لم تستعمرنا دول الغرب، ولم تتفوق علينا علميا وتقنيا، إلا بسبب تخلّفنا عن ركب العلوم، وتقاعس شعوبنا عن أداء واجباتها، أدّى بنا إلى هذا المصير سيء جدّا، وصل بغالبيتها إلى حدّ انفصام شخصيتها الإسلامية، بعد ان كانت شعوبا متمسكة بدينها متبوعة أصبحت تابعة لهذا الغرب المعادي لها، وكأنّها نسيت أنّه سبب كل هذا التخلّف الذي أصابنا، معتبرة دوله الإستعمارية صديقة، وتاريخها الوسيط والمعاصر يشهد أنّها من ألدّ أعداء دينه.
لم يتركنا هذا الاستعمار السيء الذّكر، الا بعد أن دسّ لنا مثقفين مهووسين بثقافته، حلّوا محلّه في السلطة فاتحا لهم أبواب سيطرتهم عليها، بعنوان عقائدي بليغ (الصدق في القول والإخلاص في العمل) غرّت كلماته عامة الشعوب، لكنه بعد ذلك تبيّن أنّ هؤلاء الحكام كانوا ذئاب قطعان شعوبها، تأكل من اغنامها ولا ترعى لها إلّا ولا ذمّة، أكبر همّ هؤلاء الحكام خدمة الغرب والتعبير عن ولائهم له ولو كان ذلك على حساب شعوبهم.
ليست القضية الفلسطينية الوحيدة ضمن اهتمام شعوبنا، فهي قسيمة أساس هام ترجوه كلّ منها في مسيرتها، من أجل تغيير مجرى حياتها، من التبعية إلى الإستقلال والعزّة، وهذه المعضلة عامة وليست مخصوصة بشعب دون غيره، وثقافة الحرّية والعزّة والكرامة، ليست في متناول من تقاعست بهم هممهم عن طلب المعالي، وارتضوا بواقع صُنِع لهم، فقبلوه دون أدنى ردّة فعل، من شأنها أنه تعيد لهم توازنهم، فيبادرون إلى تغيير واقعهم السّيء إلى واقع أفضل منه.
عامل التغيير هذا قد يكون فات ركبه شعوبا منّا إذا لم تتحرّك بسرعة قبل فوات الأوان، وفيما نرى منذ اشهر وتحديدا منذ السابع من أكتوبر، كيف تنتهك أبسط حقوق الفلسطينيين في قطاع غزّة، المحاصر من كل الجهات، والمحروم من أبسط وسائل العيش، ثم تُشَنّ عليه حملة عسكرية هدفها محو كامل القطاع من الوجود بُنًى وسُكّانا، على مرأى مشهد من دول وشعوب العالم، وفي مقدمتهم الشعوب العربية، التي تجمعها الصيحة لكرة قدم، وتفرّقهم عصا مكافحة الشغب عند حصول فوضى في الملاعب انتصارا لهذا الفريق أو ذاك، وما شأن وقيمة هذه الكرة حتى تنغمس فيها شعوبنا وتصبح بمثل هذه الأهمّية؟ بالطبع لا شأن وقيمة لها، ولكن اتّباع الغرب هو الذي جعل لها شأنا بيننا، كما في بقيّة المؤثرات الغربية من صناعات لهَوِيّة عبثية لا طائل من ورائها.
في هذا الزمن الذي أصبح الماسك بدينه وعقيدته، والعامل بهما كالماسك بالجمر، تكاد تنفد طاقة تحمّله مما يعيش فيه من تحريقه، ويشهده من مظاهر معبّرة عن بواطن محبطة العزائم، فاقدة لأسباب نهوضها، وتحوّلها من حال الانكسار والتخلّف، إلى حال الثورة على واقع صنعته وسوّقته لنا الحضارة الغربية المزيّفة، وتعمل منذ مدّة على تثبيته في بلداننا نهائيا – وهو أمل حكام الغرب الذي يحاولون بلوغه – ليصبح واقعا اجتماعيا سائدا بين شعوبنا.
وفيما تملّكنا الإحباط من تخاذل الشعوب العربية، إزاء ما يجري في غزّة، وتقاعسها عن الوقوف إلى جانب محنة الشعب الفلسطيني، المتواصلة منذ قيام الكيان الصهيوني سنة 1948، ولا نجد مبرّرا واحد يحول دون مشاركتها الفعالة والواسعة، تنديدا بما جرى إلى حد اليوم من جرائم فظيعة مرتكبة بحق الأطفال والنساء والعجز والمرضى والطواقم الطبية والصحفية، وهو أضعف الايمان الذي يجب على شعوبنا فعله، فلا يحصل منه سوىنزر يسير من الاحتجاجات الباهتة والتي عبّرت فقط عن تقصير لا مُبَرّر له، ويحتاج إلى مراجعة هذه المواقف المتخاذلة، فمن لم يبتلى باحتلال صهيوني – وهو من أسوأ الاحتلالات – سيأتي عليه الدّور في قادم الأعوام، من بسبب النزعة الاستعمارية التوسّعية التي عُرِف بها الكيان الغاصب، وما الجولان المحتل سوى نموذج من أبعاده التوسّعية.
وما لم تفهمه الشعوب العربية بشأن قضيتهم المركزية، المُفرَّط فيها حكوميا بمشروع حلّ الدولتين، الذي لم يعُد لمن دعا إليه، مبرّر واحد في الاحتفاظ به على أمل تحقّقه، وشعبيا بالتقصير الفادح في نُصْرَة أشقائهم، والوقوف إلى جانبهم في معاناتهم الكبرى، فهمته الشعوب الغربية، التي وقفت من خلال متابعاتها لما يجري من أحداث في قطاع غزة، على حجم جرائم حرب، وانتهاكات لحقوق الإنسان، والقوانين الدولية في حرمة قتل المدنيين، فخرجت بأعلى عناصرها الفكرية والثقافية، مطالبة بوقف العدوان وأعمال الإبادة، ومحاكمة من ارتكبها، فدقّة نقل على الهواء من الساحة الفلسطينية إعلاميا – رغم التعتيم المتعمّد الذي مُرِس بحقّه – ألهب مشاعر دعاة السّلم والتعايش السلمي ونبذ العنصرية وأخرجهم عن صمتهم، وحرّكهم تلقائيا للتعبير عن مواقفهم الصادقة في رفض ما يجري هناك.
هذه الشعوب الحيّة – كما رأينا أفرادها في مواجهة غطرسة وتجبّر أنظمتها – لم تأبه لأعمال القمع التي واجهتها، بدأ من الضرب المبرّح والإعتقالات العشوائية، وانتهاء بالفصل من مقاعد الدراسة الجامعية، وفصل حتى الأساتذة المساندين لغزّة، وقد قابلت هذه الأعمال القمعيّة المفرطة في عدوانها الغير مبرّر حتى بالقانون الأمريكي المنتهك، قرار صادر عن جامعة شيراز جنوب إيران جاء فيه: (يمكن للطلاب وحتى الأساتذة الذين تم فصلهم أو تهديدهم بالفصل مواصلة دراستهم في جامعة شيراز”، وأضاف: “الجامعات الأخرى في شيراز ومحافظة فارس مستعدة أيضًا لقبول الطلاب المفصولين من أمريكا وأوروبا”.
وأعلنت صحيفة واشنطن بوست، في تقرير لها عن “أكبر رد شرطة على الأنشطة التي شهدتها الجامعات في السنوات الأخيرة” ضد احتجاج الطلاب على جرائم النظام الصهيوني في غزة، عن عدد الاعتقالات لأكثر من 900 شخص خلال الأيام العشرة الماضية.
وبحسب الصحيفة، فإن قمع المتظاهرين في جامعة كولومبيا في نيويورك أثار موجة من النشاط في الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، والتي أدت، وفقا لآخر التقارير، إلى اعتقال أكثر من 900 شخص) (1)
وفيما تتواصل الإحتجاجات الغربية على ما يجري في غزّة طلبا لوقفها، مقموعة بعنف خوفا من انتشارها، مما قد يفرض على حكوماتها تغيير مواقفها مما يجري في غزّة، واستمرار هذه الإحتجاجات رغم التضحيات والمعاناة التي لاقاها المتظاهرون، ينذر بصحوة اجتماعية غربية، سيكون لها أثرها البالغ، في تعديل ميلان كفّة السياسة الغربية، لصالح حقانية وعدالة القضية الفلسطينية، فأصحاب المبادئ يثبتون دائما، من أجل تحقيق أهدافهم في الدفاع عن الحقوق والحريات حتى لو كانوا غير معنيين بها، والدافع الإنساني وقيمه هي التي أمْلَتْ عليهم القيام بواجب الدفاع عنهما، وليسوا مستعدين للتنازل عنهما مهما بلغت تضحياتهم، هؤلاء الإنسانيون قدّموا درسا بليغا للشعوب العربية، من أعلى هرمها إلى أدناه، جاء فيه أن عدم نصرة المظلوم، أيّا كان عِرقه أو عقيدته، وهي من أقدس الأعمال التي يمكن أن يقوم بها أيّ إنسان، تُعْتَبَرُ وصمة عار في جبين العرب عموما حكومات وشعوب، تبنّي القضية الفلسطينية يستوجب العمل عليها، والتضحية من أجلها، فكفى يا عرب ادّعاء تبيّن أنّه مجرّد كلام.
المراجع
1 – جامعة إيرانية تنتصر لغزّة وتفتح أبوابها للطلبة المفصولين في أمريكا وأوروبا
https://baghdadtoday.news/248287-