَ الإنسانُ شرعيةَ وُجوده، وصارَ شيئًا مِن الأشياء ، تَحَوَّلَ إلى سِلعة في سُوق العَرْض والطَّلَب ، وتحوَّلت مشاعرُه المُتساقطة إلى ريشة في مَهَب الرِّيح . وعِندئذ ، ستنهار الفلسفةُ الاجتماعية بأكملها ، لأنَّ مصدرها الإنسان . والفلسفةُ الحقيقيةُ القادرة على تكريس فِعل التغيير نَحْو الأفضل ، إنَّما تُؤخَذ مِن ملامح الإنسان ، ولَيس مِنَ الشِّعارات الرَّنَّانة ، لأنَّ ملامح الإنسان هي المِرْآة التي ينعكس فِيها جَوهره الداخلي . ومَهما كان الإنسانُ قادرًا على ضَبط مشاعره ، والسَّيطرة على مِزاجه ، والتحكُّم بملامحه ، فَلَن يَستطيع إخفاء حقيقته الداخلية وجَوهره العميق وماهيته الكامنة ، وَسَوْفَ يَنعكس ضوءُ القلبِ الداخليُّ في مِرْآة وجه الإنسان الخارجي .
3
لا يُمكن للإنسان أن يتحرَّك باتِّجاه المجتمع لبنائه وإعماره معنويًّا وماديًّا ، إلا إذا نجح في بناء نَفْسه أوَّلًا، وهذا يعني أنَّ الخُطوة الأُولَى في طريق الوَعْي الاجتماعي ، هي ارتداد الإنسان إلى نَفْسه ، ورُجوعه إلى كِيانه، مِن أجل التَّنقيب عَن الشَّظايا المتناثرة في أعماقه ، والأشياء المَيتة في داخله . ورحلةُ الإنسان باتِّجاه ذاته العميقة لتنظيفها وتَطهيرها ، وإعادة الأشياء المَيتة إلى الحياة ، هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع . وكُلَّما عَادَ الإنسانُ إلى ماهية وُجوده الكامنة في أعماقه ، اكتشفَ مَنبع مشاعره ، ومَصدر أحلامه . ويُمكن القَول إنَّ العَودة إلى الأنا أهم وسيلة لمعرفة الآخَر _ بكُل مَعَانيه _ . والوُصول إلى قاع البِئر ضروري لمعرفة طبيعة تَكوينها ومدى قُدرتها على استيعاب الماء .
4
إذا نجح الإنسانُ في ترميم ذاته ، والانبعاث مِن جديد ، وتَكوين جبهة متماسكة في داخله ، فإنَّه سيُدرِك حقيقةَ الجَوهر الإنساني ، وماهيةَ البناء الاجتماعي ، وعِندئذ يُصبح قادرًا على بناء مُجتمعه ، والأخذ بأيدي الناس إلى بَر الأمان ، ولا يُمكن للغريق أن يُنقِذ غريقًا ، ولا يُمكن وضع الورود في مزهرية مكسورة . وهاتان الحقيقتان تُمثِّلان قاعدَتَيْن رَمْزِيَّتَيْن في منظومة الفِعل الإنسان المُتَّجِه نَحْوَ المجتمع ، لإخراجه مِن حَالة العَجْز والشَّلَل ، ومَنْحه القُدرة على الوُقوف على قَدَمَيْه .
5
ينبغي أن يَكون المُنقِذ قويًّا ومُتماسكًا وواقفًا على أرض صُلبة كي يُنقِذ الغريقَ ، ويَنتشله من أعماق الهاوية السَّحيقة ، لأنَّ المُنقِذ هُوَ المُخلِّص ، ولا يُمكن أن تتحقَّق لحظة الخَلاص ( الانعتاق ) إلا بوُجود طرف قوي يَمتلك الإحساسَ الواعي بذاته القادرة على البَذل والعطاء والإنقاذ، أمَّا الضعيف فهو عاجز عن إنقاذ نَفْسه ، فكيفَ يُنقِذ الآخرين ؟ . إنَّ فاقد الشَّيء لا يُعطيه . وإذا كان الإنسانُ يُريد لعب دَور المُخلِّص ، فيجب عَلَيه تَخليص نَفْسه مِن حُطَامها ، وإنقاذ مشاعره مِن رُكامها، كَي يصل إلى حالة السلام الروحي ، والتوازن الداخلي ، ويُصبح قويًّا مُتماسكًا قادرًا على احتضان المعاني الإنسانية الرفيعة ، وتقديمها للآخرين لتخليصهم مِن الفراغ ، وإنقاذهم مِن العَدَم . أمَّا الإنسانُ المُنهار فهو كالمزهرية المكسورة ، عِبارة عن مجموعة شَظَايا مُتناثرة ، لا أحد يَعْبأ بها ، ولا أحد يُريد وضع الورود فيها .