عُرفت السودان بعنوان الخرطوم، اول مرة، في اواسط الستينات: كانت عاصمته بمدينتيها من حول النيلين، الابيض والازرق، يتوحدان فيها وان قسَّما العاصمة شطرين: الخرطوم والخرطوم بحري.
برغم ارتفاع درجات الحرارة، نهاراً، والتي تفرض بعد ساعات الصباح الاولى نوعاً من الاسترخاء، فان أهاليها كانوا يحيون الليل سهراً وظرفاً وخمراً وطرباً ورقصاً، مقدمين صورة حضارية عن هذا الشعب الطيب الذي تنشيه النكتة بقدر ما ينشيه الطرب الذي تحمل الحانه الدمغة الافريقية.
كان المجتمع حيوياً في السياسة كما في العمل النقابي على وجه الخصوص… فإلى “اليمين” هناك حزب الامة بقيادته العائلية التاريخية، والى اليسار الحزب الشيوعي الذي كان عظيم الشعبية خصوصاً وان الشفيع احمد الشيخ كان قائداً نقابيا مميزاً، بقدر ما كان الامين العام للحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب شخصية عربية لها مكانتها وكان صديقاً شخصياً للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولم تكن شيوعيته لتنتقص من عروبته او من اخلاصه للسودان..
.. ثم بدأت موجة الانقلابات العسكرية لا سيما بعد غياب عبد الناصر، وتراجع الحركة القومية، وعودة الروح إلى الكيانية، وارتفاع نبرة الانفصاليين: “نحن عرب وأفارقه، وثلث شعبنا ليس عربياً فلنأخذ هذا الواقع بالاعتبار”!
في ظل الصراعات الداخلية العربية ـ الدولية، وجد اهل الجنوب من يحرضهم على الانفصال، خصوصاً وان قيادة حزب الامة لم تراع بالقدر الكافي هذا الافتراق في المنبت الاصلي وفي لون البشرة.. وكان أن تمت الاستجابة لمطلبهم بالانفصال، خصوصاً وان “الدول” بعنوان الولايات المتحدة ومعها بريطانيا قد لعبت دورها في التحريض على التقسيم.. على قاعدة اللون!
ولقد توالت الانقلابات العسكرية حتى أنهكت البلاد وافقدت الجيش الكثير من قياداته المؤهلة، وضربت الاقتصاد، فاستغلت دول الخليج الغنية الاوضاع الاجتماعية، وتقدمت للعب دور “المنقذ” عن طريق رشوة القيادات العسكرية بعنوان رئيس مجلس قيادة الثورة، وبعض قدامى الحزبيين النافذين.
من الطبيعي أن هذه الانقلابات العسكرية المتوالية قد انهكت السودان شعباً ودولة بعنوان الجيش.. وأنها قد فتحت الباب امام اهل النفط والغاز في الخليج والجزيرة العربية ليكون لهم رأيهم في من يحكم السودان وكيف وبأية سياسة.
ولقد طال حكم البشير بأكثر مما يجوز فأنهك السودان وأفقره، بينما كان يجمع الشرهات ويكدس الثروة.. ويرقص بالعصا استرضاء للشعب الفقير.
نزل الشعب السوداني الشارع بملايينه في تظاهرات ليلاً ونهاراً، رفضاً لحكم البشير وعسكره.
بعد شهور تحرك الجيش منقلباً على البشير فألقى عليه القبض وسجنه تمهيداً لمحاكمته، ومحاولاً التفرد بالسلطة، لكن الجماهير رفضت العودة إلى حكم العسكر، فكان أن تحايلت قيادة الانقلاب بإقامة حكومة مدنية يحتل فيها بعض الضباط مواقع حاكمة، مع بقاء نوع من المجلس العسكري شريكاً له رئاسة الدولة وبعض الحقائب في الحكومة التي تولى رئاستها شخصية معروفة بالنزاهة.
ثم، فجأة ومن دون سابق انذار، سافر البرهان إلى كينيا ليلتقي رئيس حكومة العدو الاسرائيلي بنيامين نتنياهو العائد من واشنطن مظفراً بصفقة القرن التي أعلنها الرئيس الاميركي دونالد ترامب بحضوره وعلى صدى تصفيقه وقد أخذته النشوة.
فوجئت الحكومة السودانية الائتلافية بهذه القفزة المفاجئة نحو العدو، واعلنت اعتراضها، وكذب رئيسها الفيلد مارشال البرهان حين ادعى انه قد ابلغه قبل يومين من اللقاء..
بالمقابل هبت دول النفط والغاز العربية، والتي كان بعضها على علم بهذه الصفقة المتفرعة عن صفقة القرن التي كانت ثلاث من الدول العربية تشرف بحضورها حفل الاعلان عن بيع فلسطين او ما تبقى منها (ومعها غور الاردن) للعدو الذي كان دائماً عدواً.. والذي تعهد الآن بأن يحفر من الانفاق بين الضفة وغزة (والاغوار ايضا) ما يكفي لتأمين التواصل بين الفلسطينيين الذين سيفرض عليهم أن يعيشوا في الانفاق اذا ما ارادوا زيارة بعضهم البعض.. ولو للتعبير عن الشوق إلى وطن!
ويبدو أن الفيلد مارشال البرهان قرر أن يلتحق بالمطبعين وعلى رأسهم الرئيس المصري الراحل انور السادات..
ولن تقبل الخرطوم التي فيها انعقدت قمة رفض الهزيمة في اواخر العام 1967 أن تلتحق بمسيرة انور السادات هي التي عاشت بعض أزهى ايامها مع جمال عبد الناصر وتبرع بعض قيادييها بعنوان عبد الخالق محجوب بان يحمِّلوا النقد واللوم لموسكو على القصور السوفياتي في دعم مصر وتنبيهها من حرب 1967.
رئيس تحرير صحيفة السفير