لم يكن الله ليرسل رسله بكتبه، متضمنّة أحكامه وشرائعه إلى الناس، ليتركهم بعد ذلك يتصرّفون فيها كما يحلو لهم، من دون أن يجعل لها من صفوة خلقه، قوّامين عليها حافظين لها، وهو خالقهم وأعلم بدخائلهم وسرائرهم، فضلا عن كونه وحده صاحب الحق، في أن يصطفي ويختار من عباده من هو أهل للقيام بذلك الدور: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون)(1) وبيان احكام الله وتطبيقها يحتاج إلى من أهّله الله ورسوله للقيام بذلك حتى يتسنى له القيام بدوره الأساس في التعليم والقيام في الناس بالقسط: (إنا أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (2)
ككل يوم من الثامن عشر من ذي الحجة، يحتفل أهل الولاية الإلهية بيوم عظّمه الله تعالى، فجعله أعظم أعياد أمّة نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا المسلمين إلى اعتباره كذلك، وإيلائه ما يستحق من قيمة، من خلال ما أجراه من وحي، وفيه ما فيه من أعمال جليلة، برهنت من خلال أدائها، على طاعة وانضواء تحت سماء نظام ربّاني، لو قُدّر له أن يستلم مقاليد حكمه، لكان أصفى وأعدل نظام حكم على وجه الأرض، وكيف لا يكون بتلك القيمة المادية والمعنوية، وهو مشروع وغاية سلسلة الولاية الإلهية، التي شرّعها الله من خلال أنبيائه وأوصيائه عليهم الصلاة والسلام، ليختتم بها دورة العدل الإلهي في نهاية المطاف، لحكم أحكم تشريعه، من أجل مجتمع واع ملتزم، يسعى نحو الكمال الإنساني.
ومن تدبر حادثة الغدير (3)، وما جاء فيها من أمر إلهي، علم يقينا لماذا استُهدفت من أعداء الاسلام المحمدي، الذين بذلوا جهودا متكرّرة من أجل محو آثارها وتغييبها عن عموم المسلمين، فزمرة النفاق التي صرفت ولاية أمير المؤمنين عليا عليه السلام، وهي تعلم يقينا أنّه ولي كل مؤمن ومؤمنة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واصلت جهودها من أجل أن لا يستلم مقاليدها أحد من أبنائه الأتقياء البررة، ونجحت في تحييد الحكم عنهم، في غفلة من الأمّة وتقصير من جانبها، لذلك فإننا لا نستغرب اليوم، إذا وجدنا من المسلمين من يقول بفصل الدين عن الحياة والمجتمع والحكم، ويرونه فقط مسائل تعبّديّة خاصة بين العبد وخالقه، لا شأن لها بما وراء ذلك من حكم وإقامة العدل ونشر السلم وتحقيق أمن.
لقد أرسى النبي أساسات النظام الإسلامي، من حيث أحكامه الخاصة والعامة، ومن حيث آدابه وسلوكياته الاجتماعية، وأعطاه بعده السياسي بإبرام العهود وارسال الرسائل للملوك يدعوهم الى دينه والنزول عند حكمه، وتبيّن ذلك لكل مطلع على سيرته منذ أن حلّ بالمدينة حيث بنى مسجده، وألّف يبن قلوب أتباعه بإجراء المؤاخاة بينهم ليزدادوا ائتلافا ولُحْمة…
حادثة غدير خم هي من بين الحوادث التاريخية التي غُبِنت، وتصرّف فيها حفاظ خط السقيفة بسوء وتجاهل، فغيّبوها بإذهاب تواترها، وأسقطوا منها بعض مظاهر تضمّنتها، لو بقيت لساعدت من اطلع عليها على معرفة حقيقتها، فعند منصرف النبي صلى الله عليه وآله من حجته الوحيدة المعروفة بحجة الوداع، وفي 18 من شهر ذي الحجة نزل عليه أمين الوحي جبريل آمرا: ( يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) (4) مُفاده أن نصّب من بعدك عليّا، لكون وليّ الأمر على الأمّة، ولا مجال لتأخير الأمر، في اجتماع ما يقرب من 120.000 من الحجاج، بعدما أدّوا مناسكهم في مكة، وقفلوا عائدين إلى ديارهم (5)
استجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمر ربّه، وأمر بأن ينادى في الناس الصلاة جامعة، وخطب في الحاضرين خطبة بليغة واضحة، لا لبس فيها حتى لا يؤوّلها أحد، أو يحملها على غير محملها، أختصرُ منها في مقالي هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، وأخذل من خذله) (6) قام من قام بنقلها مختصرة، وتسامح من تسامح في نقلها مطوّلة شيئا ما، بما زاد مقصد الوحي من ذلك البلاغ تأكيدا على تنصيب امير المؤمنين، في ذلك اليوم من السنة العاشرة من الهجرة النبوية، والنبي صلى الله عليه وآله على بعد أسابيع من مغادرة الدنيا واللحاق بالرفيق الأعلى، وقد تعددت الإشارات النبوية متعلّقة به، بكونه ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعده (7) وبمنزلة هارون من موسى من بعده باستثناء النبوّة(8)
ما يجب ذكره هنا – وفيه إشارة لما كنت ألمحت إليه من غبن حصل لخطبة الغدير- فقد جحد مسلم في جامع أحاديثه الخطبة رغم اشارته لها، ولم يذكر منها سوى مكانها، وذكر حديث الثقلين محرّفا عن ألفاظه الصحيحة (قام رسول الله يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحثّ على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (3 مرات)(9)
مع أنّ حديث الثقلين جاء على لسان النبي بلفظه الواضح الدّال على منطقه المُمَيّز عن تصرّفات من أبى قول الحق وعمل على تحريف بياناته اتفق على نقله أمناء حفظ منطوق وحي الله، وكلام النبي صلى الله عليه وآله وحي يوحى: (إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(10) فكيف يتجاهله البخاري ويعمل على تغيير الفاظه مسلم النيسابوري؟ وما تجاهلاه الا لأنّ مضمونه لا يتناسب والمنهج المخالف لأئمة اهل البيت عليهم السلام الذي سلكاه في نقل وحجب الأحاديث.
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مفتتح خطبته: أولست أولى بكم من أنفسكم؟ في تذكير منه بقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(11) بيان واضح من أنّ القصد هو ولاية الأمر من بعده، وليس إلى ما ذهب إليه من ذهب من أتباع نهج السقيفة، من كون معنى الولاية منصرف إلى معان أخرى غير ولاية الأمر، وعلى أيّة حال فإنّ إمامة النبي صلى الله عليه وآله متواصلة في ذرّيته الكرام البررة الأئمة الاثنا عشر الذين ذكر النبي صلى الله عليه وآله عددهم وبيّنهم للأمّة لكن زمرة تحريف الكلم عن مواضعه جحدوها واستيقنتها أنفسهم علوّا واستكبارا، وكانوا سببا في ضياع اغلب الأمّة الاسلامية، وانحرافها عن جادّة حق الهداة الطاهرين.
عيد الغدير هو عيد الولاية الإلهية والمؤاخاة التي دأب النبي صلى الله عليه وآله على تطبيقها امتثالا لأمر الله سبحانه وتعالى ( إنّما المؤمنون إخوة) (12)وهذا تجسيد لأمّة الجسد الواحد: (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسّهر والحمى.)(13) هذا ما أراده الله من أجل أن يحكم بخاتم شريعته في خلقه، وذلك ما أراده عُصاة أمره، لكنه بقيت باقية حاملة هذا التكليف عاملة به ظاهرة بحمده وشكره يراها من يرى بقلبه، ويعمى عنها من عمي ( لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (14)انظروا الى رابطة الأخوة الإسلامية اليوم أين توثّقت ومن قام بها وتحمّل تبعاتها وتكاليفها ونتائجها، إنّهم المدافعون عن غزّة وفلسطين أصحاب محور المقاومة الذين رفضوا أن يتجاهلوا إخوانهم رغم اختلاف مناهجهم الفقهية، فما يربطهم بالإسلام أوثق وأكبر، وأخوّة الدين لا تختلف عن أخوّة المذهب خصوصا، ونحن أرفع من أن نحمّل إخواننا وزر ما ارتكبه الأوائل، حيث لا تزر وازرة وزر أخرى، غدير ولاية وأخوّة جامعة مبارك كل عام وأمتنا إلى وعي أكبر بتكاليفها، مجانبة الفتن وأبواق دعاياتها، افتحوا قلبوكم لإخوانكم فإنّهم لو علموا الحق حقا لاتبعوه، القادم بإذن الله خير، إنّه وعد الله والله لا يخلف وعده.
المراجع
1 – سورة القصص الآية 68
2 – سورة الحديد الآية 25
3 – حديث الغدير من مصادر أهل السنة والشيعة
https://hadith.net/ar/post/
4 – سورة المائدة الآية 67
5 – عدد الذين حجوا مع النبي (ص)
https://shkhudheir.com/node/
6 – سنن الترمذي أبواب المناقب باب مناقب علي بن ابي طالب ج6ص79ح3713
7 – حديث ما تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي. دونه عدد من الحفاظ منهم الترمذي في سننه أبواب المناقب باب مناقب علي بن ابي طالب ج6ص78ح3712
8 – جامع أحاديث البخاري كتاب المغازي باب غزوة تبوك ج6ص3ح4416
9 – صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن ابي طالب ج7ص122ح2408/مسند احمد اول مسند الكوفيين حديث زيد بن أرقم ج32ص10ح19265
10 – سنن الترمذي أبواب المناقب باب مناقب أهل البيت ج6ص125ح3788
11– سورة الأحزاب الآية 6
12– سورة الحجرات الآية 10
13 – ميزان الحكم محمود الري شهري / مسلم كتاب البر والصلة والآداب ج8ص20ح2586
14 – مسلم النيسابوري كتاب الامارة ج6ص52ح1920/ وغيره بألفاظ متقاربة