شهد الربع الأول من القرن الحالي جملة أحداث ومعارك وحروب, بعدما انفرد الغرب بقيادة الولايات المتحدة بتوجيه دفة العالم, وببسط سيطرتها وهيمنتها على الجغرافيا السياسية الدولية, وحاولت إجبار العالم على الدوران في الفلك الغربي, واعتناق قيمه وشعاراته المزيفة, مع ذلك وجد العالم نفسه أمام منعطفٍ حاد وخطير, مزدحم بجملة متغيرات جيوسياسية عسكرية إقتصادية ديموغرافية, قيمية حضارية أخلاقية, ضاغطة ومؤثرة على السياسات الخارجية والداخلية لكافة دول الصراع بما فيها الولايات المتحدة, رسمت من خلالها طريقاً لا رجعة فيها، فكان القبول بالواقع والحقائق الجديدة أمراً صعباً بالنسبة لقوى الهيمنة الغربية, وفرض عليه إما الإعتراف بالمتغيرات والإتجاه نحو الحلول وأقله إلى التسويات, أو نحو المواجهة والحروب الكبرى.
ومن حيث النتيجة, أفضت ذهنية الغطرسة والنهج الإستعماري الغربي وتمسكه بالإستحواذ على كامل النفوذ وكامل الثروات, فكان لجوئها إلى القوة العسكرية مسلكاً سريعاً ينسجم مع طبيعتها والشرور المتأصلة في قلوب وعقول مخططي وصانعي سياساتها, وسط دهشة التاريخ الذي وجد نفسه يكرر نفسه, بعيداً عن دروسه وعبره الماضية, بعدما وجدت تلك القوى في التطرف بكافة أنواعه مادتها الدسمة, وعناوين رواياتها وأدواتها الصلبة رخيصة التكاليف, لتكون بوابة الحروب الجديدة, فكانت العودة إلى حروب العصور الوسطى نموذجاً وغايةً, وتصدر التطرف الديني المشهد, فحبل الشر وولد حكومات وزعماء وأحزاب وحركات ومجموعات وتنظيمات لا حصر لها, راهن الغرب على خدماتها ونجاح إقحامها في الحروب كوكلاء, فحمّلوها النسخ المنحولة المزورة للأديان السماوية, وجعلوا منها مصدراً “للإلهام” والإبداع في القتل وسفك الدماء, ومن يبحثون عن المال القذر في ظل الشعارات المزيفة, فأوقعت المؤسسات والمرجعيات الدينية الكبرى في ورطة وإرتباك, واختلط المشهد وعمّ التضليل, وأصبح استهداف تلك المرجعيات هدفاً سياسياً “نبيلاً” بإمتياز, وأصبح على سبيل المثال تجريد الكنيسة الأورثوذوكسية الروسية من نفوذها والطعن بمصداقية مواقفها ودعمها القيادة الروسية ركناً أساسياً من المواجهة الحالية.
وسط مشاهدة متشابهة, استُخدِمَ فيها التطرف والإيديولوجيا الدينية “نبراساً” وتكليفاً إلهياً والذي دأب قادة الكيان الإسرائيلي على استعماله منذ اعتماده الرواية المزورة, وليس أدل من الخطابات الدينية التي استخدامها المجرم نتنياهو لتبرير العدوان الهمجي على قطاع غزة وإرتكاب المجازر وحرب الإبادة الجماعية, كذلك تلك الحروب التي تُشن على جمهورية إيران الإسلامية, والشيء ذاته لتبرير مذابح الروهينجا, وكل ما يحاك للمسلمين في فرنسا وتركيا وجورجيا وعموم أوروبا والولايات المتحدة ..إلخ .
إن العودة للحروب الدينية “المقدسة”, يعيدنا بالذاكرة إلى الماضي وحروبه الكارثية, كحرب الثلاثين عاماً بين ملوك إسبانيا وأباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة, التي اعتمدت على تجذير قوة تأثير الإيمان الديني البروتستانتي في نفوس الجنود, الأمر الذي لم يكن يرضي الكنيسة الكاثوليكية, الأمر الذي خلق دافع الحرب لإقتلاع الكنيسة البروتستانتية واستعادة المؤمنين إلى كنف الكنيسة الكاثوليكية, حربٌ أفقدت إسبانيا الكثير من نفوذها ومكانتها كقوة عظمى, وبالرغم من ذلك استطاعت البروتستانتية تأكيد وجودها ونفوذها في العديد من الدول وحيث تشكل “الدين” السائد, وبذلك قدمت تلك الحروب نفسها نموذجاً صارخاً لتحدي القيم وحقوق الإنسان وحرية التعبير والإيمان.
كذلك, تعاني الدولة الروسية اليوم من هذه الصراعات, ولم يكتف الغرب بمحاربتها عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً …إلخ, وذهب إلى أبعد من ذلك بإستهداف كافة مكامن قوتها ونفوذها التاريخي, وإلى استهداف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في أوكرانيا, تحت ذريعة أن الدفاع عنها يشكل أحد مبررات بوتين للحرب على أوكرانيا, مع تأكيد أسقفها وبطريرك موسكو كيريل الأول بأن خصوم روسيا هم “قوى الشر”, وعليه اعتُبرت الكنيسة الروسية طرفاً متواطئاً ومشاركاً في العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا, وفرضت عليها العقوبات الأوروبية.
وفي هذا السياق, استخدم الغرب حكومة وبرلمانيي نظام كييف الراديكالي لمحاربتها وحظرها على الأراضي الأوكرانية, متجاهلين 300 عام من تبعيتها للكنيسة الأرثوذكسية الروسية, على الرغم من وقوفهم وراء إنفصالها واستقلالها عام 1990, وبعد فشلهم بالحصول على إعتراف القسطنطينية (المقر التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية), أصبح “تدميرها من جذورها هدفاً غربياً لخلق كنيسة شبه أرثوذكسية” – بحسب بيان الخارجية الروسية والمتحدثة ماريا زاخاروفا- , ويبقى من اللافت اهتمام وحرص الرئيس بوتين على زيارة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في الصين, ومؤخراً في كوريا الشمالية.
كان من نتائج الحروب وتحديداً الحرب العالمية الأولى, اختفاء بعض الإمبراطوريات كالألمانية والنمساوية والروسية من الخرائط السياسية للعالم, وضياع نفوذ العديد من الدول التي كانت تتربع على عرش القوة الدولية, فيما حاولت كل من بريطانيا وفرنسا التمسك بما تبقى من هيبتها وقوتها, وبالمقابل ظهرت دول أخرى كألمانيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا, وبدأت تضع بصماتها على الساحة الجيوسياسية, مستغلة موقعها وتحالفاتها وصناعاتها وثروات اليهود في دولها, أمورٌ بمجملها أكدت الإنهيار الجيوسياسي للنظام العالمي القديم برمته, وتحول الصراع الدولي نحو تجميع أوراق النفوذ والقوة الفعلية على الأرض, لرسم قواعد النظام الجيوسياسي للنظام العالمي الجديد.
من الناحية النظرية, كان من الممكن تجنب تلك الحروب والماّسي, في حال تم الإعتراف بالحقائق ومتغيرات الجغرافيا السياسية, وبوجود الاّخرين وبوجهات النظر مختلفة, وكان بالإمكان عقد الصفقات والتسويات, وضمان خفض التوترات والتصعيد العسكري والحروب, بما يصب في صالح أمن واستقرار العالم.
وبعد مضي 50 عاماً على القواعد والقيم الغربية, التي فرضتها واشنطن وبروكسل على العالم, ظهرت دلائل الإنهيار الإقتصادي والسياسي والمجتمعي الأخلاقي في الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي قبل غيرها, ولم تعد دول مجموعة السبع ( G7 ) تتمتع بقوتها السابقة, وتجلى ضعفها الإقتصادي والسياسي في قمتها الأخيرة, نتيجة سياساتها المتطرفة وخوضها حروب الوكالة عوضاً عن التفاهمات والتسويات, وانكشاف حقيقة الليبرالية والليبراليون الجدد, وسط إدراك المجتمعات الغربية زيف “الروايات” ووحشية المخططات والممارسات الغربية, وبات الكثيرون يشعرون بالحاجة الماسة للبحث عن هوية جديدة تعيد إرتباطهم بجذورهم وتقاليدهم وتاريخهم.
باتت غالبية الشعوب الغربية ترفض استمرار النهج الإستعماري والممارسات الإجرامية التي يتبعها قادتهم, وهم يرون بلادهم تقترب شيئاً فشيئاً من الحرب العالمية الثالثة والحرب النووية, بعدما أرهقتهم الحرب في أوكرانيا ونالت من أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية وبدأت تهدد حياتهم ومستقبلهم, نتيجة دعم نظام كييف وتحريضه لإستخدام الأسلحة النووية, كذلك الأمر بالنسبة إلى استمرار دعم الكيان الإسرائيلي الذي يرتكب المجازر بحق الأبرياء في غزة, وسط دعوات أحد وزرائه لقصف غزة بالقنبلة النووية, بالتوازي مع استمرار قادة دولهم الغربية بدعمه بالمال والسلاح وقنابل الإبادة.
في الوقت الذي يرون فيه تطرف قادتهم وعدم أهليتهم للحكم والقيادة أصلاً, وما أكثر المجانين والمتطرفين من أوباما إلى ترامب وبايدن وهاريس, إلى جونسون البريطاني إلى مواطنته ليز تروس, ومن أولاف شولتز إلى أنالينا بربوك مروراً بماكرون وميلوني وجوزيب بوريل وأورسولا فون دير لاين, وصولاً إلى الأوكراني زيلينسكي, بعدما أثبت هؤلاء غربةً ثقافية, وجهلاً وحقداً وشبقاً لإراقة وسفك الدماء, وتدمير العالم, وكل ما يعنيهم هو حماية “نظام القواعد” لأجل مصالحهم, واستعدادهم لفعل المستحيل للحفاظ على النموذج الجيوسياسي الذي يضمن استمرار الهيمنة الغربية, دون الإكتراث بحياة شعوب العالم وبأنين المظلومين ومستقبل الكوكب.
وحدهم الأشرار وأصحاب المصالح من يرفضون التخلي عن نظام القواعد “المدمر”, والقبول بهزيمته وبنهاية الهيمنة الغربية, والإتجاه نحو التعاون والمشاركة بإقامة نظام عالمي جديد يتوافق مع الواقع الحالي، ويحقق الطموحات ويبعد شبح الحرب الكبرى التي بات الحديث عنها والتهديد بها حدثٌ يومي, وبات من الضروري البحث عن الحلول لكافة الأزمات والصراعات الدولية خصوصاً في غزة وأوكرانيا, عبر التفاهمات والمفاوضات والتسويات, والتعاون والمشاركة, وليس عبر الحروب والمواجهات في ساحات المعارك وعلى الجبهات.. فهل ينتصر العقلاء ؟
وتستحق القضية الفلسطينية إهتمام العالم وتكاتفه وحزمه لوقف اّلة الإجرام الإسرائيلية وداعميها, وبدعم المفاوضات لتكون حقيقية معنية بالوقت ولا تسعى لشرائه وإطالة أمد العدوان والمجازر, كذلك بات من الضروري توسيع فريق الوسطاء, فالقضية الفلسطينية أصبحت قضية كافة شعوب الأرض, ولا يحق للولايات المتحدة التفرد بها , وتحويلها إلى حرب إقليمية وربما عالمية.
* كاتب وباحث استراتيجي