في ظاهر الامر، ربما تبدو الوقائع والاحداث والمواقف والتوجهات المنطلقة من بعض العواصم العربية، كالرياض والمنامة وابو ظبي، منفصلة عما يطرح ويقال في واشنطن ومن قبل بعض السفارات الاميركية، وتحديدا في بغداد، بيد ان التعمق والتأمل قليلا في توقيت وتتابع تلك الوقائع والاحداث والمواقف والتوجهات، يؤشر الى ان هناك قدرا كبيرا من التواصل والتنسيق والتخطيط، ومساع حثيثة للوصول الى اهداف معينة، عجزت الاساليب والوسائل والادوات والخطط السابقة عن تحقيقها، حيال العراق، وعموم محور المقاومة.
وخلال فترة زمنية قصيرة لم تتعد الاسبوع الواحد، اقدمت السفارة الاميركية في بغداد، على ارتكاب اساءتين، لا تمتان الى السياقات والاعراف الدبلوماسية بصلة، الاساءة، تمثلت الاولى بأعلان القائم بأعمال السفارة “جوي هود”، بأن حكومة بلاده ستفرض عقوبات دبلوماسية على العراق في حال خرق العقوبات المفروضة على ايران، وتحدث في مؤتمر صحفي، عما يجب ان يقوم به رئيس الوزراء العراقي، من قبيل حل الحشد الشعبي، وقطع علاقاته مع ايران، وانهاء الوجود الايراني في العراق.
والاساءة الثانية، تمثلت في التهجم على مرجع ديني كبير من مراجع مذهب اهل البيت عليهم السلام، الا وهو اية الله العظمى السيد علي الخامنئي، عبر منشور على الصفحة الرسمية للسفارة الاميركية في بغداد بموقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك).
ومثلما، عكست الاساءة الاولى تجاوزا غير مقبولا على العراق، فأن الاساءة الثانية، جاءت مخالفة للدستور العراقي الذي نصّ على عدم جواز استخدام الاراضي العراقية للاعتداء على جيران العراق من قبل اية دولة، ولاشك ان مفهوم الاعتداء لاينحصر بالاساليب العسكرية المسلحة، وانما يشمل الوسائل والاساليب الاعلامية والاقتصادية وغيرها.
ويخطئ من يتصور او يفترض ان تهديدات القائم بالاعمال الاميركي بفرض اجراءات عقابية دبلوماسية على العراقي في حال لم يلتزم بالعقوبات ضد ايران، وكذلك الاساءة للسيد الخامنئي عبر حساب السفارة في بغداد على الفيسبوك، كانت عفوية وغير مخطط لها في واشنطن، بل ان الاخيرة ارادت ان توصل رسائل لكل من بغداد وطهران على السواء، وان اختلفت تلك الرسائل في ماهيتها ومضامينها ودلالاتها.
أرادت واشنطن ان تقول لبغداد، ان التأثير والحضور الاميركي في العراق لايقتصر على الجانب العسكري، وانما يمتد الى الجانب الدبلوماسي، ناهيك عن الجانب المخابراتي، الذي غالبا ما يلتحف بغطاء اعلامي او ثقافي او اجتماعي او اكاديمي، ولعل الامثلة والمصاديق على ذلك كثيرة.
وأرادت ان تقول لبغداد، ان سفارتها هناك، يمكن ان تلعب دورا محوريا في تشديد الضغط على طهران، والحؤول دون تأمين نافذة لها عبر بغداد.
في مقابل ذلك ارادت واشنطن ان تقول لطهران، انها ستحاربها بكل الوسائل والاساليب والادوات، ومن كل الاماكن، لاسيما بغداد، وانها ستستهدف اصدقائها وحلفائها في العراق، ولن تتركهم يفعلون ما يشاءون.
وأغلب الظن، ان واشنطن لم تتوقع ان يكون الرد العراقي سريعا وقويا ومتعدد الابعاد والمستويات، وذلك فأنها ربما حاولت تشتيت الانظار، وخلط الاوراق، بتحريك بعض ادواتها هنا وهناك.
فمن الرياض، برزت قضية تنفيذ احكام الاعدام بسبعة وثلاثين مواطنا سعوديا من الشيعة، كانوا قد اعتقلوا قبل ثمانية اعوام بتهمة “الارهاب”، او بعبارة اخرى، العمل ضد النظام السعودي الحاكم.
ومن المنامة، تجاوز وزير الخارجية البحريني خالد ال خليفة، في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي(تويتر) على زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، واصفا اياه بأوصاف لايمكن ان تصدر من شخص يشغل الموقع الدبلوماسي الاول في دولة ما.
ولم يك غريبا ان تسارع الرياض وابو ظبي الى اظهار التضامن مع نظام الحكم البحريني، بعد ردود الفعل العراقية الغاضبة والمستهجنة لاساءات وتجاوزات الوزير البحريني، مثلما علت اصوات مؤيدة لحكام الرياض حيال حملة الاعدامات الاخيرة.
ولا شك ان ترامب، الذي يكرر بكل وضوح وصراحة، ان الولايات المتحدة الاميركية لن توفر الحماية لاي طرف دون دفع ثمن تلك الحماية، يعد التماهي مع سياساته ودعمها ومساندتها، نوع من انواع الثمن، وعليه فأن ما مطلوب من حكام الرياض والمنامة وابو ظبي وعواصم اخرى، ان لايتوقفون عن عدائهم ومؤامراتهم وحروبهم ضد ايران، وكذلك العراق وعموم محور المقاومة.
مطلوب من حكام تلك العواصم، ان يثيروا الفتن، ويسيئوا للرموز السياسية والدينية الوطنية، وان يثيروا المشاكل والازمات بين ابناء الوطن الواحد، وان يبثوا وينشروا ويروجوا لمختلف المظاهر والظواهر السلبية، والقضايا المحبطة.
وبما ان الحروب العسكرية المباشرة، وتوظيف الجماعات والتنظيمات الارهابية ، كتنظيم القاعدة وبعده تنظيم داعش، قد بائت بالفشل، فأن الخيار البديل هو الحرب الناعمة، بميادينها الاعلامية والاكاديمية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية المختلفة، ولايحتاج المرء اليوم لبذل الكثير من الجهد للوقوف على مصاديق ودلائل ومعطيات تلك الحرب الناعمة.
ولعل الشيء المهم حتى الان، هو انه رغم الاموال الطائلة التي انفقت، والجهود التي بذلت، والمخططات التي وضعت، فشلت واشنطن ومن يقف ورائها ويتبعها، بتمرير اجنداتها وتحقيق اهدافها، وهي تشعر انها خسرت كثيرا، وستكون خسارتها اكبر، حينما تجد نفسها مرغمة على مغادرة الاراضي العراقية، بعد ان يقر البرلمان العراقي قانون اخراج القوات الاجنبية من البلاد، وستكون خسارتها اكبر، حينما تكتشف ان العلاقات بين بغداد وطهران تحكمها قواسم مشتركة كثيرة، ومصالح متبادلة واسعة، وحقائق تأريخية وثوابت جغرافية لايمكن التلاعب بها وتكييفها وفق مخططات واجندات مراكز صناعة القرار في واشنطن والعواصم التابعة لها.
وهذا ما ينطبق على عموم دول وشعوب المنطقة، وابعد من ذلك، هذا ما ينطبق على مختلف مكونات المجتمع الدولي.
موقع العهد الاخباري