أكّد الإسلام كدين خاتم لما سبقه من الأديان على الوحدة بين المسلمين، باعتبارها تكتسي أهمية قصوى في حياتهم، فجعلها سببا مهمّا، مسهما في قوّة أتباعه، وعنصرا معبّرا على مدى التزامهم بدينهم، داعيا الى العمل من أجل تحقيقها، ومبينا عمليا على جدوى تفعيلها، وهي ظاهرة بادية للعيان، في اجتماع المسلمين في مساجدهم لصلاة الجماعة خمس مرات، وفي صلاة الجمعة الأسبوعية، وصلاة الآيات، والإستسقاء، في مدنهم وجهاتهم، وفي موسم الحج وعند أدائهم مناسكه كل سنة، ليكون حافزا فريدا من نوعه حاثا على ضرورة الوحدة بينهم، وليس هناك من حدث بإمكانه أن يجسّد أهمّية الوحدة وعظيم شأنه، في مظهره المُهيب سوى الحج.
ولما كان الإمام الخميني من أكبر دعاة الوحدة الإسلامية في هذا العصر، فقد التمس من اجتماعات المسلمين العبادية تلك، ليوجه من خلالها نداءاته المتكررة إلى المسلمين للوحدة، وتجسد ذلك من خلال المؤتمرات التي أقيمت في طهران، بعد قيام النظام الإسلامي، والتي عرفت بمؤتمرات أئمة الجمعة والجماعة، ومن خلال نداءاته التي حملها بعثته إلى الحج كل عام، وقد استجاب لنداءاته صالحو هذه الأمة، ممن لم تتلوث عقولهم بمؤثرات دعايات أعداء الإسلام، فلبّوها وجعلوها نُصب أعينهم، مؤمنين بأن الآذان الصاغية ستنفتح قلوبها لها يوما بعد يوم.
من كان على غير هدى أهل البيت عليهم السلام وولايتهم، يصعب عليه إدراك هذا الوصف بحقائقه، مع أنّه متاح في فهمه للجميع، فأيّام الله كثيرة ومُتميّزة عن بعضها البعض في القيمة المعنوية، منها ليلة القدر، ويوم الغدير (يوم الولاية)، ويوم البعثة، ودحو الأرض، ويتميّز يوم عرفة عن غيره من الأيام، بأنّه هو يوم التجرّد من الدنيا، والخلوص إلى الله تعالى، باللجوء إليه من جبل الرحمة هربا من فتنتها، وطلبا لغفرانه ورضوانه، ورمزية المكان في ارتفاعه دلالة على عروج معنوي، تلتقي فيه الأنفس برحمة الله النازلة على عباده، في صعيد عرفة وجبلها، ليبدأ ذلك الأمر الغيبي بعمله، في تغيير الحالة من عدم الوعي إلى الوعي، ومن التشرذم إلى الإئتلاف والوحدة.
فقد جاء عن النبي (ص) من طريق أئمة أهل بيته عليهم السلام: ( وإذا وقفت عشية عرفة فان الله يهبط برحمته إلى السماء الدنيا، حتى تظل على أهل مكة فيباهى بهم الملائكة (إلى أن قال تعالى): فلو كانت ذنوبهم بعدد الرمال أو كعدد القطر أو كزبد البحر لغفرتها لهم) (1) ولا شك أنّ ما تميّز به جبل الرحمة عرفة، أنه صعيد تجمّع الحجاج من كل الاجناس والألوان، يحدوهم حرص على التواجد في ذلك المكان، في وقت محدد من اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم انطلاق موسم الحج من كل سنة، طلبا لرحمة الله ومغفرته سبحانه.
عندما قال الإمام الخميني: ( إنّ مناسك الحج هي مناسك الحياة، وعلى الأُمّة الإسلاميّة بمختلف قومياتها أن تصبح إبراهيمية، لتلتحق بركب أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله، وتكون واحدة ويداً واحدة). وحقيق بأن يلقب الحج بأنه إبراهيمي، على اعتبار أن مثل حركة أبينا إبراهيم في سعيه إلى الله وتمام توكله عليه، وفي رمزية مناسك الحج، التي جعلت من حركة إبراهيم وهاجر وإسماعيل مجموعة شعائر الحج، يجب أن يستلهم منها الحاج قيمها الايمانية والمعنوية في مواجهة قوى الشرك والشيطنة في العالم.
والحج في نظر الإمام الخميني: ( يمثل مركز المعارف الإلهية، الذي ينبغي أن يؤخذ منه محتوى السياسة الإسلاميّة، في جميع الأبعاد الحياتية) في دلالة منه على أن الحج الذي لا يعطي اعتبارا للجانب السياسي في حياة الأمة، لا تنطبق عليه صفة الحج الإبراهيمي، وحركة أصحابه عند أداء مناسكهم قاصرة عن إدراك معناها والقصد منها، وأي عمل عبادي يؤدّى في الإسلام من دون معرفة بكنهه ومقصده، ليس سوى عمل شكلي، لا يتجاوز ظاهر حركات أصحابه، وحقيق بنا تسميته بالحج الأمريكي وهو ما سعت الى تركيزه أمريكا من خلال تكليف عملائها بإفراغه من مقاصده وجعل ميدانه مجرد أسواق تسوق بضاعاتها وحلفاؤها.
لقد شهد العالم بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وعيا متزايدا من طرف طلائع الشعوب الإسلامية، مردّه نشر الثقافة الإسلامية، وبيان مقاصد أحكام وآداب الإسلام، فحصل بذلك تغيير كبير في تعاطي المسلمين مع دينهم بشكل أفضل مما كانوا عليه في السابق، وقد راهنت أمريكا وحلفاؤها على استهلاك الثورة الإسلامية شعاراتها وانتهاء اشعاعها، بقوة مؤامراتهم ضدها، لكنها فشلت ولم تفلح في كبح جماح هذا الوعي المتزايد لدى المسلمين بضرورة توحّدهم وإيلاء دينهم الأهمّية التي يرضاها خالقهم.
كان في اعتقاد أمريكا أن جذوة البناء الثوري ستنطفئ برحيل الإمام الخميني وقد خاب أملهم في ذلك ومنيت مشاريعهم الفتنوية بالفشل مرة بعد أخرى، ولم يفلح استهدافهم لتظاهرة البراءة من المشركين في مكة سنة 1987 بقمعها بشدة مفرطة، في انهاء مسيرتها وبلوغ هدفها التبليغي، فتواصلت كل سنة مُحْيِيَة حقيقة شعيرة الحج والهدف منها في البراءة من المشركين.
في ندائه التاريخي الى حجاج بيت الله الحرام لهذه السنة ركّز الامام الخامنئي على نقطتين أساسيتين، هما الوحدة والروحانية، أمّا الوحدة فهي هدف قرآني يجب تحقيقه رغم الاختلافات الفقهية بين فرقنا الإسلامية، ولا يمكن أن تكون حاجزا يحول دون ذلك، وأمّا الروحانية ففيها تحصين لأفراد الأمّة من مؤثرات ثقافة الغرب الغزية لمجتمعاتنا وهدفها ضرب روحانيتهم في عمق التزاماتها الأخلاقية، لقد جاء في ندائه المبارك:
(أيّها الإخوة والأخوات الحجّاج، اغتنموا فرصة الحجّ للتدبّر والتعمّق في أسرار هذه الفريضة الاستثنائيّة ودلالاتها واجعلوها زاداً لعمركم بأكمله. إنّ الوحدة والروحانيّة في هذه المرحلة من الزمان تتعرّضان لعداء الاستكبار والصهيونيّة وعرقلتهما أكثر من السابق. فأمريكا وسائر أقطاب الهيمنة الاستكباريّة يعارضون بشدّة وحدة المسلمين وتفاهم الشعوب والدول والحكومات المسلمة، وتديّن الجيل الشاب لهذه الشعوب والتزامه بالشريعة، وهم يواجهونها بأيّ وسيلة ممكنة.) (2)
هذا ما يجب على كل مسلم أخذه بعين الاعتبار، وليس هناك مجال للموازنة بين دعوة قرآنية الى الحج الإبراهيمي، بكل مقاصدها الإصلاحية لحياة المسلمين، وبين الحج الخالي من غاياته المقصودة في الإرتقاء بها، من حضيض الجهالة بحقيقة المناسك وأهدافها، إلى بصائر المعرفة بأسرارها وتوظيفها في الحياة الإسلامية للإستفادة منها.
المصادر
1 – جامع أحاديث الشيعة السيد البروجردي ج 11 ص 470
2 – https://arabic.khamenei.ir/news/7293