في قرار يبدو متعجّلا، لكنه زاد من إعتقاد الرأي العام، بأن دواليب حركة النهضة تتآكل من داخلها، تآكلا لا يبشّر بخير بمستقبلها، طالما أنها محكومة بشخص واحد، اجتمعت الدكتاتورية فيه اجتماعا، لا يمكن تليين بها نظرته للواقع ومستجداته فيه بسهولة، كأنه مصرّ على العمل بمقوله فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)(1)
لقد كان الكثيرون من مختلف فئات الشعب التونسي يتوسّمون خيرا في حركة النهضة قيادات وتاريخا نضاليا، فبادروا منذ بداية التغيير بالبلاد، إلى إعطائها الأولوية في الانتخابات الأولى لمجلس تأسيسي، توكل إليه مهمة صياغة دستورجديد، ضامن للحريات ومصالح الشعب والبلاد، وبمرور السنوات، بدأ ما كان خافيا من اختلالات قيادات الحركة – وفي مقدمتهم الشيخ راشد – يظهر من خلال تصريحاتهم ومعاملاتهم التي انحصرت في مصالحهم الحزبية والشخصية وحدها.
نظافة اليد والضمير التي كان يعتقدها الشعب في أدبيات الحركة سقطت من خلال مواقف متناقضة صدرت دون مبرر يلجأ أصحابها إلى ذلك، وعندما تكون تلك المواقف والتصريحات صادرة عن رئيس الحركة، فذلك مما يعزز مقولة تآكلها وسقوط مبدئيتها، خصوصا عندما يصرّح ابتدائيّ السياسة بعضمة لسانه أنه لن يتعامل مع الفاسدين والمشبوهين، ثم يتناقض بشكل عجيب، فيعود ليعبّر عن رغبته في التعامل مع المافيوزي القروي مثلا، كأنما فقد الرّجل ميزان عقله.
تلك المواقف والتصرفات والقرارات الصادرة من (الشيخ) راشد وجدت معارضة من عدد من قيادات حركة النهضة، تروحت بين التحذير من استمرارها، وبين الإستقالات التي بدأ عددها يرتفع شيئا فشيئا، أمام إصرار وتعنت رئيسها في مواقفه، فمجلس شورى الحركة انسلخ منه ما يناهز المائة شخص، وسكريتارية الرئاسة استقال منها من استقال، واليوم الثلاثاء لم نتفاجأ بقرار رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي إعفاء جميع أعضاء المكتب التنفيذي وإعادة تشكيله من جديد، هكذا تكون الديمقراطية في عقل من أسس حركة ومازال مصرّا على البقاء فيها قائدا وزعيما إلى آخر يوم في حياته، رغم جملة الأخطاء التي ارتكبها، بحق الجميع.
وجاء في بيان الحركة أنه: “تفاعلا مع ما استقر من توجه عام لإعادة هيكلة المكتب التنفيذي، فقد قرر رئيس الحركة إعفاء كل أعضاء المكتب التنفيذي وإعادة تشكيله بما يستجيب لمقتضيات المرحلة ويحقق النجاعة المطلوبة”.
وأضاف البيان أن “رئيس الحركة يتقدم بجزيل الشكر لكل أعضاء المكتب على ما بذلوه من جهد فيما كلفوا به ويدعوهم لمواصلة مهامهم إلى حين تشكيل المكتب الجديد”.
كما أكد الغنوشي على “مواصلة تكليف لجنة إدارة الأزمة السياسية برئاسة الأخ محمد القوماني من أجل المساهمة في إخراج البلاد من الوضع الاستثنائي الذي تعيشه”.(2)
وأتساءل بأي عقل يفكر رئيس حركة النهضة، عندما يتخلى عن إبنائه -ولم يعيقوه يوما على ما أظن- مستنجدا بعديد الآسماء لتكون قريبة منه في صلب الحركة، كمحمد الغرياني أمين عام التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ(3)، وما مدعاته الى تعيين من شغل منصبا حزبيا لنظام بائد بقي بدون محاسبة على جرائمه بحق التونسيين، وأتعجّب من العقل الثوري الذي يدّعيه الشيخ إلى أي مدى من الانحدار وصل به الأمر.
وفي نفس الإطار أستغرب من اطمئنان الشيخ راشد، إلى هذا المتقلّب مع الرياح، يميل حيثما مالت، وتاريخه كاف بالنظر إليه ليطّلع على رغبة جامحة فيه، لكسب مقعد نفوذ يعطيه فائدة تعود عليه بنفع ما، ومحمد القوماني نشط كما هو مذكور على ويكيبيديا، في تيار الإسلاميين التقدميين، وهو تيار فكريّ نخبويّ، انسلخ من حركة الإتجاه الاسلامي، بزعامة الدكتور احميدة النيفر، بسبب تصلب الشيخ راشد، وانفراده بقرارات الحركة، انضم إلى الحزب الديمقراطي التقدمي، ثم استقال منه سنة 2009، على خلفية ترشح أحمد نجيب الشابي رئيس الحزب لرئاسة البلاد، أسس حزب الإصلاح والتنمية سنة 2011، رشِح نفسه لانتخابات المجلس التأسيسي عن دائرة بن عروس، فحصل على نسبة 0.66% من الأصوات، اندمج حزبه مع التيّار الإصلاحي للحزب الديمقراطي التقدّمي، في إطار تحالف ديمقراطي، ليكون ناطقا باسمه، في 2013 قبل القوماني مبدأ الدخول في الحكومة كوزير للتربية، خلافا لمقررات المجلس الوطني للتحالف، فوقع فصله من الحزب، فلم يحصل على أي منصب حكومي آنذاك، بعدما فضَلت عليه حركة النهضة في نهاية المطاف سالم الأبيض كوزير للتربية، بعد خروجه من التحالف أعاد القوماني تفعيل حزب الاصلاح والتنمية.(4)
فكيف سيستقر بالحركة أشخاص مسودّة صفحات تاريخ بعضهم، ومتقلّبة أمزجة وهوى وطموحات البعض الآخر، في صلب حركة تدّعي انفتاحها وتنوّعها الفكري، وعقدتها الداخلية محاربة الأفكار والمعتقدات؟
وبين موقف الشيخ راشد بأن الذي وقع يوم 25 جويلية يمثل إنقلابا على الدستور، وبين ما صرح به أخيرا، بأنه فرصة للإصلاح،(5) يبدو الشيخ الماسك بقوة بزمام حركة يراها ملكه الخاص بتصرفاته متناقضا إلى أبعد حدّ، فهل هذا مؤشّر ينحو بنا إلى القول بعدم أهليّة الشيخ في ميدان السياسة والحكم؟ أم أنه أسلوب عمرو بن العاص في طلب ولاية على مصر؟
إنّ أمام الشيخ راشد فرصة تاريخية، قد يضيق بها المجال، ان تأخر التعامل معها، لمراجعة مواقفه وتصحيح أخطائه- وهو بالطبع ليس معصوما حتى يصرّ على صوابها – تتمثل في الاستقالة من مجلس نواب الشعب الذي يطالب الشعب اليوم بحلّه، وإعلان انسحابه من رئاسة الحركة، ليترك المجال لغيره في إدارتها والسهر على حظوظها، إن بقيت لها حظوظ، في ظل الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها خلال العشرية الأخيرة، لعلّ أهمّها وأخطرها، علاقة الحركة المباشرة أو غير المباشرة بتسفير شبابنا، لبؤر التوتّر في سوريا والعراق، اثبات ذلك مرتبط بإعادة العلاقات مع الشقيقة سوريا، وملفات التحقيق مع أسرى الإرهابيين من شباب بلادنا، مكدّسة لدى الجهات المختصة هناك، فمتى تظهر حقيقة هذا الملفّ الخطير، وينتصف أهالي المغرر بهم ممن أرسلهم إلى هناك ،بعنوان الجهاد والشهادة وحور العين؟
المراجع
1 – سورة غافرالآية29
2 – الغنوشي يعفي جميع أعضاء المكتب التنفيذي لحركة النهضة
https://arabic-rt-com.cdn.ampproject.org/v/s/arabic.rt.com/middle_east/1265549
3 – محمد الغرياني https://ar.wikipedia.org/wiki
4 – محمد القوماني https://ar.wikipedia.org/wiki
5 – استقالات تهز مجلس الشورى بسبب سياسات الغنوشي
https://roayahnews.com/news/2021/08/05/856031/