مولاي علي .. من أوضح منك رَجُلا بعد النبي صلى الله عليه وآله؟ شمسٌ بددت ظلمة الجاهلية، وقمرٌ أحاط بكل فضيلة منها.. عجِبتُ فكيف يُقاس القمرُ بذرّات الكون؟ ربّاك من خصّه الله بالرعاية والعناية والحبّ، فجاءت تربيته لك كما أشرتَ إليها في إحدى روائع خطبك: ( وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده ويشمني عرفه (1) وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل (2)، ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيما، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه (3)، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء (4)، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام، غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.)(5)
كنتَ ملازما أخاك المصطفى صلى الله عليه وآله، لم تفارقه طيلة حياته الشريفة سوى في مناسبتين: عند هجرته المباركة، حيث كان لزاما عليه ولا مفرّ له من أن يستبقيك، للتعمية على المشركين المحيطين ببيته، فبتّ على فراشه فدائيا، بعد اطمئنانك بأنه سينجو من براثنهم، ولولا ذلك لكنت أنت رفيقه في تلك الهجرة، تذود عنه كما فعلت في هجرة الفواطم، وتحدّيت فيها جبروت واستكبار قريش.
وعند خروج أخيك إلى غزوة تبوك، كان مضطرا لاستخلافك على المدينة، لتذود عنها المنافقين، عندما قرروا قرار الإنقلاب عليها (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)(6) فانقمع فريق منهم بوجودك، وذهب فريق آخر بعد يأسه، إلى محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله عند رجوعه من تبوك، لكن الله كشف مؤامرتهم وأحبط محاولتهم (7)
جَبِنُوا أمامك في صِفّين، ونكصوا رؤوسهم حتى لا تناديهم بأسمائهم وتفضح رعبهم، رغم تقدّم سنك، كانت تكبيراتك تُلعْلِعُ في ساحتها، معلنة أن الرجل الذي لقّبته أمه حيدرة كرار غير فرار، يحبّه الله ورسوله مثلما أحبّهما، بذل مهجته في سبيلهما فداء وصناعة انتصارات عظيمة، ما كانت لتكون لولاه، أنت من صنع انتصاراتها بعدما خاض لهواتها، وما بدر وأحد وحنين والخندق وذات السلاسل وخيبر إلّا لك قد توشِحت باسمك ولولاك لافتضح الاصحاب في أكثر من ضائقة فرّجتها عنهم، وكفى بك الله القتال.
صانع مجد الإسلام وباني عزّه، مع أخيه رسول الله صلى الله عليه وآله، لم يجد تاريخ الإسلام بمثله شخصا وصنائع، تآمر عليه المسلمون الأوائل، فحالوا دونه وحقوقه التي منحها الله ورسوله صلى الله عليه وآله إياه عن جدارة واستحقاق، فأخّروه عن مقامه إلى من لم قدموا شيئا تقريبا للإسلام والمسلمين، وبقيت مظلوميته قائمة إلى أن استلم السلطة بعدما وصلت الأمور بالمسلمين إلى طريق مسدود من الإصلاح.
وما إن استلم مقاليد الحكم، حتى وقف في وجهه عبيد الدنيا، وكل من في قلبه ضغينة عليه، رغم أن اظهار تلك الضغائن علامة نفاق واضحة، أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله بقوله أن عليّا: (لا يحبه إلّا مؤمن ولا يبغضه الا منافق) فتصدّوا له، بالتحريض ضدّه وإعلان الحرب عليه، فقضى سنوات حكمه في إخماد الفتنة التي قامت ضدّه، ولم يتركوا له مجالا ولو صغيرا، لإصلاح ما أفسده الأمويون، الذين استغلوا عثمان خليفتهم أبشع استغلال.
عليّ عليه السلام كان ولا يزال، مثال باق من رسول الله صلى الله عليه وآله، في حكمته وعدله وسيرته العطرة، التي شكلت في مجموعها تفانيا منقطع النظير من أجل الإسلام، عميت عين لا ترى ذلك التميّز والسؤدد.
مولاي علي طوال سيرتك المليئة مواقف وانجازات وانتصارات لم تقل فيها فُزتُ وربِّ الكعبة، كان من حقك أن تفخر بانتصاراتك وتعلن فوزك فيها دون أن ينالك كبر أو تعال على من معك من المؤمنين، بل طوّعت نفسك لخدمة الإسلام ومساعدة المستضعفين، وآبار علي لا تزال تشهد على أنك أنجزتها بيديك الشريفتين، لتكون مَعينا للسابلة في موضع يندر فيها الماء.
لم تقل فزت وربّ الكعبة، إلا عندما أيقنت أنك لاحق بأخيك النبي صلى الله عليه وآله، بعد الضربة الغادرة التي تلقيتها على هامتك الشريفة من أشقى الآخرين، بحثت طويلا عن الشهادة في ساحات القتال فلم تجدها، رغم أنك كنت تلقي بنفسك وسط الأعداء تدور بينهم، كأنّك رحى تطحن صناديدهم وتبيد فرسانهم وشجعانهم، لقد كانت شهادة فريدة، روى دمك الطاهر محراب جامع الكوفة، في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان سنة 40 هجرية، عند اقتراب الفجر، وأنت تصلّي لربك صلاة مودّع، كعادتك عندما تقف لربك متوجّها، قد خلوت به تماما، لم يشغلك عنه شاغل، نابذا دنياك بعيدا، تاركا ما يحول بينك وبين مناجاته، صلاة أوّل عارف بعد النبي صلى الله عليه وآله.
لم تكن الدنيا تساوي عنك شيئا، تأسّيا بأخيك رسول الله صلى الله عليه وآله، فكيف تصبح لها قيمة، بعد رحيل حبيبين إلى قلبك أخوك النبي محمد صلى الله عليه وآله، وابنته زوجك سيّدة نساء العالمين فاطمة، كنت دائم القول عندما تعرُض لك زينتها (يا دنيا إليك عنى، أبى تعرضتِ؟ أم إلىّ تشوقتِ، لا حان حنينك، هيهات هيهات، غرى غيرى لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيهم، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد) (8)
ستبقى في عليائك عليّا، فلك خير يدور في سماء القدرة، رغم محاولات المنافقين المحمومة حجب نورك، وصرف مكانتك لمن لا يستحقها، فُزت وفاز معك كل من اتبع نهجك وآمن بولايتك، فسلام عليك يوم ولدت في أطهر مكان جوف الكعبة، ويوم استشهدت في أطهر مكان محراب مسجد الكوفة، ويوم تُبعثُ قائد رجال الأعراف ابناؤك وأحفادك، تعرفون كلّا بسيماهم، فيا من توشِّحتَ بالدّم في محراب مسجد الكوفة، عليك مني سلام موال صادق، عبّر عن موالاته بهذه الكلمات، وأقول أخيرا: لقد خسر والله من لم يوال عليّا.
المراجع
1 – عَرْفهُ – بالفتح-: رائحته الذكية
2 – خطلة: خطأٌ ينشئ عن عدم الرّويّة
3 – الفصيل: ولد النّاقة
4 – حِرَاء: جبل قريب من مكة
5 – نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب شرح علي محمد علي دخيل ج2ص 373 الخطبة 190 المسماة القاصعة
6 – سورة المنافقون الآية 8
7 – دلائل النبوة البيهقي ج5 ص256/257 / السيرة النبوية ابن كثير ج 4ص34/35
8 – غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب للسرافيني ج2ص555 مطلب في وصف ضرار بن ضمرة الإمام علي