من خلال مراجعة التاريخ السياسي والدبلوماسي الطويل لتركيا منذ, يظهر جلياً إعتمادها على سياسة “الأرجحة” واللعب في مسارح الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا, بحثاً عن تأمين أكبر قدر ممكن من مصالحها ومكاسبها, ويتأكد للمتابعين أن أرجحتها ومرونتها لا يمكن إعتبارهما إسلوباً وبصمةً حصرية للرئيس رجب طيب إردوغان, وبأنهما تقليداً ونهجاً تركياً مستمراً بإمتياز.
وما بين روسيا والولايات المتحدة تتعثر أرجحتها, وتجد نفسها تحت وطأة الضغوط والعقوبات, التي تصل في كثير من الأحيان حد التسبب بفتور وتراجع علاقاتها مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً, تلك العلاقة التي وصلت عام 2016 حد استهدافها ودعم المحاولة الإنقلابية لإسقاط حكم الرئيس إردوغان.
إن الإعلان عن تأجيل زيارة الرئيس إردوغان إلى الولايات المتحدة, بعدما تم تحديد وإعلان موعدها في 9/أيار, يبدو أمراً لافتاً, خصوصاً بعد تصريح المتحدث بإسم الخارجية التركية عن تأجيل الزيارة إلى “أجلٍ غير مسمى”, يكون “مناسباً لكلا الطرفين بسبب تضارب المواعيد”, في وقتٍ أشار فيه وزير الخارجية هاكان فيدان إلى إزدحام جدول الأعمال والملفات التي سيبحثها الرئيسين بايدن وإردوغان في واشنطن, وبأنه “سيتم التركيز على القضايا الثنائية والدولية”, وهذا يرجح مناقشة الصراع في الشرق الأوسط, والعدوان على قطاع غزة وملفاته المتشابكة الخطيرة, بالإضافة إلى ملف الأزمة الروسية الأوكرانية.
في وقتٍ لا يمكن فيه تجاهل بعض الحقائق والمواقف التي اتخذتها تركيا في الفترات الأخيرة, وتسببت بإمتعاض إدارة بايدن, كالإستقبال والرحيب العلني للرئيس برئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، لمناقشة العدوان الإسرائيلي على غزة, وسط الخطاب الكلامي التركي الداعم للمقاومة من جهة, ومثله المناهض للرواية والمواقف العدائية الأمريكية والإسرائيلية من جهةٍ أخرى, في الوقت الذي تزداد فيه حاجة بايدن للدعم اليهودي – لصهيوني في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كذلك إعلان الوزير فيدان في بداية شهر أيار, نية تركيا بالإنضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية والتي تتهم إسرائيل بإرتكاب جرائم إبادة جماعية في الأراضي الفلسطينية بقطاع غزة, وترافق هذا الإعلان بإطلاق أنقرة الدعوة إلى اعتقال المحكمة الجنائية الدولية لبنيامين نتنياهو, ووزير الدفاع يوآف غالانت، وعضو مجلس الوزراء العسكري بيني غانتس، ورئيس الأركان العامة هرتسي هاليفي، وقائد القوات الجوية تومر بار، وقائد المنطقة الجنوبية، اللواء يارون فينكلمان بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
ومع إعلان تأجيل الزيارة إلى أجل غير مسمى, أعلنت أنقرة في 3 مايو تخطيها تقييد تصدير بعض السلع الصناعية نحو “إسرائيل”, والبدء بتطبيق الوقف الكامل للتبادل التجاري وعمليات التصدير والاستيراد معها، والذي يبلغ حوالي 9.5 مليار دولار, وتأكيدها بإستمرار سريان مفعول العقوبات التركية حتى توقف “إسرائيل” عدوانها على قطاع غزة, وقبولها بدخول المساعدات الإنسانية بشكل دائم, كذلك وجه إردوغان اتهاماته للدول الغربية بدعم “إسرائيل” سياسياً وعسكرياً، وبكل ما من شأنه مضاعفة أعداد الضحايا يوم إثر يوم.
لقد ساهمت المواقف والعقوبات الاقتصادية التركية, بالضغط على الاقتصاد الإسرائيلي, بتراجعه بنسبة 21%, الأمر الذي دفع “إسرائيل” للبحث عن البدائل لتعويض خسائرها عشية إعلان مجلس الوزراء العسكري الإسرائيلي في 6/أيار موافقته على عملية عسكرية في رفح, وبات واضحاً أن الخطوات التركية أتت بمثابة الرد على تأجيل الزيارة ونوعاً من الإهانة لشخص الرئيس التركي.
لقد أدى فرض العقوبات التركية على حكومة الكيان الإسرائيلي بدفعها نحو إتخاذ إجراءات مضادة من باب الرد الموازي, وتوّعد وزيرالخارجية الإسرائيلي أنقرة بإستغلال علاقات تل أبيب مع الولايات المتحدة الأمريكية, بما يشير إلى تحركات أمريكية محتملة على مستوى دفع دول الناتو وغيرها للحد من التجارة مع تركيا, الأمر الذي لم يخرج عن توقعات إردوغان, الذي أكد أن بلاده “تدرك تماماً” كيفية الهجوم الغربي على تركيا جراء تعليقها التجارة مع “إسرائيل”.
في وقتٍ لا يبدو فيه أن الاقتصاد التركي قادراً على الصمود نتيجة الأزمات المالية والإقتصادية الحادة التي تعصف به، في حال فرضت واشنطن وأوروبا المزيد من العقوبات على تركيا بدفعٍ إسرائيلي هذه المرة, ولن يستطيع إردوغان رغم استنجاده برجال الأعمال وجمعية الصناعيين الأتراك, وخاطبهم في لقاء جمعه معهم, بحقيقة توقعاته ومخاوفه, وبنواياه للتقارب الاقتصادي مع دول الجوار, التي وصّفها بالراغبة بـ “العيش معاً في سلام وازدهار”.
من الواضح أن الحظر التجاري الذي فرضته تركيا لن يؤثر بشكل كبير وخطير على “إسرائيل”، التي تستطيع الحصول على البدائل عبر الدول الأوروبية وبعض الدول الأفريقية, ومن المرجح أن تنعكس العقوبات التركية بخسائرعلى تركيا نفسها.
قد لا تكون تركيا بحاجة إلى مضاعفة توتر علاقاتها مع إدارة بايدن, من خلال ما تقوم على المقلب الروسي, وبإعلان وزير دفاعها في 2/أيار “عدم نيتها نقل أنظمة الـ S-400 إلى أوكرانيا”, وبأنها “لا تدعم العقوبات الغربية على روسيا” – بحسب تصريح رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان التركي، فؤاد أوقطاي، في 4/أيار -, وبأنه يتعين على الولايات المتحدة رفع العقوبات التي فرضتها على تركيا جراء شرائها أنظمة الدفاع الجوي الروسية إس-400، وبتأكيده -عالي السقف – “عدم نية تركيا استئناف مشاركتها في برنامج تطوير مقاتلات الجيل الخامس الأمريكية F-35”.
تبدو المواقف والتصريحات التركية نوعاً من الصراخ بألم, وبأنها ليست من الجدية للقيام بها, وتندرج في إطار الأرجحة التركية القديمة – الجديدة ليس إلاّ, على الرغم أنها تتسبب بتراجع ثقة الكثير من الدول بها, إلاّ أنها لم تبد أية نية للإقلاع عنها, وستكشف الأيام القادمة المزيد حول حقيقة إلغاء الزيارة, أم تأجيلها “إلى أجلٍ غير مسمى” لحصاد المزيد من الرضوخ التركي أمام “أسياد” البيت الأبيض.
* كاتب وخبير استراتيجي