يُكتب (بضم الياء) التاريخ في جانب منه من الذاكرة وكلما نشطت الذاكرة وأبدت القدرة على التذكر، كانت الكتابة التاريخية أفضل،وأضفى ذلك صدقية ًوجدية على التاريخ نفسه وعندما نتحدث عن التاريخ، فإننا نتحدث بالضرورة عن الذاكرة؛ أي عن رواية الحوادث وسردها وعرض المواقف التي مازالت معلقة بالذاكرة ، ومن هنا تأتي خصوصية تاريخ الثورة الجزائرية التي أعادت وبعثت الدولة الجزائرية الحديثة على الساحة الدولية وتقع في صلب التاريخ الراهن،في ظل تاريخ مستعمر رتب أوضاعا يصعب تخطيها بسهولة أو التغاضي عنها ،فلقد صنع الشعب الجزائري نموذجا ملهما في القرن العشرين عبر الثورة التحريرية المجيدة في الفاتح من نوفمبر من سنة 1954م، تلك الملحمة التاريخية التي غيرت مجرى العالم الإنساني بإسقاط فرنسا أكبر قوة إمبريالية في القرن العشرين وإعادتها لحجمها الجغرافي المحدود رغم بقاء نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، ثورة عظيمة بقدر عظمة شعب أظهر للعالم أجمع ما يمكن أن يقوم به شعب لاستعادة الوطن المسلوب من المستدمر، شعب رسم دربا للعظمة بدماء الشهداء وعبده بأشلاء المليون ونصف المليون شهيد، شعب كتب تاريخا جديدا بتضحياته الجسيمة وروحه القويمة وأهدافه العظيمة فكان بحق القدوة للشعوب المضطهدة القابعة تحت وطأة المستدمر لاسيما عندما شق الشعب الجزائري طريقه نحو الاستقلال بأدواته البسيطة ولكن بروحه الوطنية ووعيه الثوري المتقد جاعلا أعظم قوة إمبريالية في القرن العشرين تخضع وتستجيب لمطالب الشعب، كل هذا وذاك يستوجب حفظ الذاكرة من النسيان من خلال رصد وحفظ انجازاتها التاريخية زمن الحرب وزمن السلم،ونحن نحضر للاحتفاء بالذكرى السبعين لعيد الثورة المجيدة جاءت مبادرة من السيد وزير المجاهدين وذوي الحقوق العيد ربيقة الجزائرية.بتنظيم ملتقى وطني هام شارك فيه أكثر من 125 أستاذ وباحث وأزيد من 20 مخبرا علميا وهو الملتقى الوطني الأول التاريخي الموسوم ب”الذاكرة و إشكالية كتابة التاريخ الوطني”، المنظم من طرف وزارة المجاهدين وذوي الحقوق بالتعاون مع مخابر وزارة التعليم العالي و البحث العلمي تحت شعار “للأمجاد أعلام و للتاريخ أقلام”، أشرف على افتتاحه وزير المجاهدين و ذوي الحقوق يومي 6و7 مارس 2024، بالنادي الوطني للجيش ببني مسوس بالجزائر العاصمة ، افتتحت الجلسة العلمية من طرف رئيس الجلسة الدكتور عبد الستار حسين مدير المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، بعنوان التاريخ الوطني في الجامعة الجزائرية مسيرة وأجيال، فيما قدم الدكتور و المجاهد محمد العربي الزبيري تجربته في كتابة التاريخ الوطني وجهود بناء مدرسة تاريخية وطنية، في حين قدم الأستاذ الدكتور ناصر الدين سعيدوني مداخلته حول اشكالات ومقاربات في الكتابات التاريخية،.
للإشارة عرف الملتقى تقديم العديد من الورشات من طرف أساتذة أكفاء حيث عرفت أولى مواضيع الورشات التأصيل المفاهيمي لمفهومي التاريخ والذاكرة، أما الورشة الثانية فكانت بعنوان واقع الدراسات التاريخية في الجزائر ، أما عن الورشة الثالثة فحملت في طياتها بحث مقترح جهود بناء مدرسة تاريخية وطنية، و الورشة الرابعة حول تدريس التاريخ الوطني في المنظومة التربوية، إضافة إلى الورشة الخامسة حول التاريخ والذاكرة في استراتيجية الدولة المستقبلية.
وفي كلمة ختامية لأشغال الملتقى، أكد وزير المجاهدين و ذوي الحقوق، العيد ربيقة أن الدولة الجزائرية ممثلة في شخص رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون “ستكون حاضرة لمرافقة المؤرخين في تصفيف ابحاثهم و تثمين جهودهم بما يخدم الصالح العام ويعزز الوحدة الوطنية “.
وأضاف “أن الحفاظ على الذاكرة الوطنية وكتابة التاريخ الوطني ” لا يتحقق بالرغبات والتمني ولكنه يخضع للعلمية والمصداقية وكثير من الأخلاقيات، من خلال فتح ورشات وقنوات اتصال دائمة وجسور تواصل بين كل الباحثين والمشتغلين في الحقل التاريخي”.
مضيفا في ذات السياق ” ان الجهود التي تبذل في نشر قيمنا الحضارية والتاريخية من خلال ما يُنتج من أفلام وثائقية وسينمائية وطبع ونشر الأعمال العلمية – وفق ما جاء في كلمة السيد الوزير- ليعزز مكانة التاريخ الوطني ويحقق المناعة الضرورية لأجيالنا حاضرا ومستقبلا”.
و بعد أن ثمن السيد وزير المجاهدين وذوي الحقوق مخرجات الملتقى، أكد أن ” قطاع المجاهدين يضع كل هيئاته ومؤسساته العلمية تحت تصرف الباحثين والمشتغلين بالمجال التاريخي والذاكرة، ويمدهم بكل ما يسمح لهم بالقيام بواجبهم الوطني في كتابة تاريخنا وسرد سير أبطالنا والحفاظ على ذاكرتنا الجماعية”.
هي مساهمة اذا من هذا القطاع الاستراتيجي – من ناحية حفظ الذاكرة الوطنية- في خلق ديناميكية وحركية جديدتين بالمجتمع الجزائري وقيادة الاشعاع التاريخي لكتابة تاريخنا الوطني وتذليل العقبات من أجل ذلك ، والتي يعتبرها المتابعون صحوة تاريخية عرفتها الساحة الوطنية منذ مايقارب ثلاثة سنوات تنفيذا لبرنامج رئيس الجمهورية ووعوده ال54 في جانب ملف الذاكرة الوطنية والتي أكدها مرة أخرى في لقائه الدوري مع وسائل الاعلام مؤخرا يوم 30 مارس 2024 وعلى لسان السيد وزير المجاهدين وذوي الحقوق بأن الجزائر لن تتخلى عن ملفات الذاكرة .
ان الاحتفال بالذكرى السبعين لعيد الثورة المجيدة 01 نوفمبر 1954– 01 نوفمبر 2024 يكتسي أهمية بالغة لصون ذاكرة الامة الجزائرية والحفاظ على أمانة الشهداء وهمزة وصل وتواصل بين منجزات معركة التحرير وبين انجازات الجزائر المستقلة في ظل الجزائر الجديدة اليوم الوفية لعهد الشهداء ورسالة ثورة نوفمبر المجيدة .
بقلم: ياسين شعبان
كاتب من الجزائر ومدير متحف المجاهد لولاية قالمة