غزّة كما عرّفها المؤرخ المقدسي (عارف العارف): هي من أقدم المدن التي عرفها التاريخ، إنّها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنّما هي بنت الأجيال المنصرمة كلّها، ورفيقةُ العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر فيه التاريخ صحائفه الأولى إلى يومنا هذا.) ووصفها المستشرق الأمريكي (ريتشارد غوتهيل) ب(أنّها مدينة مثيرة للمُهْتمّ بدراسة التاريخ، موضّحا أهمّيتها بأنها نقطة التقاء القوافل، التي كانت تنقل بضائع جنوب الجزيرة العربية والشرق الأقصى، إلى البحر الأبيض المتوسط، ومركز توزيع هذه البضائع، إلى سوريا وآسيا الصغرى وأوروبا، وهي كذلك همزة الوصل بين فلسطين ومصر.) (1) هي ممر تجاري بين افريقيا وآسيا، تسلكه قوافل التجار من العرب والبربر، فجدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هاشم بن عبد مناف مات في غزّة، وهو عائد بتجارته سنة 524م، ودفن هناك(2) وضريحه مازال إلى اليوم، يمثّل رمزا للشرف الرابط بين غزّة وبني هاشم، ومَدْعَى لإعتزاز الغزّوايين بتاريخهم العريق وروابطهم الوثيقة، شاء القدر أن يكون أحد أجداد نبي الإسلام ملحودا فيها.
تجارب مُرّة مرّ بها الشعب الفلسطيني، خصوصا عندما علّق أمله في الحكام العرب، وتلاشى ذلك بمرور الزمن، وانهزام جيوشها في حرب حزيران 1967، لكنّه لم يفقد رجاله الأحرار الغيارى، فعملوا على تأسيس حركات مقاومة مسلّحة، إيمانا منهم بأنّهم أولى بمواجهة العدوّ، والدفاع على قضيّتهم العادلة، ومعالجتها بمقاومتهم، فنشأت في البداية حركات مسلحة قومية ويسارية، كجبهة التحرير الفلسطينية التي أسسها أحمد جبريل رحمه الله مع علي بشناق سنة 1959، وقامت بعدة عمليات ولم تعلن هذه الجبهة عن نفسها إلا في سنة 1965، ولم ينجح أحمد جبريل في الاندماج مع حركة فتح، اذ سرعان ما دب بين القيادات الفلسطينية خلافات سياسية وتنظيمية، أدّت إلى انسحاب (أحمد جبريل) و(جورج حبش) وغيرهم من ائتلاف المقاومة تحت عنوان فتح، فظهرت (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) بتاريخ 11/12/1967، بقيادة الدكتور (جورج حبش)، لكنه سرعان ما انشق عنها (نايف حواتمة)، ليؤسس (الجبهة الشعبية الديمقراطية)، وينفصل (أحمد جبريل) بدوره ليؤسس (الجبهة الشعبية القيادة العامة)(1).
لقد ارتكز العمل المسلّح الفلسطيني على القيام بعمليات فدائية خارج الأراضي الفلسطينية من على الحدود الفلسطينية وحتى داخلها، تخلله خطف طائرات مسافرين، ومهاجمة كل ما يمتّ إلى الكيان الصهيوني بصلة، حتى لو كان العابا أولمبية كألعاب ميونخ ( المانيا)، وتطوّرت الأعمال الفدائية بشكل بطيء في البداية، وانقطاعه أحيانا لقلة الدّعم، لكنّه بانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية – وكان حدثا تاريخيا كبيرا- وظهور الطّرح الفكري والعقائدي الإسلامي، ظهرت حركات إسلامية كالجهاد الاسلامي الدكتور (الشهيد فتحي الشقاقي) 1981، وحركة حماس التي أسسها (الشيخ أحمد ياسين) سنة 1987، وكانت غزّة قاعدتهما دون أن يُهْمِلوا الضفة وبقية المناطق الفلسطينية، وبجهود ايران الإسلامية، بدأ الحلّ الإسلامي لقضية فلسطين يظهر على الساحة الجهادية، كأسلوب ناجع بدأ يكبر ويتنامى على الساحة الفلسطينية.
بات الكيان الصهيوني الغاصب أن غزّة أصبحت تشكّل عليه خطرا وتمثل تهديدا جدّيا له باحتضانها حركات المقاومة، فأقدم على اقتحامها مرارا مستعملا جميع قوّته بما فيها الأسلحة الممنوعة كقذائف الفوسفور واليورانيوم، صابّا إياها على رؤوس الغزاويين وأبنيتهم، مخلّافا كل مرّة آلاف الشهداء من المدنيين خصوصا، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل.
مدينة غزّة الفلسطينية وقطاعها، منذ أن فرضت عليه القوات الصهيونية حصارا خانقا برا وبحرا، مثّلت شرف الأمّة وعزّها في مواجهة الطغيان الصهيوني، وإصراره على ابتلاع كامل فلسطين، والإنتهاء من قضيّة حقوقها مرّة واحدة، فقد طال بها أمد انفراج محنتها، وكاد شعبها يفقد الثقة في ما حوله من الدول والشعوب، لولا رجال سخّرهم الله للوقوف إلى جانبهم، يقاسمونهم إشراقة الأمل، بيوم تستعيد فيه فلسطين كلّها، بقدسها وجليلها وغزّتها وساحلها وصحرائها، عافية الخلاص من آثار الصهيونية والاستكبار العالمي، المُصرّ على الدفاع عن كيان غاصب رغم تعدد جرامه وفظاعتها، وتكرار خرقه للمواثيق والقوانين الدولية.
لقد مثّلت غزّة في تاريخها المعاصر، خصوصا خلال احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين، نقطة بناء وانطلاق المقاومة الفلسطينية، وذلك ما أحدث حرجا وضررا للكيان الغاصب، بعدما تبيّن الخطر الذي يمثّله هذا القطاع من فلسطين، فبدأ بمحاصرته بعد تفوّق حركة حماس في انتخابات 2006، وعززت حصارها في 2007 (3)، عقابا لمن انتخب حماس في القطاع، ومحاولة لحدّ شعبيتها بتنفيذ حصار خانق على الفلسطينيين، عقوبة جماعية لهم حتى يملّوا يضجّوا من حركات المقاومة.
حصار لم تنجح المنتظمات الأممية، وحكومات الدّول الرافضة له في الحدّ منه أو انهائه، بسبب شح المواد التموينية والمحروقات، ما كانت انعكاساته سيئة على العيش داخل القطاع، وقد شارك النظام المصري بشكل مباشر في الحصار، بغلق معبر رفح في وجه الفلسطينيين، استجابة لرغبة الكيان الصهيوني، وهذا عار لا يمكن وصفه بشيء سوى أنه منتهى الذّل الذي وصل إليه النظام المصري في عهد حسني مبارك ويتكرّر في حكم (عبد الفتاح السيسي).
أمام الضيق الشديد الذي وجد عليه الغزاويون أنفسهم، لم يجدوا بدّا من المقاومة بكافة أشكالها، ما أزعج موقف الغزّاويين الكيان الغاصب، وجعله مستنفرا دائما على حدود القطاع، منعا لمجاهديه من اختراق الحصار، وتنفيذ عمليات فدائية، لكنه لم ينجح في كبح جماح المقاومين، فكان بعد كل عملية موجعة للكيان، تنطلق من القطاع المحاصر، تواجه بمحاولة اقتحام القوات الصهيونية له، دون جدوى في نهاية كل اقتحام وحشيّ، يقابل بالصّد من المقاومين الصامدين البواسل رغم عدم تكافئ الأعتدة بين الطّرفين.
فمنذ سنة 2008 والعدوّ الصهيوني يحاول اقتحام غزة والسيطرة عليها، من أجل انهاء حركات المقاومة المنتصبة فيها، وبتعلّات مختلفة، أقدمت قواته على شن حرب على القطاع، بتاريخ 27/12/2008 أسمتها (الرصاص المصبوب)، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم (حرب الفرقان)، استمرّت 21 يوما، أما الحرب الثانية فكانت في14/2/2012، أطلقت عليها اسم (عامود السحاب)، بينما أطلقت عليها حماس (حجارة السجّيل)، واستمرت 8 أيام، أمّا الحرب الثالثة فكانت في 7/7/2014، تحت مسمّى (الجرف الصامد)، فيما أسمته حركة المقاومة الإسلامية ب(العصف المأكول)، والتي تواصلت 51 يوما (4).
تتالت محاولات الإقتحام الصهيوني لغزّة، وتصدّي المقاومين له ببسالة في كل مرّة، ومن كان يظن أنّ الإعتداءات السابقة التي كان الكيان الغاصب يسلّطها على غزة، كانت خالية من فكرة اقتحامها تماما، فهو مخطئ تماما، وهذا الهدف هو بالتأكيد ضمن أولويات جيشه، التي جعلها هدفا سعى لبلوغه منذ الاقتحام الأول، ولكن صمود واستبسال المقومين المدافعين على غزة حال دون تحقيق ذلك الهدف، ولن يتحقّق اليوم في هذا العدوان، مهما كانت قوّة النيران ودمارها.
فيما يقترب النصر التمهيدي للنصر الكبير المؤزر القادم، وقد أصبح قريبا بفعْلِ ملحمة (طوفان الأقصى) العظيمة، التي فاجأت العالم وقلبت جميع الموازين العسكرية، وأحدثت أذلّا للصهاينة أيّما إذلال وأفزعت مستوطنيه، ودفعت بهم إلى الفرار من مستوطناتهم، وبرهنت على هشاشة كيانهم، بحيث لم يصمد أمام مفاجأة الهجوم، وبسالة وشجاعة المقاومين، وأنّه فعلا كما قال سيد المقاومة أنّه أوهن من بيت العنكبوت، مقابل جاهزية محور المقاومة وتطوّرها، وتغيّر قواعد اشتباكها للأفضل، من أجل تحرير فلسطين من النهر الى البحر، وهو عهد جديد من مقاومة عدوّ مجرم شرس، لا يهمّه من قتل، ولا يقيم وزنا للقوانين والمواثيق الدّولية، يا جمهور المقاوم وأنصار الحقّ تذكّروا جيّدا بطولات غزّة، أيقونة الصمود والتحدّي جديرة بأن تكون نموذجا للإباء والعزة، صدق من سماها غزّة العزة، مقاوموها يسألونكم فقط الدّعاء، إن كنتم من أهل الاستجابة التجئوا إلى الله ليحصّن جبهتهم ويكسر عدوّهم، وهم في مواقعهم سيتكفلون بما هو مناطق بهم من تكليف ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلّا وعد الله الحسنى وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (5)،
من العار أن تقدم دول غير عربية ولا إسلامية ك(كولمبيا) و(جنوب افريقيا)(6)على طرد السفير الصهيوني من عواصمها، بينما لم تحرّد دول التطبيع إلى اليوم ساكنا ينبئ بأنها لا تزال حيّة.
المراجع
1 – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة
https://ar.wikipedia.org/wiki/
1 – ماذا نعرف عن غزّة على مرّ العصور؟ ولماذا وصفت ببنت الأجيال؟
https://www.bbc.com/arabic/articles/ckmejj6e40mo
2 – هاشم بن عبد مناف https://ar.wikipedia.org/wiki/
3 – حصار غزّة https://ar.wikipedia.org/wiki/
4 – ثلاث حروب إسرائيلية على غزة ( انفوجرافيك)
https://www.aa.com.tr/ar-/716131
5 – سورة النساء الآية 95 .