الحقيقة تقول بان الخلل الاساسي في الحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة التحرر الوطني, هو في الانقلاب السياسي الذي قامت به السلطة الرسمية الفلسطينية على البرنامج الوطني الائتلافي لمنظمة التحرير لصالح برنامج اوسلو والتزاماته, ومنذ ذلك الوقت والاوضاع تتفاقم في الحالة الفلسطينية والكوارث تلحق بالقضية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني.
تحت وطأة اوسلو وفي ظل تداعياته نشهد تسارعا في تدهور اوضاع النظام السياسي الفلسطيني من نظام رئاسي برلماني الى نظام رئاسي سلطوي والذي قطع شوطا طويلا على طريق استكمال تحويل (هيئات ومؤسسات) م.ت.ف من نظام برلماني الى نظام رئاسي يدار بمراسيم مفصلة على مزاج “المطبخ السياسي” للسلطة ومن يمثل اجتماعيا وسياسيا.
ان خطورة هذا التحول في اوضاع منظمة التحرير الفلسطينية الائتلافية والذي تقوده السياسة الرسمية يتمثل في انهاء المنظمة كرافعة وطنية ائتلافية تمثيليا وسياسيا الى “سلطة خدمية” أو الى “سلطة بلا سلطة”, في الوقت الذي يمر فيه الوضع العربي والإقليمي في مرحلة من الاضطراب السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي الشامل، بكل ما تحمله هذه المرحلة من تداعيات مختلفة سيكون لها تأثيراتها على مجمل الخارطة الجيوسياسية في المنطقة.
في السياق ذاته, يواجه الشعب الفلسطيني وضعاً سياسياً قاتماً ومعقدا في ظل اجندة قيادته السياسية الرسمية وتوزعه الجغرافي والإداري وفقدانه لبرنامجه السياسي وادوات متطلباته لمواجهة المشروع الإسرائيلي-الامريكي، الامر الذي يتطلب تسليط الضوء على موقع القضية الفلسطينية في الحالة الإقليمية السائدة، لإعادة رسم الصورة, لصالح سياسات وطنية، تصون مصالح الشعب الفلسطيني، وحقوقه الوطنية والقومية المشروعة، وتتعامل مع الوقائع الإقليمية، بإرادة سياسية متماسكة، وبرؤية استراتيجية واضحة.
الا أنه ومن الواضح، أن الوهن السياسي الحالي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني يرجع في معظمه إلى غياب التفكير الاستراتيجي (لقيادته) بما يخص مشروعه الوطني ومواكبة السمة الأساسية لمرحلة تحرره الوطني ومتطلباتها،على الرغم من بعض الجهود المنظَّمة التي تبذلها بعض المراكز الفكرية والبحثية الفلسطينية في هذا الصدد.
اما السياسة الإسرائيلية، وفي اطار التحالف مع الإدارة الامريكية، فهي سياسة لم تعد تكتفي بالتوسع الاستيطاني، بل تسعى إلى الضم التدريجي للمستوطنات وغيرها من المناطق المستهدفة, كماهي سياسة انتقلت إلى المزيد من التصعيد لتعطيل العملية السياسية، حتى في إطار اتفاقيات أوسلو، وفرض وقائع جديدة بمطالب سياسية تعجيزية, ومن بين خطوات التصعيد هذه اشتراط نتنياهو على السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات، اعترافها بإسرائيل “دولة قومية للشعب اليهودي”, بكل ما يعنيه هذا من تداعيات سياسية لاحقة، ليس أقلها ما يهدد الحقوق السياسية والمدنية لشعبنا في مناطق الـ 48 الذين يناضلون من أجل الاعتراف بهم كأقلية قومية على قاعدة المساواة القومية ومن أجل الحقوق المدنية في إطار المساواة الحقيقية في المواطنة؛ وما يهدد أيضاً حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى الديار والممتلكات الذي يكفله القرار /194/.
فقد أصبح من الأهمية بمكان، أن يضع الفلسطينيون استراتيجيةً وطنية تحاكي الواقع الموضوعي وتستشف معطيات المستقبل بتغيراته الإقليمية والدولية، ففي ظل غياب الاستراتيجية الواضحة سوف تُستنزف كل الطاقات والامكانات للشعب الفلسطيني وتكتيكاته السياسية المرحلية.
السياسة الرسمية الفلسطينية:
سياسة إنتظارية، تترقب المبادرات الأميركية لاستئناف العملية السياسية، وتحجم بالمقابل عن رسم سياسات خاصة بها، خارج إطار المبادرات والتوصيفات الأميركية للعملية السياسية , وتبقى القيادة الرسمية الفلسطينية في حالة ترقب وانتظار في الوقت الذي تتسارع فيه خطوات الجانب الإسرائيلي، لفرض الأمر الواقع ميدانياً، عبرعمليات التوسع والضم الاستيطاني، وإطلاق المبادرات والمشاريع السياسية التي تخدم أهدافه , وهي سياسة أحادية، تعتمد المفاوضات الثنائية مع الجانب الإسرائيلي بالرعاية الأميركية، خياراً سياسياً وحيداً لها، وحتى المكاسب الدبلوماسية التي تحققت وطنياً، بقيت خارج التثمير السياسي في المواجهة الدبلوماسية مع الجانب الإسرائيلي، بما في ذلك تعطيل قرارات المجلس المركزي في دورته الأخيرة (وقف التنسيق الأمني، الشروع بخطوات عملية لمقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي، استئناف المقاومة الشعبية وتطويرها، تدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية) ,والسمة الثالثة تعمقت مؤخراً في سياسات السلطة بالتوجس من الحركات الشعبية (سلطتي الضفة و غزة )، حتى في المطالب الاجتماعية الحياتية، كما هي متوجسة من الالتزام بتبعات صون الوحدة الوطنية وصون الائتلاف الوطني.
ان حالة السياسة الرسمية الفلسطينية إزاء التطورات الإقليمية والإسرائيلية والداخلية والعلاقات الوطنية، وما تشهده من ضعف في الإرادة السياسية، ما يبقيها أسيرة قيود اتفاق أوسلو وبرنامجه، وقيود مصالحها الفئوية، مصالح الفئات العليا من البيروقراطية الفلسطينية، التي تدير شؤون السلطة، وتمتلك زمام القرار السياسي على رأس المؤسسة, وماالحالة الفلسطينية التي تعاني وضعاً انقساميا طابعه الأساس مؤسساتي، في صراع مفتوح على السلطة, والذي يقود إلى ازدواجية السلطة جغرافياً وسياسيا(الضفة و القطاع).
لذلك، فان الوحدة الوطنية الفلسطينية الداخلية، تحتل مرتبة القداسة الوطنية, و قضية استراتيجية بامتياز,(وحدة الشعب في كل أماكن تواجده، وبشرائحه الاجتماعية واتجاهاته السياسية المختلفة)، باعتبارها حاجة و متطلب وطني اساس، في معركة الخلاص من الاحتلال والاستيطان، وتحقيق أهدافه الوطنية في العودة وتقرير المصير والاستقلال والسيادة.
ووحدة الشعب تتمثل بشكل رئيسي في وحدة حقوقه الوطنية والقومية، فوحدة الحقوق هي التي تحد من تأثير ومفاعيل حالة الشتات التي يعيشها شعب فلسطين، وهي التي تعبئ طاقاته في النضال الوطني، وهي التي تصون شخصيته وهويته الوطنية، وتصون انتماءه إلى قضيته، رغم تباين ظروفه.
والى جانب وحدة الحقوق، كعامل أساس لضمان وحدة الشعب، تنتصب ضرورة صون وحدة التمثيل، بماهي تكريس للوحدة الكيانية الوطنية، وخصوصا في ظل حالة الشتات الجغرافي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وحدة التمثيل كمعادل سياسي ومعنوي خاصة في ظل تعقيدات القضية الفلسطينية وتشابكها كقضية وطنية مع أبعادها كقضية قومية في إطار الصراع العربي – الإسرائيلي.
ان الحالة المزرية التي وصلت إليها تطورات القضية الفلسطينية و أزمات مشروعها الوطني سببها الارتهان لخيار المفاوضات، وإهمال الخيارات الأخرى، بعد خروج فريق من السلطة الفلسطينية عن برنامج الاجماع الوطني لصالح أوسلو واستحقاقاته, ووضع كل البيض في سلة التسوية، وقد فشلت المفاوضات في التوصل لأي نتيجة مُرضية بسبب ضعف الحالة الفلسطينية من جهة، وتعنّت الموقف الإسرائيلي ومراوغته من جهة ثانية، و التغيرات الاقليمية العاصفة بالمنطقة, خاصة وأن الكفاح المسلح بات خيارا صعبا، وخيار الانتفاضة الشعبية الشاملة في هذا التوقيت، أي في ظل الموقف الإقليمي والدولي والداخلي الفلسطيني المعقد والصعب, سيكون خيارا طوباويا استنزافيا في حال لم تتوفر له مقوماته وادواته وروافعه الوطنية والجماهيرية والمجتمعية المدنية وكل اشكال الدعم والصمود ماديا وسياسيا.
وعلينا هنا الإقرار, بأن التغيرات التي حصلت في التكتيكات و البرامج السياسية لبعض الفصائل الفلسطينية, لم تكن كلها استجابة لسياقات التطور الطبيعي، ولم تأتِ في سياق التكيف الاضطراري مع التحولات النوعية المتولدة فيها، أو المحيطة بها، و ليس انسجاما مع قوانين الجدل التاريخي(الصيرورة الكمية والصيرورة النوعية), وإنما هي تغيرات ناجمة عن طبيعة نكوصيه، أوتراجعية، وهي تغيرات لم تحصل بضغط العوامل الخارجية الموضوعية فقط، وإنما حصلت أيضا بفعل عوامل ذاتية، ناجمة عن ثقافة معينة وبنى قامت عليها، أو انزاحت إليها هذه الفصائل.
وأمام مشهد الحالة الفلسطينية الراهنة، حيث الانقسام الداخلي، وتآكل الشرعيات، وتغييب دور منظمة التحرير، وتعطيل مشاريع إصلاحها وتفعيلها، وغياب البرامج الوطنية التوافقية، وانحسار الدور الشعبي والجماهيري وسببه ضعف أداء القيادة السياسي والمجتمعي., هنا, تبرز الحاجة الملحة لتبني استراتيجية فلسطينية شاملة، تعمل على استنهاض كل عناصر القوة داخل المجتمع الفلسطيني, وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية.
الخطوط العريضة للاستراتيجية الفلسطينية:
أي استراتيجية وطنية لا بد أن ترتكز على فكرة مواصلة الكفاح والمقاومة الوطنية بكافة اشكالها، بحيث إذا أخفق مسار كفاحي معين، يتوجب تبني مسار بديل، وأن يتأسس الكفاح الوطني على فكرة تعزيز صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه، وممارسة كافة أشكال المقاومة الشعبية، والنضال ضد كل تجليات سياسات الاحتلال الاستيطانية والعنصرية، وأن تتواكب المقاومة الوطنية في مساراتها الموازية والمتصلة على امتداد جغرافية التواجد الفلسطيني في الداخل والشتات.
فإذا كان الهدف المعلن لفلسطينيي الأرض المحتلة هو إقامة دولة مستقلة، وكانت مطالب فلسطينيي الداخل هي المساواة، ومطالب فلسطينيي الشتات هي العودة؛ فإن الاستراتيجية الفلسطينية الشاملة، يجب أن تتضمن هذه الأهداف العادلة، وتصوغ برامجها الكفاحية على أساسها، بحيث تحافظ على وحدة الشعب، لأن تهميش أي فئة من الشعب الفلسطيني داخل الوطن أو خارجه ستؤدي إلى تقويض الهوية الوطنية الجامعة.
كما يجب على الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية ان لا تفقد بوصلتها في سياق كفاحها لبناء الدولة المستقلة، بحيث تحافظ على طبيعة الصراع ضد إسرائيل بوصفها كياناً استعمارياً عنصرياً معادياً للإنسانية، وفي الوقت نفسه تواصل كفاحها لبناء المجتمع الفلسطيني وتنمية كيانه السياسي بكل متطلباته الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية. وهذا يعني ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وتطوير مكوناته الذاتية (المنظمة، والسلطة، والمجتمع المدني)، وضرورة المزاوجة بين مفاهيم التحرير والحرية، وبين الحرية والعدالة، وبين الحرية والديمقراطية.
وعند الشروع بصياغة استراتيجية فلسطينية شاملة، وهي مهمة وطنية ملحة، ينبغي التحرك في ضوء ما تسمح به موازين القوى والمعادلات السياسية التي تحكم الموازين الدولية، أي التحرك وفق الحدود التي يسمح بها المجتمع الدولي وقراراته الأممية ذات الصلة، ولكن بواقعية ثورية وسياسية.
خيارات الفلسطينيين:
– مواصلة النضال من أجل بناء دولة فلسطينية مستقلة على حدود الـ67، خالية من المستوطنات وعاصمتها القدس، وضمان حل عادل لقضية اللاجئين، وهو ما يعرف بحل الدولتين، وهو الحل الوحيد المطروح حاليا، على الأقل على المستوى الدولي والإقليمي, رغم علامات افول هذا الحل في الوقت الراهن, وذلك بسبب تعثر المفاوضات الثنائية والتعنت الإسرائيلي الرافض له والانحياز الأمريكي المعلن لصالح إسرائيل و نكوص بعض الدول العربية و خاصة الخليجية منها على اعتبار ان القضية الفلسطينية تمثل جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي, لصالح خارطة تحالفات إقليمية جديدة , ونظام شرق اوسطي جديد, إلا أن مختلف الأطراف تتجاهل هذه الحقيقة, لأن الإقرار رسميا بها, يعني البدء بالبحث عن بدائل، وهو ما لا تريده كافة الأطراف.
– او التوجه لخيار الدولة الفلسطينية الديمقراطية الواحدة على كامل فلسطين التاريخية، وهذا يتطلب تبني نهج نضالي مختلف، بأدواته وروافعه وأساليب كفاحه, وهو تحديا فلسطينيا وعربيا ودوليا.
في السياق ذاته,السؤال الذي يطرح نفسه: هل أزمة المشروع الوطني الفلسطيني في تكتيكات مسار المفاوضات؟! أم في الخيار التفاوضي نفسه؟! فإذا كانت الأزمة في المسار والتكتيكات، فيمكن تحسين الشروط والأداء!!، أما إذا كانت في الخيار نفسه، فينبغي التوقف كليا وتبني استراتيجيات وطنية جديدة, وعلى ضوء المراجعة النقدية الشاملة لكل الخيارات السابقة وبرامجها وتجاوز ثغراتها وبإرادة سياسية ووطنية خالصة.
وعلى الفلسطينيين – في حال عودة المفاوضات-اشتراط تغييرات جذرية و أوراق تفاوضية جديدة, منها التمسك بالمرجعية الدولية, وأن تحصل مسبقا على اعتراف دولي (أو أميركي) بالدولة الفلسطينية بحدود الرابع من حزيران و عاصمتها القدس، وهو البديل السياسي لصفقة القرن, وأن تسير هذه المفاوضات وفق جدول أعمال معين وبسقف زمني محدد ومنضبط لرقابة دولية، وحتى لو تعذرت الاستجابة لهذه الشروط على الفلسطينيين التمسك بموقف حازم. وحينها يمكن التوجه لكسر خيار المفاوضات المباشرة الثنائية والتحول إلى مسار المفاوضات الجماعية للحل الإقليمي الشامل على قاعدة المبادرة العربية للسلام.
غير ذلك, خيار التدويل(تدويل القضية الفلسطينية)، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته القانونية والسياسية لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، أو التوجه لمجلس الأمن (أو الجمعية العامة) لاستصدار قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإلزام إسرائيل بإنهاء الاحتلال، أوعقد مؤتمر دولي لإقرار تسوية عادلة على قاعدة الشرعية الدولية، أو تبادر السلطة الوطنية الفلسطينية في إطار خطة منسقة مع جامعة الدول العربية والرباعية الدولية والتوجه إلى الأمم المتحدة بطلب وضع الأراضي الفلسطينية تحت نظام الوصاية الدولية .
بالاستناد إلى هذه الرؤية، يمكن صياغة برنامج كفاحي وطني متكامل، ضمن استراتيجية وطنية شاملة، من خلال تصعيد المقاومة الشعبية وتعميمها، وخوض حرب استنزاف ضد المستوطنين، مع استمرار المقاطعة الاقتصادية، إلى جانب حملة منظمة في المحاكم الدولية لمحاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وحملة سياسية دبلوماسية وإعلامية في المحافل والمنظمات الدولية،
*كاتب وباحث سياسي