– للذين يرون أبعد من أنوفهم ولا يغرقون بشبر ماء تحضر المقارنة بين مرحلتين، المرحلة التي يرسم عناوينها الموقف الأميركي الجديد والذي تحده ثلاثة أضلاع، الأول الانسحاب عسكرياً من المنطقة بالتدريج وبأقل الخسائر وترك أكثر الألغام الممكنة، والثاني تشديد القبضة المالية بالعقوبات التي تستهدف كل القوى والحكومات غير المنضبطة بالسياسات الأميركية، والثالث التطابق مع الطلبات الإسرائيلية والتخلي عن السياسات القائمة على المساعي التفاوضية بحثاً عن تسوية للقضية الفلسطينية، والمرحلة التي عرفتها المنطقة قبل ثلاثين عاماً مع الرئيس الأميركي الأسبق الجمهوري جورج بوش الأب، والتي كانت حدودها أضلاع معاكسة، مؤتمر مدريد للسلام، وعاصفة الصحراء بحضور عسكري مباشر، وتعويم لبنان بخطة سياسية اقتصادية تخرجه من الحرب الأهلية وتتحدث عن انسحاب إسرائيلي وفقاً للقرارات الدولية وتنتقل بلبنان من الخراب نحو السلم الأهلي والإعمار. وبالمقارنة يصير السؤال أي الأميركتين يجب أن تقيم المقاومة لها الحساب أكثر؟
– ليس لدى المقاومة التي لم تتغير، أي شك بأنها على طرف النقيض مع السياسات الأميركية. وهذا واضح منذ وثائق تأسيس هذه المقاومة، وحزبها القيادي حزب الله، لكن المقاومة المؤسسة على مشروع المواجهة مع كيان الاحتلال، تنمو وتكبر كلما بدت الحلول التفاوضية فاشلة وبائسة ومغلقة، وتحاصر وتجفّ بيئتها السياسية كلما بدت الحلول التفاوضية على قيد الحياة وتنبض بالأمل، وكلما بدا أن هذه الحلول تستقطب شرائح وقوى وحكومات تعتبرها المقاومة سنداً لمشروعها أو جزءاً طبيعياً منه، والمقاومة المؤمنة بأنها طريق وحيد للتحرير واستعادة الحقوق، تختنق عندما تظهر أوهام اعتماد حلول بديلة، وتشق طريقها إلى عقول الناس، وتحاصر عندما تصير دعوتها هي مشروع حرب عبثية لنيل حقوق يمكن نيلها بالطرق السلمية، وعندما تصير دعوة لشعبها للمعاناة بينما تعرض عليه خيارات الرفاه، وعندها تصير المقاومة قلة قليلة، يزداد الخطر على مشروعها عندما يقف في مواجهة عزم أميركي على القتال والحضور العسكري، مدعوماً بمناخ سياسي وشعبي عنوانه السلام والرخاء، فيما أميركا تتزعّم العالم منفردة، كما كان الحال في مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
– الرئيس الأميركي الذي يقول للعرب إن لا وجود لتسوية إلا بالرضوخ الذليل للشروط الإسرائيلية وبالتنازل الكامل عن الأرض والحقوق، والذي لا يعد إلا بالعقوبات والحصار والإفقار، والذي يهرب بجيوشه من المواجهة، كما هو حال الرئيس دونالد ترامب، يضع في رصيد المقاومة ما يفيض عن حاجتها من مصادر القوة، فيحشد لها جمهوراً وبيئات وشرائح ما كانت لتجمعها بها مسيرة واحدة، وها هو اليوم واقع السلطة الفلسطينية التي لا تملك إلا خيار القول بسقوط التفاوض، كحال كثير من الحكومات العربية التي قاتلت لإسقاط سورية، وتخشى اليوم من الاعتراف الأميركي بضم «إسرائيل» للجولان، أن يمنح المصداقية والمشروعية لعلاقة سورية بمحور المقاومة، والرئيس الأميركي الذي يبدو مهاجماً شرساً قوياً، هو مثال الرئيس الأميركي الذي يناسب المقاومة ومشروعها، لأنه يسقط كل الأوهام ويضع الشعوب والحكام أمام ساعة الحقيقة فتظهر المقاومة حقيقة وحيدة، بينما يبدو سلفه التفاوضي التسووي ليناً مرناً متنازلاً، هو الذي يشكل الخطر على المقاومة ومشروعها، لأنه يدسّ سمّ الاحتلال والهيمنة في عسل التسويات والحلول التفاوضية.
– المقاومة اليوم هي أقوى بكثير مما كانت قبل ثلاثين عاماً وأشد خبرة وجمهورها وحلفاؤها اختبروا مصداقية ثقتهم بها وبخياراتها. وأميركا اليوم أشد ضعفاً بكثير مما كانت قبل ثلاثين عاماَ. وقد تغير العالم، وسقطت الأحادية، وحضرت روسيا، وهُزمت «إسرائيل» مرات عديدة، وجاءت أميركا بحروبها وحلفائها وأداوتها وتكسرت رماحهم جميعاً. وهذه المقاومة التي نجحت قبل ثلاثين عاماً بتخطي المراحل الأشد صعوبة وخطراً، تحتفل اليوم بانتقال راية القيادة في المنطقة إلى يدها، فتنحّي واشنطن من خيار الحلول التفاوضية وتحويلها الخضوع الذليل لـ«إسرائيل» إلى سياسة مع سابق التصور والتصميم والإصرار، وتبشيرها بالإفقار والحصار، وهروبها العسكري إلى ما وراء المحيطات والبحار، ثلاثية تبشر بزمن المقاومة القادم إلى الجولان والجليل والقدس، وإلى تغييرات كبيرة لا حاجة للحديث عنها منذ الآن، تغييرات ستحلّ على الأنظمة أو تصيبها، لحساب مناخ سياسي جديد يحتضن المقاومة، وينبذ التطبيع والخضوع. هذا هو منطق التلاقي بين السنن الإلهية والسنن التاريخية الذي تشتغل عليه المقاومة.
– كلام السيد حسن نصرالله هو كلام صاحب زمانه المدرك مصادر القوة، وقوانين الحرب واللعب مع الزمن. فالزمن الأميركي يُدبر وزمن المقاومة يُزهر، ويعرف الذي هزم النسخة الأشد قسوة وخطورة من المشروع الأميركي في مطلع التسعينيات، كيف يلاعب بيسر النسخة الهجينة من هذا المشروع وهو يحزم حقائبه… لم يقلها السيد نصرالله، لكن الوقائع تقولها عنه، الزمن يقول وليس نصرالله… الأمر لي.