بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي |
في سابقةٍ خطيرةٍ وغريبةٍ أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” عبر عضو لجنتها المركزية عزام الأحمد، مقاطعتها لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، لتشكل بقرارها غير الحكيم عودةً إلى نهجٍ قديمٍ، وانتكاسةً إلى ماضي أليمٍ، واستعادةً لسياسةٍ مريضةٍ، وممارسةً حزبيةً بغيظةً، عندما كانت تقوم في السجون والمعتقلات، هي أو غيرها من التنظيمات الفلسطينية القوية، بفرضِ مقاطعةٍ على تنظيماتٍ أخرى أضعف أو أقل عدداً منها، بقصد عقابها أو دفعها للقبول بشروطها أو الخضوع لإرادتها واتباع سياستها.
فكانت تلزم بموجب قراراتها التنظيمية التي تتخذها هيئاتها القيادية العليا عناصرها بعدم التعامل أو الاحتكاك مع عناصر التنظيم المُقَاطَع، وتمتنع عن تقديم المساعدة لهم أو التعاون معهم، وكانت ترفض تحضير الطعام أو تقديمه لهم، وتجمد آليات التنسيق وتبادل المعلومات معه، وترفض الاختلاط بهم في أوقات الفورة العامة، أو النقاش معهم في الغرف والأقسام، وتعاقب كل من يخالف أوامرها أو يعارض سياستها، الأمر الذي كان من شأنه أن يزيد في معاناة الأسرى والمعتقلين، ويفاقم أزماتهم، ويحرجهم أمام عدوهم المشترك وسجانهم الظالم، الذي يقف متفرجاً عليهم وشاهداً على اختلافهم.
إلا أن هذه الصفحات المظلمة من تاريخ المسيرة النضالية الفلسطينية في السجون والمعتقلات قد تم تجاوزها، ولم يَعُدْ إليها أحد، وحلت مكانها صفحاتٌ مشرقةٌ من الأخوة والتعاون، والتعاضد والتضامن، والتنسيق الإيجابي والعمل المشترك والتراكم البنَّاء، حيث شكل الأسرى والمعتقلون في مراحل مختلفة من تطور العمل الوطني، عقداً فريداً من التكامل والتعاون، والتنوع والتميز، والتنافس والسباق، كان محل فخر واعتزاز الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة والحرة معاً.
الاختلاف في وجهات النظر بين ممثلي الفصائل الفلسطينية في موسكو لا يبرر لفتح قرارها أبداً، ولا يجيز لها حكمها، ولا يعطيها الحق ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بأن تفرض على كوادرها مقاطعة حركة الجهاد الإسلامي، التي هي حركة أصيلة وفاعلة، وعندها رصيدها ولها من يؤيدها، ولها تاريخها وعندها عملياتها، وتمثل قطاعاً كبيراً من الشعب الفلسطيني، وامتناعها عن التوقيع على البيان، أو رفض بعض ما جاء فيه، واعتراضها على بعض نصوصه أمرٌ مشروعٌ ومباحٌ، فلا يحق لأي طرفٍ مصادرته أو حرمانها من ابداء رأيها تأييداً أو اعتراضاً، فضلاً عن الصمت أو الامتناع.
يلتقي الفلسطينيون جميعاً على تقديرهم لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي حملت القضية الفلسطينية وخاضت غمار النضال خلال العقود الماضية، ويعتقد الفلسطينيون جميعاً بكل انتماءاتهم وتنظيماتهم، الإسلامية والقومية واليسارية، بأنها أحد أكبر مؤسسات وانجازات الشعب الفلسطيني الوطنية، ولا يرغب أحدٌ في هدمها أو تخريبها، أو تفكيكها والتخلي عنها، بل ينبغي المحافظة عليها وصيانتها، والتأكيد على هويتها والدفاع عن شرعيتها.
ولكن هذا لا يمنع وجوب إصلاحها وإعادة بنائها، وتوسيع إطارها وتنويع أعضائها، لتشترك في قيادتها كل القوى الوطنية، وتتمثل فيها كل أطياف الشعب الفلسطيني، بعد أن تعيد بناء هياكلها، وتستعيد أنظمتها، وتستجيب للتطور في بنودها، وحتى ذلك الحين يحق للبعض عدم القبول بواقعها الحالي، خاصةً أن بعض ثوابتها قد سقطت، والكثير من هيئاتها قد فقدت شرعيتها، وأصبح لزاماً إعادة تنظيمها.
للأسف إن قرار حركة فتح الذي ما كان ينبغي أن يؤيده رئيس حركة فتح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، يعيدنا إلى الوراء سنين طويلة، ويدخلنا من جديدٍ في حمأة الاختلافات الحزبية البغيظة، ويستخف بشعبنا ويهين أهلنا، وقد كان حرياً بقيادة حركة فتح ألا تجيز هذا القرار، وألا تقبل به أو توافق عليه، بل وأن تدين من تفوه به وأعلنه، وتعلن البراءة ممن ينادي به ويصر عليه، إذ لا مبرر له ولا مسوغ، ولا حكمة فيه ولا عقلانية، ولا مصلحة لنا فيه ولا منفعة لنا منه، إذ أن شعبنا قد ملَّ الانقسام وعاف الاختلاف، وضاق ذرعاً بالقطيعة والخصومة، التي أضرت به وبمصالحه، وعطلت مشاريعه الوطنية وخدمت مشاريع العدو الاستيطانية، ولعل العدو قد فرح بالقرار وانتشى به واحتفل.
لا يجوز لأي فصيلٍ فلسطينيٍ أياً كانت قوته ونفوذه، وسعة انتشاره وسطوة سلطته، أن يصادر رأي الآخرين ويطويهم تحت جناحه، أو أن يستبد بهم ويرغمهم، ويخضعهم لرأيه ويجبرهم على سياسته، أو أن يمارس عليهم التضييق الأمني والابتزاز المادي، أو أن ينصب نفسه حاكماً وقاضياً، يشرع ما يريد ويحكم بما يشاء، فلكل حزبٍ رأيه وقراره، وفلسفته وسياسته، وله الحرية في أن يقبل أو يرفض ما يراه ينسجم مع سياسته ويتوافق مع منهجه، طالما أنه يعمل لفلسطين ويقاوم من أجلها، ويناضل لخدمة شعبه ورفعة أهله، علماً أن التنوع يغني ويثري، والاختلاف العاقل يقي ويحفظ، وهو يفيد في تحصين الثوابت ومنع التفريط والتنازل.
لن يضير حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وإن كان يحزنها ويؤلمها، قرارُ المقاطعة الذي يدل على إفلاس صاحبه، وعجز فريقه، وتخبطه وتعثره، وتيهه وضياعه، وعزلته وغربته، فهو قرارٌ يشي بعمق الأزمة وخطورة المرحلة التي يعانيها من أصدر القرار، وحجم المشكلة التي يتخبط فيها، فحركة الجهاد الإسلامي لن تشكو من عزلة، ولن تعاني من قطيعة، ولن تضعف أمام سلطةٍ، ما بقي الشعب معها والأمة تؤيدها، وستجد نفسها بالمبادئ التي تحملها، والقيم التي تؤمن بها، والسياسة التي تتبعها، والمنهج الذي تسير عليه، والخيار الذي تتمسك به، والهيئات القيادية التي تسيرها، قويةً عصيةً، لا ترهبها القرارات، ولا تخيفها التهديدات، ولا تنفع معها المقاطعة، ولا تحرفها محاولات العزلة، ولا تجبرها على تغيير مواقفها أو التنازل عن ثوابتها سطوةُ سلطةٍ أو هيمنةُ حركةٍ، أو سلاطةُ لسانٍ وعنجهيةُ سلطانٍ.