قد يتصوّر كثيرون في العالم، وبالذات المهرولون «العرب» للاعتراف بالكيان الصهيونيّ، ومَن يقف إلى جانبهم ويروّج للتطبيع مع العدو، أنّ القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني طويت الى غير رجعة. وأنّ عهداً جديداً بدأ يسود ويطغى في عالمنا العربي، وفي منطقة الشرق الأوسط، ليدخلهما في «العصر الإسرائيلي الجديد».
لا يريد العدو «الإسرائيلي» منذ تأسيس كيانه غصباً، أن يقتنع بمنطق التاريخ وحركته، أن لا قوة تستطيع أن تلغي شعباً من الوجود، يتمسّك بأرضه وتراثه وجذوره، وإنْ توفرت لها مؤقتاً عوامل إقليميّة ودولية للحفاظ على وضعها الشاذ، وحكم الأمر الواقع.
لا يريد الصهاينة ومَن معهم، ان يقتنعوا بأنّ مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال، لا تنتهي بالاتفاقيات والتسويات والصفقات على حسابه. وأنّ الوضع غير الطبيعي في العالم العربي لن يبقى على حاله للأبد، وأنّ الأجيال العربية والفلسطينية ستظلّ تتوارث المقاومة من جيل الى جيل، وإلى يوم موعود لا مفرّ منه.
الطغاة المحتلّون، والخوَنة المتخاذلون وتجار القضية، لا يقرّرون أبداً مصير فلسطين وشعبها، ولا يفاوضون عنها وعنه، مصير فلسطين ومستقبلها يقرّره شعبها المقاوم، الذي تجاوز سلوك ورهانات وسياسات السلطة الفلسطينية وترهّلها، وكشف الانتهازيين والعملاء الذين يعملون من الداخل على تصفية قضيته.
السلام العادل لن تحققه «إسرائيل»، وإنْ سعى إليه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي قال على وسائل الإعلام يوماً: «نريد أن نلتقي مع جيل الشباب في «إسرائيل»، الجيل الذي نعمل هذه الأيام من أجل مستقبله، من أن يعيش بأمن واستقرار في هذه المنطقة»… (!!!) «نريد السلام مع «إسرائيل» أولاً، «إسرائيل» جارتنا، نريد ان نعمل سلاماً معها، ونعيش في سلام معها …(!!!).
أيّ سلام ينادي به رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وما هي الخطوات التي تقوم بها السلطة وهي تشاهد يومياً ممارسات «إسرائيل» في تهويد القدس، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وطرد الفلسطينيين من ديارهم، وإصرارها على فرض سلام الأمر الواقع، المبني على مفهوم القوة والاحتلال، مفهوم ترفضه المقاومة الفلسطينية بالشكل والأساس.
ستتعب «إسرائيل» ولن تتعب المقاومة، التي سيظلّ سيفها مسلطاً على رقبة الكيان، الذي لن ينعم بالأمن ولا بالسلام، رغم كلّ ما ينجزه ويحققه من مكتسبات في الوقت الحاضر… إذ يبقى شعب فلسطين، قنبلة في خاصرة «إسرائيل»، تقضّ مضجعها باستمرار، لن تجعل المحتلين يعيشون بأمان واستقرار. جرثومة غريبة دخلت في جسد الأمة لن يكتب لها الاستمرار والبقاء مهما طال الوقت، وأياً كان الرهان.
كيان غاصب لم يعد يقتنع باستمراريته، رغم قوّته، حتى العديد من الساسة والإعلاميين الصهاينة. إنه صراع مستمرّ بين إرادتين، لن يتوقف الا بانكسار إرادة الاحتلال.. ستبدي الأيام للصهاينة وأعوانهم، أنه على الرغم مما حققته «إسرائيل» من «إنجازات» واعتراف وتطبيع مع بعض «العرب»، فإنها لن تستطيع أن تقضي على القضية الفلسطينية وتنهي حالتها، وتؤسّس لوضع جديد ملائم لها في الشرق الأوسط.
إنّ الإرادة الفلسطينية في نهاية المطاف، ستكسر لا محال شوكة المحتلين.
إنّ الصراع طويل، ولن يتوقف بين المقاومين والمحتلين. الفلسطينيون على أرضهم صامدون، صابرون، متربّصون، مقاومون، ينتظرون الساعة، والصهاينة سيظلّون يعيشون هاجس الأمن، والسلام والاستقرار والبقاء.
فأيّ استقرار وبقاء وأيّ أمن هو هذا الأمن الذي يتطلع إليه نتنياهو الذي قال: «في الشرق الأوسط يتقدّم الأمن على السلام ومعاهدات السلام، وكلّ من لا يدرك هذا، سيظلّ دون أمن ودون سلام».
«إسرائيل» وإنْ وقّعت معاهدات سلام مع بعض العرب، إلا أنها بكلّ تأكيد، لن تحقق الأمن والأمان والاستقرار للمحتلين الصهاينة، طالما هناك شعب مقاوم مُصرّ على انتزاع حقوقه بالمقاومة والقوة.
أبراهام بورغ رئيس الكنيست «الإسرائيلي» الأسبق، وأحد أبرز الوجوه الصهيونية يكشف في كتابه: «هزيمة هتلر Vaincre Hitler»، واقع ومأزق «إسرائيل» وقلق مستوطنيها ليقول: «إنّ دولة «إسرائيل» التي كان يتوجّب عليها، توفير ملجأ آمن للشعب اليهودي، أصبحت بالنسبة له المكان الأكثر خطورة… لنغمض أعيننا، ولنحاول أن نسأل أنفسنا، أيّ مكان أكثر أمناً للعيش: في القدس، مدينة مقدسة ومتفجّرة؟ في الخليل، مدينة الثلاث أسباط للأمة الممزّقة بين مختلف المتحدّرين من إبراهيم؟ أم في نيويورك رغم هدم البرجين على يد الأصوليّة؟ يبدو لي أنّ كثيرين سيجزمون أنّ نيويورك هي أكثر أمناً على المدى البعيد من الدولة اليهودية ولو أنها مدجّجة حتى النخاع بالقنابل الذرية»…
«إنّ حضور الموت الذي لا يتوقف في حياتنا ـ يقول بورغ ـ
المرتبط بحروب «إسرائيل»، لا يؤدّي إلا إلى الإكثار من المجازر والدمار والإبادة التي يتلقاها شعبنا. لهذا فإنّ الأموات في هذا البلد لا يرقدون أبداً في سلام، إنهم دائماً نشطون، دائماً حاضرون، دائماً ملازمون لوجودنا التعيس… لقد ربحنا كلّ الحروب، ومع ذلك، نحتفظ بشعور عميق بالخسارة… إنّ الحرب لم تعُد استثناء لنا، بل أصبحت قانوناً، وطريقة عيشنا، طريقة حرب تجاه الجميع…».
إنّ صراع الإرادات وحسم الأمور يتمّ في الميدان، سيحدّده ويرسم طريقه شعب مناضل حيّ، آل على نفسه أن يصمد ويقاوم، ليسترجع بالقوة حقوقه المشروعة وإقامة دولته على أرضه، واستعادة ما خسره على مدى قرن من الزمن.
متى سيقرّ الصهاينة في تل أبيب، بعد 72 عاماً من تأسيس كيانهم الغاضب، أنّ فلسطين ليست أرضاً بلا شعب، وأنّ الفلسطينيّين ليسوا في وارد نسيان وطنهم وأرضهم، وتاريخهم وحقوقهم القومية!
سيأتي اليوم الذي سيقرّ به الصهاينة، إنّ زجّ المقاومين في السجون، والمعتقلات، والقيام بممارسات الإرهاب، والتخويف والتعذيب، وهدم البيوت، والحصار، والقمع والتجويع، لن يوفر لهم الأمن ولا السلام الهشّ الذي يمنحه لهم بعض المهرولين العرب، ولن يمنع المقاومين من الوصول الى عقر دارهم وتصفية الحساب معهم.
أيّها الصهاينة، اعلموا جيداً، أنكم تواجهون أصلب وأقدر وأصعب وأشجع شعب، وأكثر صبراً وعزيمة في تاريخ النضال الوطني للشعوب الحرة في العالم، لذلك سينتصر عليكم الفلسطينيون ومعهم كلّ أحرار الأمة، وستُهزمون، ولن يفيدكم في ما بعد، دعم الطغاة في العالم لكم، أو اعتراف أو تطبيع أو تطبيل جاءكم به مرتدّ من هنا أو هناك.
*وزير الخارجية والمغتريين اللبناني الأسبق.
(البناء)