كنّا كتونسيين وغيرنا من بلاد العرب والعجم نتردّد على بلاد الشّام، كلّ حسب غايته ومقْصده، السائح لسياحته، والتاجر لتجارته، والطالب لتعليمه، وصاحب الحاجة إلى ما غايته، أغلب هؤلاء كان على معرفة بأهمّ معالمها التاريخية، لكن الكثيرين لم يكن لهم علم، بأنّ في ضواحي دمشق معلما تاريخيا هامّا، يشدّ إليه من زاره على معرِفة به، أكثر من أيّ معلم آخر، إنه ضريح عقيلة بني هاشم زينب الحوراء عليها السلام، الذي يتقاطر إليه شيعة ومحبّو أهل البيت عليهم السلام من كافة أنحاء العالم، استجابة لمودّة قربى النبي صلى الله عليه وآله التي فرضها الله سبحانه في كتابه فقال: (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إنّ الله غفور شكور) (1)
هذا المعلم التاريخي الذي كان قبل بدء المؤامرة على سوريا، مزارا في ريف دمشق الجنوبي، اجتمع حوله السوريون من مختلف الطوائف لينعموا بالأمن في جوارها، وتمتلأ المنطقة وتكتظ بالزّوار وتزدحم الشوارع والمزار بالوافدين، هذه منطقة السيدة زينب عليه السلام بدمشق، وهي محلّ خلاف تاريخي أثاره مصريون، بأن السيدة زينب مدفونة عندهم في القاهرة، ورغم أنّه ادّعاء غير قائم على أدلّة، فزينب التي هناك ليست هي الحوراء بنت علي وفاطمة الزهراء عليهم السلام، لوجاهة كون عقيلة بني هاشم مثواها في بستان زوجها عبد الله بن جعفر رضوان الله عليه، حيث وافتها المنية في 15 رجب 62 هجرية، وليس هناك سبب واحد يأخذها إلى القاهرة، لتدركها المنيّة ويكون مثواها هناك.
منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، والسيدة زينب عليها السلام، مزار محبي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، في محنتها التي عاشتها في كربلاء، يوم العاشر من محرم سنة 61 هجرية، وتُعد المنطقة السيدة زينب بريف دمشق، الأولى من حيث تصنيفها معلما مُعْتَبَرا للسياحة الدينية، وقد تجمّع حولها سوريون من مختلف الطوائف يسترزقون من الوافدين اليها، والمنطقة معدودة الأكثر كثافة سكانية في دمشق.
ابتليت سوريا بمؤامرة الربيع العربي الصهيو أمريكية، فكانت الأكثر تضرّرا من غيرها من البلدان التي تعرضت لتلك الآفة، وهي المستهدفة بالأساس، وقد مُهّد لها بتونس وليبيا ومصر تباعا، لتكسر حاجز الخوف من قلوب السوريين، فينخرطوا في محاربة نظامهم بالسلاح، وقد رُفِعت أثناءها شعارات طائفية من درعا، قبل أن تتحرك القوات الأمنية والعسكرية السورية بمدّة لمواجهة المؤامرة، غباء قناة الجزيرة في بثها المباشر في أوّل أيامها من درعا، كشف من خلال تصريحات شاهد عيان، محاول إثارة السوريين بالإدعاء أن حزب الله والحرس الثوري الإيراني، هم المتسلّطون بالقمع على المتظاهرين السلميين السوريين.
وانطلت الدعايات وصدّق من صدّق من السوريين والعرب خرافات القمع والقتل والتعذيب، فانخرط منهم من انخرط في المؤامرة، وتشكل طوق من الجماعات الإرهابية المسلحة أحاط بمنطقة السيدة زينب، وكادت تسقط هي ودمشق كاملة، لولا رجال أحرار وقفوا في وجه أمواج الإرهاب العاتية، التي هبّت على سوريا بدعم أمريكي غربي صهيوني، وتوطئ عربي مفضوح، ضربت بأضرارها في كل مكان وصلت إليه، وكان حصار المنطقة في حساب المجاميع الإرهابية كسبا لها، حيث كانت تسعى من أجل سقوط المنطقة عسكريا، وتُعِدّه انتصارا معنويا كبيرا، يمهّد لانتصار أكبر، وثقة بأنفسهم كتبوا على الجدار الغربي للمقام عبارة ( سترحلين كما سيرحل بشار) يقصدون بها السيّدة زينب عليه السلام، تعبيرا عما يختلج في قلوب أصحابها، من حقد وبغض دفين لهذه السيدة العظيمة، وإلّا ما ضرّهم لو نأوا عن ضريح بطلة من بطلات الإسلام، وقفت صابرة جلدة شامخة، منذ بداية المعركة الغير متكافئة تماما، وشتان ما بين ثلة مؤمنة لم تتجاوز 73 رجلا، وقفوا مع قائدهم من أجل الإصلاح في الأمّة، وبين جموع غفيرة من جلاوزة وعساكر النظام الأموي الفاسد، عدّوها بالآلاف وعشرات الآلاف، زادها الله ثباتا ويقينا بعد مقتل أخيها الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، لم تزعزعها المصائب المتلاحقة في ذلك اليوم، لتعبّر عن موقف بطولي لسيدة أهل البيت عليهم السلام، وتسجّل موقفا ثابتا عبّر عنه أخوها، وعمل من أجله أخوها وأبوها وجدّها النبي صلى الله عليه وآله، فليس هناك أمضى من كلمة حقّ أمام سلطان جائر، وهكذا كانت وِقْفتها في الكوفة أمام ابن زياد، وفي دمشق أمام الطاغية يزيد بن معاوية.
ولم يتوقف الأمر عند كتابة ذلك التعبير السّيّء، بل تجاوزه إلى الاستهداف الفعلي للمقام بالقذائف الصاروخية والهاون، من طرف الجماعات الإرهابية الوهابية التكفيرية، التي حاصرت عناصرها المنطقة باستثناء طريق المستقبل( طريق المطار) المنفذ الوحيد الذي بقي متاحا، وأصبحت تمطرها بالقذائف والقنص والتفجيرات الانتحارية بالمفخّخات، فأينما وقعت أو أصابت، فذلك مكسب وغنم للإرهابيين في التضييق والتشديد على المسلمين الشيعة، الفارّين من بيوتهم ومناطقهم من القتل بدم بارد، لم يجدوا ملجأ يحتموا به سوى جوار هذه السيدة العظيمة، ولا يدرك عظمتها سوى من عرفها وقرأ معاناتها في كربلاء، مع ذلك لحقت القذائف من احتمى بجوارها، فقُتِل منهم من قُتِل وجُرِح من جُرِح.
ومرّت الشهور والسنوات وتحرّرت المنطقة ودُحِر الإرهاب، لكن آثاره بقيت إلى اليوم، تحكي قصص بطولات رجال مؤمنين، قدموا من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، ملبّين نداء أخيها الحسين عليه السلام: (هل من ناصر ينصرنا أهل البيت؟)(1)، فقالوا مقالتهم الشهيرة، التي بقيت معبّرة عن إرادة رجال مقاومين، لا تَهِنُ لهم عزيمة، ولا تنكسر لهم شوكة، وإذا علا صوتهم، فلن يطغى عليه صوت آخر: (لن تسبى زينب مرتين)(2)، وتحققت التلبية، وأصبح النداء وعاليا وصل آذان من لم يكن بسمعه وقْرًا، وكانت التضحيات جسيمة وغالية هانت من أجل أن لا تُسْبى زينب مرّة أخرى، وحفظ رجال الله في الميدان مقامها من دنس أعداء الإنسانية، الذين لو وجدوا مجالا لانتهكوه، كما فعلوا بضريح الصحابي الجليل حجر بن عديّ الكندي في مرج عذرا(3).
واليوم وبعد سنوت المحنة والازمة – وأنا شاهد على كل ما جرى منذ 2011- رحل الأفاكون ومجرميهم، قادة ومقُودين، أمراء فتنة ومأمُورين، لا الجيش الحرّ كان حرّا ولا جبهة النصرة انتصرت، ولا قامت قائمة لداعش، ولا أحرار الشام تجسّدت فيهم حرّية أهل الشام عندما قاوموا الإستعمار الفرنسي وأخرجوه مرغَما، وإذا هم أدوات خبيثة بيد أردوغان، ذهب منهم من ذهب مقبوضا إلى مصيره، بسوء خاتمة ما جنته يداه، ورحل منهم من رحل عن عالم القيادة السياسية، دون أن يحقق فيما انخرط فيه من مؤامرة شيئا، رحلوا بتبعاتهم وجناياتهم، رحل أوباما ورحل ساركوزي ورحل مرسي ورحل حمد، وسيرحل كل من اشترك في المؤامرة على سوريا، لكن سوريا باقية، وستبقى فيها السيدة زينب رمز الإباء والصّبر، عامر مقامها بأوفياء شيعتها ومحبّي أهل بيتها عليهم السلام، وكلهم إصرار على البقاء على العهد، أوفياء لنهجهم المحمّدي، يدفعون عنه عدوان المعتدين، ويلوذون به وقت الشدّة.
المصادر
1 – سورة الشورى الآية 23
2 – لن تسبى زينب مرتين القسم الأول
3 – تدنيس مقام الصحابي حجر بن عدي، انتهاك يخدم تاجيج الفتنة
https://www.alnour.com.lb/news/ordinary/242560/