ما تزال تداعيات طوفان الأقصى تظهر، في أشكال مختلفة من التعابير والمواقف، داخل الكيان الصهيوني، زادها تعميقا وتأثيرا الوعد الصادق، الذي أوفت به القيادة الإيرانية، في الرّدّ على قصف قنصليتها بدمشق، وفيما يتلاوم وزراء ومسؤولي الكيان الغاصب، على ما نُسِبوه إلى أنفسهم من أخطاء، ما دفع على سبيل المثال بالجنرال (أهارون هاليفا)، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية للجيش الصهيوني، إلى تقديم طلب استقالة من منصبه، في رسالة قال فيها بأنّه سيتحمّل الألم الرهيب إلى الأبد (1)، بسبب اخفاق شعبته – وهو المسؤول الأوّل فيها – في استباق هجوم السابع من أكتوبر من السنة الماضية، والذي أحدث زلزالا في قواعد استقرار الكيان، كان من الصعب زعزعتها، لولا هاذان الحدثان المهمّان في تاريخ القضية الفلسطينية.
هذه التداعيات الطارئة داخل هياكل وتجمعات ومؤسسات الكيان الغاصب، ماتزال في تفاعل متواصل، من القمّة إلى القاعدة، من أخطر أعراضه، ليس ما تعلّق بقياداته العليا أو الوسطى، فذلك أمر يمكن ترقيعه بأيّ شكل، خصوصا بتحالفات بين أجنحة الكيان، تمليها المصالح والحاجات، ولكنّ أخطرها على الاطلاق متعلّق بالأساس، في قاعدته من المستوطنين، الذين لم يقدِموا إلى فلسطين المحتلّة من أجل أن يموتوا، بل من أجل أن يعيشوا كما ما رُوّجت لهم في دعايات الصهيونية العالمية، من كونها أرض الميعاد.
ومن دولة فرضتها القوى الغربية بزعامة بريطانيا وأمريكا، قامت على أساس مشروع صهيوني استعماري، استهدف السيطرة تدريجا على مناطق شاسعة من البلدان العربية، لتتساقط عنها دعاياتها التي كانت من قبلُ من المُسلّمات، وتتعرّى بحيث كشفت عن قبح وسوء لا مثيل له، أفزع قواعد الكيان وقلب أمنها وطمأنينتها إلى كابوس مفزع، لا يمكن الصّبر على نتائجه الحالية ولا المستقبلية، لذلك فإنّ من أصبح يفكّر في مغادرة الكيان بمستوطناته، أكثر ممن بقي على عهد الوفاء له، محتمّلا كلّ النتائج، وهؤلاء أصبحوا في تناقص مستمر، فهم اليوم قلّة قليلة لا وزن لها أمام محور المقاومة.
حديثنا لا يتعلّق بهروب المستوطنين من بيوتهم ومستوطناتهم، فذلك أصبح من المظاهر اليومية بعد طوفان الأقصى، والفرار الجماعي الذي حصل من مستوطنات غلاف غزّة أعقبه هروب آخر أكبر من الجليل الأعلى خوفا من صواريخ حزب الله وتداعيات المواجهة في شمال فلسطين المحتلة بما يشكله من أعباء ثقيلة في إعادة توطينهم في فنادق وأماكن أخرى داخل فلسطين بعيدا عن مستوطناتهم المعرضة للقصف(2)، بل يتعلّق بمسألة حساسة تمثّلت في ظاهرة مغادرة الحالمين بدولة إسرائيل الكبرى، أرض فلسطين محبَطين يائسين، قد سقط حلمهم في الماء، ولم يعد له وجود على ارض الواقع، بعد الإنهيارات الأمنية التي عاشوها، منذ السابع من أكتوبر الماضي، وزادها اليوم الوعد الصادق تأكيدا على أنّ دوام حال استقرار هذا الكيان أصبح من المُحال، ذلك فضل الله الذي فضّل به عباده المتّقين، هذا مشروع الإمام الخميني في مقاومة الصهيونية والاستكبار العالمي، وقد بدأت ثماره تلوح دانية قطوف ثمراتها.
ما أقصده هنا في هذا المقال، ليس الغاء حجوزات السفر السياحية إلى فلسطين المحتلة، والتي طرأت بعد الطوفان وتزايدت بعد الوعد الصادق، بل في مغادرة مؤقتة أو نهائية، لمن اقتنعوا من الصهاينة أنه لم يعد بإمكانهم العيش، تحت سماء قد يقع عليهم منها صاروخ أو مسيّرة، فيؤدي بحياتهم، وينهي أحلامهم جملة واحدة، أو يقعون أسرى بعد أيّ هجوم محتمل لحزب الله من الشمال، هذه المغادرة القسرية المكرهة، تحاول الجهات الحكومية الصهيونية التغطية عليها بالحدّ من نشرها إعلاميا، والتكتّم عليها داخليا وخارجيا الا ما فات منه على مستوى اخبار محدود من طرف المغادرين الذي لا يمكنهم أن يخرجوا من فلسطين المحتلة من دون أن يخبروا أقاربهم وأصدقاءهم بما عزموا عليه ونفّذوه بعد ذلك.
من داخل الكيان ظهرت شعارات توحي بالمغادرة كصفحة في الفليسبوك مشترك فيها أكثر من خمسة آلاف شخص بعنوان ( نغادر البلاد معا)
قبل عامين، اشتكى (مردخاي كيدار)، الذي يمكن وصفه بأحد أهم منظري اليمين الإسرائيلي، بمرارة من ظاهرة إقبال الإسرائيليين على المغادرة. وقال: (هناك الآن مليون إسرائيلي يعيشون في الولايات المتحدة، وهذا أمر ينفطر له القلب). وقد لاقت الحملة تفاعلًا في أوساط الإسرائيليين، فعلى صفحة (نغادر البلاد معًا) كتب ألون نيسان: (ماذا لو عُمل بالخيار الأصلي، بلد آخر غير فلسطين. كم من حياة أُهدرت بسبب قرارات الآباء المؤسسين للصهيونية).
بدوره كتب يائير شاليف أنه يحاول منذ عام إقناع زوجته بألا مستقبل لأولادهما في إسرائيل بسبب النمو السكاني، ويقول إنه فهم الآن ألا مستقبل لهما أيضًا، ليضيف أنه الآن سينجح حتمًا في إقناعها. كما كتب (يانيف غورليك) عن استعداد البرتغال لاستقبال لاجئين إسرائيليين، وطلب من أعضاء المجموعة، تزويده بأسماء دول أخرى تقدم اللجوء أيضًا. أما على منصة (إكس) فكتب (محمود سالم الجندي)، أنه في وقت يصعب فيه إيجاد رحلات طيران للخروج من إسرائيل، يغادر حوالي ربع مليون يهودي بحرًا، وقلة جوًا في 30 يومًا، مضيفًا أنه لطالما تحدثنا قبل (طوفان الأقصى) عن الهجرة العكسية، واليوم نراها واقعًا أمامنا.(3)
وفيما انخفضت أعداد المستوطنين المهاجرين الجدد إلى فلسطين المحتلة بشكل غير مسبوق، قابلتها هجرة معاكسة من داخل فلسطين إلى دول أخرى منها المواطن الأصلية لهؤلاء المستوطنين اليهود، ومنها ما كان من اختيار الصهيوني المغادر نفسه بمحض ارادته، لعله بسبب فقده ما كان متميّزا به في بلده الأصلي في أمريكا أو أوروبا أو بلدان أخرى لم يعد له فيها مصلحة عودة، وهذه الهجرة المعاكسة هي ما يؤرّق راحة واستقرار حكومة الكيان الغاصب، ولا يجد لذلك حلّا خصوصا بعد القصف الإيراني الأخير، والذي لم يكن يتوقعه هؤلاء الصهاينة، وأنهى أحلامهم في الأمن التام داخل أسوار الفصل العنصري للكيان، حيث لم تعد تلك الجدران العالية حامية لمستوطناتهم، ولا القبّة الحديدية مانعة من تساقط المسيّرات والصواريخ على رؤوسهم وبيوتهم، وهذه كلّها مؤشرات عهد وفصل جديد من نهاية كيان، لم يشهد له العالم مثيلا في العنصرية والإجرام.
المراجع
1 – برسالة “الألم الأبدي”.. استقالة مسؤول إسرائيلي رفيع (msn.com)
2 – تمديد إخلاء مستوطنات الجليل حتى تموز المقبل!
تمديد إخلاء مستوطنات الجليل حتى تموز المقبل! (almodon.com)
3 –”نغادر البلاد معًا”.. هروب للإسرائيليين وحملة تعبئة على مواقع التواصل
“نغادر البلاد معًا”.. هروب للإسرائيليين وحملة تعبئة على مواقع التواصل | التلفزيون العربي (alaraby.com)