تشغل قضية الفرنسي من أصول مغربية ألكسندر بنلا الرأي العام الفرنسي، وتعددت الروايات والتأويلات حولها، لكنها في العمق تعكس أنانية الفرنسيين إلى مستويات تدعو إلى القلق بل التساؤل حول الضمير الفرنسي في رؤيته للأحداث ونوعية المقاييس التي يستعملها والمرجعية الأخلاقية التي يعتمدها.
وتتلخص قصة هذا الشاب في اعتدائه على متظاهرين فرنسيين يوم الأول من مايو/ايار الماضي بمناسبة عيد العمال عندما كان يشغل منصبا ضمن الفريق الأمني المقرب جدا من الرئيس مانويل ماكرون، بل كان مستشاره الأمني في الكثير من القضايا. وكان ألكسندر مكلفا بمراقبة عمل الشرطة وإذا به تحول إلى شرطي يرتكب مخالفة.
وينضاف ألكسندر إلى لائحة الفرنسيين من أصل مغربي الذين شغلوا الرأي العام الفرنسي طيلة السنوات العشر الأخيرة بدءا من وزيرة العدل السابقة رشيدة داتي ثم وزيرة التعليم السابقة نجاة بلقاسم وآخرين مثل الممثل دبوز أو جاد المالح.
وبقي الاعتداء في إطار الصمت وسط قصر الأليزيه الذي اتخذ عقوبة في حق ألكسندر بتوقيفه أسبوعين، حتى فجرته جريدة «لوموند» منذ أسبوعين لتشهد فرنسا انتفاضة سياسية وفكرية هيمنت على باقي الأحداث بل وغطت على فوز الفريق الفرنسي لكرة القدم بكأس العالم وعلى قرارات الرئيس الفرنسي نفسه في قضايا كبرى.
وعمليا، يعتبر الاعتداء على المتظاهرين عملا مرفوضا يستوجب التنديد والعقاب، ولكن، هل ما قام به ألكسندر يستحق كل هذه الانتفاضة السياسية بل حتى الفكرية وكأن فرنسا تعيش منعطفا خطيرا في تاريخها من كثرة التصريحات السياسية والافتتاحيات في الصحف والبرامج الحوارية في قنوات التلفزيون وتسونامي من التعاليق في شبكات التواصل الاجتماعي.
لقد اعتبر الفرنسيون من سياسيين وإعلاميين ومفكرين ورأي عام ما قام به ألكسندر اعتداء على مؤسسات الدولة وهيبتها. الشكل الذي اتخذته هذه الغيرة على مؤسسات البلاد مبالغ فيها بل، إذا أخضعناها للتحليل والتمحيص يمكن تصنيفها رؤية أنانية شكلا ومضمونا.
في هذا الصدد، من زاوية قانونية، لا يرقى اعتداء ألكسندر على مواطنين إلى جريمة جنائية، لم تحصل أي جريمة بمفهومها الكلاسيكي بل يصنف باعتداء محدود أو شطط محدود في استعمال السلطة.
وعليه، لماذا موقف الفرنسيين يعتبر أنانية مقلقة؟ هنا سنلجأ إلى باب المقارنة؟ لقد قام الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بشن حرب رفقة البريطانيين ضد ليبيا بحجة مناصرة الربيع العربي لتخليص هذا البلد المغاربي من دكتاتورية الرئيس معمر القذافي، وكان تدخلا غير قانوني، وفق القوانين الدولية، ونتج عن هذه الحرب وفاة الآلاف وتدمير بلد والتسبب في أكبر موجات الهجرة السرية من شواطئ ليبيا إلى أوروبا ولاسيما إيطاليا. هذه الجريمة الحربية التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية لم تتسبب في انتفاضة سياسية وفكرية في فرنسا باستثناء بعض ردود الفعل لكنها لم ترق حتى إلى 2% من الضجة المرافقة لقضية ألكسندر إذا اعتمدنا مفهوم النسبة المئوية.
والتساؤل هنا الذي يفرض نفسه: هل تعنيف مسؤول لمواطنين فرنسيين أغلى وأهم من قرار سياسي وعسكري للرئيس أدى إلى مقتل الآلاف في ليبيا والى جرائم ضد الإنسانية؟
في الوقت ذاته، يجري القضاء الفرنسي تحقيقا حول تمويل نظام معمر القذافي للحملة الانتخابية التي قادت نيكولا ساركوزي إلى الحكم سنة 2007، والآن لم يعد هناك جدل حول هذا التمويل بعد ظهور أدلة. ودائما كلمة التساؤل مناسبة والتساؤل بالمناسبة هو: لماذا لم ينتفض الفرنسيون عندما بدأت الأخبار الأولى تتسرب حول تمويل القذافي لحملة ساركوزي الذي أوصلته إلى رئاسة فرنسا؟
في الوقت ذاته، كيف سمح الفرنسيون لأنفسهم بالتزام الصمت الجماعي، مع استثناءات، أمام أكبر فضيحة وهي تمويل نظام دكتاتوري بكل المقاييس لديمقراطية تصنف بالعريقة ووريثة الثورة الفرنسية؟ لماذا لم ينتفض المفكرون قبل السياسيين وهم يرون سياسيا يرأس أعلى هرم الدولة، الرئاسة، ويصدر قرارات مصيرية، وهو القادم عبر صناديق اقتراع مهما كانت شفافيتها فهي ملوثة بأموال دكتاتورية حديدية؟ وبالمناسبة، لا يقتصر الأمر على أموال القذافي فقط، بل هناك ربورتاجات وتحقيقات تتحدث عن رؤساء أفارقة مولوا مرشحي اليمين الفرنسي للرئاسيات منذ السبعينات لكنها لم تصل إلى القضاء لقلة الأدلة عكس ملف تمويل القذافي لساركوزي.
في مقال سابق (20 فبراير 2018) في جريدة «القدس العربي» وبعنوان «لماذا تصمت شعوب الغرب عن دعم حكامها للدكتاتوريين العرب؟» عالجنا صمت المجتمعات الغربية عن سياسة حكوماتها تجاه العالم العربي، وهي السياسة القائمة على دعم أنظمة ديكتاتورية في العالم العربي والقارة الافريقية. واعتبرنا استيقاظ الضمير الغربي من ضمن الشروط الأساسية لضغط شعوب الغرب على حكوماتها لوقف دعم الأنظمة الدكتاتورية حتى تستطيع الشعوب العربية تحقيق قفزة نحو الديمقراطية. إذ أبانت التجربة أنه كلما توفر الدعم الغربي للأنظمة الدكتاتورية، تنمرت واستأسدت هذه الأخيرة على شعوبها.
في غضون ذلك، من حق الفرنسيين الاحتجاج في قضية ألكسندر بنلا وإبداء الغيرة على مؤسسات الدولة، لكن هذا الاحتجاج يبقى أنانيا وبدون معنى على ضوء صمتهم على جرائم حكوماتهم في ليبيا منذ سنوات وقبولهم بتمويل نظام دكتاتوري لسياسي تربع على عرش رئاسة في ديمقراطية يفتخر الفرنسيون أنها الأعرق في العالم.