جميل أن ترفع دولة غير عربية ولا إسلامية، شكوى إلى محكمة الجنايات الدولية ب(لاهاي)، ضد كيان الصهيوني العنصري المجرم، من أجل محاكمته على ارتكابه جرائم إبادة جماعية بقطاع غزة، فتُحدث بعملها الإنساني الذي قامت به مدفوعة بمبدأ أخذته على عاتقها ملتزمة به، غيرعابئة بمن أغضبه إجراؤها الحقوقي، وقد شكّل ذلك بداية تحوّل عالمي لمناصرة فلسطين، تجرّأت على فتح بابه، دولة كانت ضمن تعداد سابع دولة اعترفت بالكيان الصهيوني، منذ انتصابه محتلا سنة 1948، قامعا دمويا قاتلا مشرّدا للشعب الفلسطيني، بدعم بريطاني أمريكي غربي وقامت بإقامة علاقات دبلوماسية معه في (14/5/1949).
اعتراف كان زمن حكومة التمييز العنصري، ولم ينشأ من خلال تأييد الشعب الجنوب أفريقي المضطهد حينها، بل جاء بأوامر بريطانية أمريكية، وسقطت بعد ذلك بفعل مقاومة شعب جنوب أفريقيا بزعامة المناضل الكبير (نيلسون مانديلا)، وتوقفت تلك العلاقات عندما سحبت الحكومة سفيرها من فلسطين المحتلة في 5 أبريل 2019 بشكل دائم، وقالت وزيرة خارجيتها (لينديوى سيسولو) أن الإجراء جاء خطوة أولى باتجاه تخفيض التبادل الدبلوماسي بين البلدين، تنفيذا لتوصية من حزب المؤتمر الأفريقي، عقب عدوان إسرائيل على المتظاهرين في غزة عام 2008.
وبعد طوفا الأقصى وبدء العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزّة، وفي تصريحات صحفية للرئيس الجنوب أفريقي (سيريل رامافوزا) يوم الأربعاء 15/11/2023 أكّد فيها: (أن جرائم حرب ترتكب في غزة، مشيرا إلى أن دولته تقدمت بشكوى ضد الإحتلال الإسرائيلي في المحكمة الجنائية الدولية، وأشار (رامافوزا) إلى أن غزة تحولت إلى معسكر اعتقال، تجري فيه إبادة جماعية) (1)
هذه جنوب أفريقيا الدولة التي قاوم شعبها التمييز العنصري، وانتصر عليها بعدما ابتلي بحكمها الظالم، تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني لمنع إبادته، بالشكل الذي قررته حكومة الكيان الصهيوني، بينما نرى دولا عربية معترفة بهذا العدوّ الخطير، لا تزال محافظة على صمتها، صاغرة في خضوعها لإتفاقيات باطلة (كامب دافيد / ووادي عربة)، ما كان لها أن تستمرّ، لو وجدت فيها حكومات منصفة لحق الشعب الفلسطيني، وقد برهنت بِصمْتها الذي لاذت به – على الرغم من إمكانها أن تقوم بعمل مؤثر لو وُجِد فيها وطنيين ملتزمين- أنها خائنة لشعوبها، وللشعب الفلسطيني في التجرّد من التزامها الذي أمضت عليه، لتعود من جديد إلى وفائها للقضية الفلسطينية، وقد كانت من قبلُ منخرطة مع بقية الشعوب العربية في تبنّي أعدل قضية في هذا العالم.
وفيما تستمرّ المحكمة الدولية في جلساتها بشأن القضية المرفوعة، جاء طلب (كريم أحمد خان) المدّعي العام فيها، بإصدار أوامر اعتقال 3 من قادة حماس، ورئيس وزراء الصهيوني (بنيامين ناتنياهو)، ووزير دفاعه (يوآف غالانت)، وبناء على نتائج الدراسة، التي جاء فيها: (أنه بصرف النظر عن أي أهداف عسكرية تريد إسرائيل تحقيقها في غزة، يعتقد ادّعاء المحكمة أن وسائلها لتحقيقها – أي التسبب عمدا في الموت والمجاعة والمعاناة الكبيرة والإصابات الخطيرة لأجساد أو صحة السكان المدنيين- هي أعمال إجرامية.(2)
وفي حال اقتنع القضاة، بأن الأدلة المقدمة توفر أسبابا معقولة، للإعتقاد بأن قادة حماس الثلاثة وهم (إسماعيل هنية) رئيس المكتب السياسي، (يحيى السنوار) رئيس حماس في غزة و(محمد ضيف) قائد كتائب القسام، بالإضافة إلى (نتنياهو) و(غالانت) ارتكبوا جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، وتأكدوا من أن المعيار اللازم لإصدار أوامر الاعتقال قد استوفي، فإنهم سيوافقون على إصدار مذكرات اعتقال بحقهم.(2) فإنّ المحكمة تبقى عاجزة عن تنفيذ أي مذكرة منها، بل إنّ المذكرات المتوقع صدورها، ستكون لها مجالات تنفيذ بحق القادة الفلسطينيين دون غيرهم.
ويبدو من خلال خلط الضحية بالمجرم في هذه القضية، أن مسار المحكمة تحوّل من الإستحقاق القانوني، إلى الخضوع السياسي للإرادة الغربية الامريكية، فقد لا تصدر بطاقات جلب دولية تكون ملزمة بتنفيذها 124 دولة، ممضية على التعاون مع هذه المحكمة، بل قد تقتصر بطاقات الجلب المنتظر إصدارها، بحق القادة الفلسطينيين وحدهم، وهذا ما يريده حلفاء الكيان الصهيوني فقط، ولئن عجزت منظمة الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها، ومعها مجلس الأمن الدولي، وهما أعلى مكانة وأكثر قدرة على التأثير، من أجل تنفيذ القرارات الملزمة، فكيف بمحكمة الجنايات الدولية، وهي عاجزة عن تنفيذ مقرراتها، وبطاقات جلب المجرمين؟
والأكثر اثارة وجدية، ما أعلنه وزير خارجية النرويج (إسبن بارث إيدي)، إنه في حال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال، بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن أوسلو ملتزمة بإلقاء القبض عليه إذا زارها.(3) وهو ما أثار غضب الكيان الصهيوني واعتبرت أنّ النرويج وايرلندا واسبانيا هي من أكثر الدول الأوروبية عداء له، وكانت بريطانيا كعادتها في موقفها المساند المطلق للكيان الصهيوني، قد أعربت عن انتقادها لقرار المدّعي العام للمحكمة، بشأن مذكرتي الإعتقال المحتمل توجيهها إلى المتّهين في حال وجود قناعة لذلك.
ومع ذلك، يبدو أنّ تحوّلا كبيرا قد حصل لفائدة القضية الفلسطينية، بعد طوفان الأقصى، حيث أعلنت دول أوروبية عن اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية، في حال قيامها، وهذه الدول هي: سويسرا، النمسا، فرنسا، اسبانيا، الدنمارك، النرويج، مالطا، لوكسمبورغ، البرتغال وقربص.(4) هذا الموقف يندرج في اطار حلّ الدولتين، الذي لن يتحقّق منه عدل، يعطي الفلسطينيين كامل حقهم على أرضهم المغتصبة، لكنّه يُعتبر تحوّلا في عموم الموقف الأوروبي، الذي كان فيما مضى متواطئا لصالح الكيان الصهيوني، واليوم ظهر انزعاج الأوروبيين من فوات فرصة حل الدولتين، ليبقى الحلّ الوحيد قاصرا على المقاومة والتحرير، وهذا ما لا يريده الجانب الأوروبي والكيان الصهيوني، حيث يشكل مشروع المقاومة هاجسا يؤرّق راحته وراحة حلفائه، ويهدد وجوده كمحتلّ، متصرّف بالإثم والعدوان على أرض فلسطين، بفعل فيها ما يحلو له من جرائم حرب.
فضلا عن هذه الدول بأطقمها الرسمية السياسية، فإنّ موجة وعي جماهيري تجتاح دولا عديدة في العالم، وتدفع بها إلى التحرك في شوارع عواصمها ومدنها الكبرى، مطالبة حكوماتها بوقف العدوان، ومنع تزويد الكيان الصهيوني بالأسلحة والذخائر الغربية، وهذا من التداعيات والنتائج الإيجابية التي تمخّضت عن طوفان الأقصى، صحيح أن النتائج المحققة من طرف المقاومة تبدو قليلة، بمقابل الاضرار والخسائر التي تسبب فيها العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، إلّا أنه في المقابل حققت المقاومة مكسبين، أوّلهما أنها وقفت في وجه العدوان، وسببت له خسائر في الأرواح والمعدات، والثاني تغيير عقلية الغربيين حكومات وشعوبا، بسبب ما جرى من افراط صهيوني في ارتكاب جرائم بحق الشعب الفلسطيني وبناه التحتية، فرُبّ ضارة نافعة.
المراجع
1 – علاقات إسرائيل وجنوب افريقيا
https://ar.wikipedia.org/wiki/
2 – ماذا يعني إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت؟
https://arabic.rt.com/world/1566762-
3 – أول دولة أوروبية تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو
https://www.alalam.ir/news/6870693
4 – 12 دولة أوروبية تدعم فلسطين
https://www.skynewsarabia.com/middle-east/57262-