قد يصدر كلام غير مسؤول من شخصية وطنية،غير مؤثرة في البلاد، لا تترتب عليه تبعات خطيرة، لها تأثيرها وتداعياتها الداخلية، فيمر على الآذان خفيفا بلا ثقل عليها، ولطالما عانى شعبنا في العهدين السابقين، من دعايات أملتها دوائر غربية، كان لها تأثير على سياساتنا الخارجية والداخلية أيضا، وتستهدف مساندة توجّهات فرنسا ومن وراءها من دول الغرب المستعمر.
وعلى أثر تلك التصريحات الغير مسؤولة، بنيت مواقف متماثلة مع تلك القوى، واستحضر هنا الإدّعاء بالتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية التونسية، في بداية الثمانينات من القرن الماضي، والذي إتّخذ بورقيبة على أثره قرارا بقطع العلاقات التونسية الإيرانية، وكان قرارا بعيدا كل البعد عن العقلانية وحذاقة الدبلوماسية، وظلما مرتكبا بحق الشعبين التونسي والإيراني.
وما كدنا نتنفس من عهدين بائىسين، لطالما تذيّلا للدول الغربية بزعامة أمريكا، ووضعا نظاميهما في خدمة سياستها الإستكبارية، التي لا تريد لنا أن نكون أحرار في بلادنا، وفي اتخاذ ما يناسبنا من مواقف وقرارات، حتى خرج علينا ساسة ما بعد الثورة، بقرار قطع العلاقات مع الدولة السورية، وطرد السفير السوري من تونس، بل وذهبوا في غفلة من الشعب، إلى وتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا، كاشفين منذ البداية عن وجه المؤامرة القبيح عليها وانخراطهم فيها، وأغلب المطلعين على ما دُبِّر هناك، أصبحوا على يقين أن ما صدر في تلك الفترة الزمنية، كان بتحريض من دول الغرب مدبّرة المؤامرة.
أما أن يفاجئنا الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل (نور الدين الطبوبي) يوم الإربعاء 10 مارس 2021 بقوله: (أن المخابرات الأجنبية ترتع في تونس، معتبرًا أن الصراع اليوم ليس إيديولوجيًا فحسب، بل هو أيضًا صراع مذهبي سني شيعي مسكوت عنه). وأضاف الطبوبي، خلال ندوة إطارات الصحة بجهة تونس، (أن الأزمة السياسية اليوم هي أزمة مناكفات وحساسية مفرطة وصراع محموم بين مؤسسات الدولة، مشددًا على أن الدولة لها ضوابطها ونواميسها التي لا يمكن تجاوزها.) وتابع الطبوبي القول: (من المؤسف أن تونس التي كانت مثالًا يحتذى بها أصبحت اليوم محلّ سخرية، مشددًا على (ضرورة أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم من أجل إنقاذ البلاد في أقرب وقت ممكن).(1)
لا أعتقد أن الامين العام للإتحاد العام التونسي للشغل كان مدركا لما قاله، خلال ندوة إطارات الصحة بالعاصمة، خصوصا إذا ما كان ممن يعاقر مذهبات العقول، أو أنه في أحسن حالاته خُيِّل له أنه يعيش في حلبة صراع مذهبية سنية شيعية، لا أساس لها واقعا، وهي إيحاء من إيحاءات بنات عقله، وليته أفصح عما يقصده من كلامه ليقف الشعب على مراده، فليس أقسى على هذا الشعب من كلام مُبْهَمٍ يتناهى الى أسماع أفراده، ولم يرى له أثرا يدلّ عليه، فيثبته على أرض الواقع، أما دعواه هذه غير قائمة على دليل، فكلام تحريضي سخيف، بحق أقلية مسلمة مسالمة، لم يبث عليها إلى اليوم ما يدعو إلى إدانتها أو تخوينها.
وإن كان بكلامه قاصدا الصراع الفتنوي السني الشيعي، الذي تعمل على تأجيجه منذ سنوات أمريكا، ومعها القوى الغربية والصهيونية العالمية، فإنه ليس بذلك العنوان المشحون طائفيا، وإنما هو من جهة بين قوى ثورية تعمل على استعادة عز الامة وحقوقها المسلوبة، بقطع النظر عن مكونهم الطائفي، ومن جهة أخرى بين جماعات،فقدت بوصلة توجّهها الديني الوسطي، لتسقط في فخ الإرهاب الذي نصبه لها أعداء الإسلام، وهنا يجب استبعاد المسميات الطائفية التفريقية، التي يعمل على تكريسها المتربّصون بالدّين الخاتم.
كلام الإنشاء والتعابير الخيالية، كنا نعتقد أن زمانها قد ولّى، ولم يعد لها مجال لتؤثر على ذوي العقول والألباب، وليت الطبّوبي بسط حديثه بما توفر له من معلومة، حتى يتبين لهذا الشعب الخيط الأبيض من الأسود من الحقيقة، فإنْ فَقَدَ ذلك، فعليه أن يستحي من وضع نفسه فتّانا،ألقى شبكة إفكه لمن يثق فيه، الله أعلم من دعاه إلى ذلك، في وقت الشعب بأسره بحاجة إلى كافة أبنائه،دون تفريق بينهم باختلاف أفكارهم وخياراتهم المذهبية،واصطفاف (نور الدين الطبوبي)طوعا، إلى جانب دعوى القرضاوي في التحريض الطائفي، والبكاء على أطلال انكشاف الحقائق التاريخية، لن يجني منها غير السفاهة والخسران.
ما أثار عجبي في كلمة الطبوبي قوله: إنّ تونس كانت مثالا يحتذى،وأصبحت اليوم محل سخرية، فليته وضح لنا ما قصده من كلامه مثالا في أي مجال؟ ذلك أننا لم نرى خلال نصف قرن من التعثر والتخلّف، في ظلّ نظامين عميلين تابعين لفرنسا خاضعين لإملاءاتها، فيصح معنى كلامه أن النظامين السابقين، كانا فعلا مثالين في العمالة والتبعية للقوى الاستعمارية، والعيش تخت حمايتها ومساعداتها، والشعب من ذلك براء ومغلوب على أمره، ولا نريده أن يواصل في هذا الإتّجاه المعيب.
الكلام عن المخابرات الأجنبية ونشاطها في تونس ليس جديدا، فقبل 2011 لم يكن بوسعه الحديث عن ذلك، ولا الإجتراء على مجال من مشمولات النظام وجهاته المختصّة، والحديث عنه يفتح عليه بابا من التحقيق ليس بإمكانه غلقه، أما اليوم فالكلام متاح له ولغيره، يضمِّنه بما شاء من إدّعاء، يبقى مجال التحقيق فيه ليس من مشمولاته، وإن كانت لديه معلومة، فليقدمها الى المعنيين بها، ولا يتباهى بما ليس له به علم، وإنما هي أقوال سارية منذ فترة ما بعد 2011 ، وتداولتها الالسن مرارا، واستهلكتها بما لم يعد مجديا تكرارها، وليت الطبوبي وعى وضع البلاد وتدهور اقتصادها، فاقترح على النقابات العاملة تحت اتحاده، أن تمتنع عن الإضرابات سنتين أو أكثر وفاء وتضحية، وتعبيرا عن وطنية صادقة، حتى تتعافى البلاد وتخرج من ازماتها، فذلك أجدى لتونس شعبا ودولة، بالإمكان انقاذهما من الإفلاس والإنهيار، وصونا لكرامة الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، من أن يكون محلّ تندّر واستهجان من النّاس.
المراجع
1 – –الطبوبي: المخابرات الاجنبية ترتع في تونس وهناك صراع مذهبي سني شيعي مسكوت عنه https://ultratunisia.ultrasawt.com