ثالوث العدوان المتمثل بالرأسمالية العالمية بزعامة أميركا، والرجعية العربية، والعدو الصهيوني لم يكن أكثر وضوحاً في تحالفه ضد أماني الأمة ومصالحها كما هو اليوم
في 18 نيسان 1955 التقت وفود من 29 دولة آسيوية وإفريقية في مدينة باندونغ الإندونسية، في سعي لحماية هذه الدول حديثة الاستقلال من الذهاب ضحية للحرب الباردة التي بدأت بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية في مطلع الخمسينيات.
جاء المؤتمر بمبادرة من الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو، وكان الرؤساء: المصري جمال عبد الناصر، والسوداني إسماعيل الأزهري، واليوغسلافي جوزيف تيتو، والهندي جواهر لال نهرو، من أبرز المدعوين والحضور في هذا المؤتمر، وحضرته جبهة التحرير الوطني الجزائرية، التي كانت تحارب المستعمر الفرنسي، ما يشير إلى التوجهات التحررية التي حملها المؤتمر.
على الرغم من التباين في المواقف السياسية لبعض الدول آنذاك، خاصة الصين والهند في مواجهة باكستان واليابان، إلّا أن روح التعاون والتفاهم سادت بين الأطراف المجتمعة، وهو ما اصطلح على تسميته «روح باندونغ».
انطلاقاً من هذه الروح، انعقد في عام 1956 مؤتمر في جزيرة بريوني اليوغسلافية، دعا فيه الحضور، وهم الحضور نفسه في مؤتمر باندونغ، إلى اتباع سياسة الحياد الإيجابي (عدم الانحياز) إلى أي من القوتين العالميتين (الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة).. هذه الدعوة كانت القاعدة التي ستنطلق منها حركة عدم الانحياز بعد مؤتمرها الأول في القاهرة 1961.
منذ مؤتمر بلغراد عام 1962 دأبت حركة عدم الانحياز على تأكيد مبادئ أهمها تشجيع حركات التحرر الوطني، والنضال في سبيل الاستقلال، وعدم الانضمام إلى الأحلاف العسكرية، أو الارتباط بأحلاف عسكرية مع الدول الكبرى، أو السماح لهذه الدول بإقامة قواعد عسكرية على أراضي أي دولة عضو في الحركة.
طبعت «روح باندونغ» مرحلة التحرر الوطني والاستقلال بطابعها.
ومن العدل القول إن تلك الروح كانت العامل الأهم في تحقيق الكثير من إنجازات الدول الوطنية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، خاصة في مجالات التنمية، والتعاون المشترك، وأصبح قادة حركة عدم الانحياز رموزاً للتحرر الوطني في بلدانهم والعالم.
لكن هذه الحركة عانت قصوراً واضحاً في التحليل الاقتصادي بطرحها إمكانية التعايش والتعاون بين النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، وإن هناك إمكانية لاستغلال الفرص المطروحة من السوق من أجل تقوية درجة التمتع بالاستقلال الذاتي إزاء النظام العالمي.
ورغم وضوح سياساتها القائمة على التناقض مع المركز الرأسمالي في ما يتعلق بالاستقلال وبناء الدولة الوطنية الناجزة، إلا أنها لم تنظر إلى التناقض الاقتصادي مع هذا المركز بنفس الجذرية.
في ظل عدم حسم الخيار النهائي باتجاه التناقض الجذري مع المركز الرأسمالي العالمي، حكمت «روح باندونغ» على نفسها بالمحدودية التاريخية، المرتبطة من جهة بظروف مرحلة التحرر الوطني والاستقلال، ومن جهة أخرى بحضور القيادات التاريخية التي امتلكت «كاريزما» التغيير لكنها لم تمتلك الرؤية الاستراتيجية الضرورية لهذا التغيير، والقائمة على بناء الكتلة الطبقية «التاريخية» القادرة على حمل المشروع واستكماله بعد غياب هذه القيادات.
إذا أضفنا إلى ما سبق، العداء الغربي (الرأسمالي) لهذه الروح، وعمله ضدها بشكل مباشر من خلال الحروب (العدوان الثلاثي، الحرب والحصار على كوبا) والحصار الاقتصادي، أو بشكل غير مباشر من خلال الأدوات الرأسمالية، التي مثلتها الدول الرجعية.
وفي منطقتنا بشكل خاص كان دور العدو الصهيوني حاسماً في هذه المعركة.
هذه العوامل مجتمعة جعلت من انهيار مشروع التحرر الوطني العربي، ابتداء من «انفتاح» السادات وحتى «الربيع العربي» أمراً مفهوماً ومحتوماً.
على وقع الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري وحلفاؤه في الحرب على سورية، وكذلك انتصارات الجيش اليمني على العدوان الرجعي الذي تقوده السعودية، يمنحنا التاريخ فرصة جديدة لإعادة إطلاق مشروعنا التحرري الوطني.
فثالوث العدوان المتمثل بالرأسمالية العالمية بزعامة أميركا، والرجعية العربية، والعدو الصهيوني لم يكن أكثر وضوحاً في تحالفه ضد أماني الأمة ومصالحها كما هو اليوم.
في الناحية المقابلة يعيد محور المقاومة، بجميع أطرافه، الاعتبار لشعار وحدة الجبهات التي تتصدى لمعسكر العدوان، وهو الشعار الذي رفعه قادة مرحلة التحرر الوطني.. جمال عبد الناصر، هواري بومدين، حافظ الأسد.
ولكن هناك عوامل كثيرة تقف في وجه تبلور مشروع تحرر وطني عربي حقيقي، بعضها موضوعي يتعلق بظروف التجزئة، والأزمات الداخلية في كل دولة، وبعضها ذاتي يتعلق بالقوى التي يُفترض بها صياغة هذا المشروع وحمله على عاتقها.
ويمكن إجمال العوامل الذاتية تحت عنوانين رئيسين:
أولاً: الأسر؛ لقد وقعت الكثير من القوى التي تصف نفسها بالتقدمية أسيرة لمقولات ومشروعات ليبرالية، تكيّفت من خلالها مع عصر «الانفتاح الديمقراطي» الذي دشنته الرأسمالية بنسختها «الإنسانية».
هذه القوى التي أصبحت شرعية وعلنية في بلدانها، لم تكتسب هذه الشرعية من خلال فعلها النضالي، بل اضطرتها شروط تلك الشرعية إلى التنازل عن جزء من تاريخها النضالي.
استفادت هذه القوى من مبدأ “الحوكمة الرشيدة” الذي انطلق في حقبة الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
ويتجلى هذا الأسر داخل حدود “الشرعية الليبرالية” في انحياز الكثير من القوى اليسارية والقومية إلى محور العدوان خلال ما سمّي “الربيع العربي”، تحت شعارات ليبرالية جوفاء.
ثانياً: التردد؛ تميّز أداء معظم القوى التقدمية التي انحازت إلى محور المقاومة، خاصة تلك الموجودة خارج سورية ولبنان، بالتردد الواضح.
فرغم أن الحرب على سورية منحت بعض القوى- تلك التي رفعت دائماً شعارات التصدي للإمبريالية بشكل عام، والكيان الصهيوني بشكل خاص- فرصة للانخراط في حرب مباشرة مع هذين العدوين، إلا أن معظم هذه القوى اكتفت بالدعم الإعلامي والسياسي، وضيّعت فرصة الوجود على أرض المعركة.
هذا التردد نجم من ناحية عن شعور هذه القوى، خاصة في بداية الحرب، أنها تسير عكس التيار اليساري السائد في المنطقة، ومن ناحية أخرى، وبشكل انتهازي، كانت تنتظر انكشاف غبار المعركة لتحدد انحيازاتها النهائية.
الهدف من هذا التحليل ليس إدانة طرف، أو تمجيد آخر، ولكن وضع الإصبع على مواطن الضعف التي انتابت مواقف الكثير من القوى التقدمية خلال مؤامرة “الربيع العربي”.
اليوم، وقد أصبحت الصورة أكثر وضوحاً، وبات النصر في متناول اليد، في سورية وفي اليمن، وقريباً في العراق، واتسع التأييد الشعبي والسياسي لمحور المقاومة، فإن التعلق بالنصر العسكري، على أهميته، لا يكفي بمفرده لتحقيق النصر النهائي على المشروع الإمبريالي– الرجعي.
إن غياب الجهد والنضال في سبيل صياغة مشروع تحرر وطني عربي، خاصة في شقّيه الاقتصادي والاجتماعي، ليس سوى تكرار لتجربة «روح باندونغ» ومآلاتها.
نحن مطالبون اليوم، بالعمل الجدي، لعقد مؤتمر يجمع القوى التقدمية العربية، تنخرط فيه كل القوى القومية والتقدمية العربية، حتى تلك التي أخطأت التقدير خلال الأزمة، ومناقشة خطط وأوراق عمل بعيداً عن البروباغندا الإعلامية، وطرحها في جلسات مؤتمر يعقد في دمشق، تتبلور من خلاله مفردات مشروع التحرر الوطني العربي المستقبلي، لكي تكون «روح دمشق» عنواناً للمرحلة القادمة.