الجمعة , 29 نوفمبر 2024
أخبار عاجلة

” فرانز فانون”مناضل الثورة الجزائرية…البشرة السمراء والقلب الأبيض..

تحمل العديد من الهيأت والمؤسسات الجزائرية اسم الطبيب والكاتب الفرنسي “فرانز فانون” مثل مستشفى ولاية “البليدة ” بالجزائر دون معرفة قصة هذه الشخصية الفذة الذي سيتناوله مقالنا لهذا الأسبوع .

فبالرغم من التعتيم الـذي تعرضـت لـه الثـورة الجزائريـة، باعتبـار من ما يحدث هو مجرد أحـداث قـام بهـا قطـاع الطـرق وخارجين عـن القـانون إلا أنهـا كانـت مـن أهـم الحركـات الثوريـة على السـاحة الدوليـة التـي اسـتطاعت من تكسيـر حـاجز الصـمت الـذي فرضــته عليهــا وسائل الإعلام والدعايــة الفرنســية، فقــد رفــع شعارها كـل ثــوار العــالم لتصــبح نموذجا للمستعمرات في نضاله ضد الاستعمار، لأنها أحيـت الضـمائر الميتـة وحركـت العقـول الجامـــدة فكـــان لهـــا الصـــدى عنـــد عديـــد البلـــدان والهيئـــات، و تضـــامنت معهـــا العديـــد مـــن الشخصيات، والكثير من الساسة والمفكرين، ولعل أهم دعم لها كان من قبل مثقفين مـن أبنـاء فرنســا نفسـها، الــذين دافعــوا عــن الجزائــر جزائريــة علـى الــرغم مــن انتمــائهم لتيــارات عديــدة ليبرالية، دينيـة واشتراكية، فكانـت مـواقفهم مشرفة تصـب فـي دعـم الثـورة الجزائريـة والتعـاطف معهــا داخل التــراب الفرنســي و خارجــه، لكــن بعضــهم لــم يكتف بالتعــاطف والتنديــد بفظاعــة الاستعمار واختراقاتـه داخل الجزائـر أو الـدعوة لأجل حفـظ كرامـة الإنسان وحقوقـه، بـل قطعـوا كـل اتصـال بـالوطن الأم لينضـموا لصـفوف الثـورة ضـد إ خـوانهم، ولعـل ذلـك يعـود إلـ تشبعهم بقيم الثورة الفرنسية الداعية للحرية و المساواة والأخوة و حقوق الإنسان، ثـم إن الحـرب العالميـة الثانيـة كانـت ميـدانا لهـم ليكتشفوا الأم الاحتلال النـازي ومـن ثـم طبقـوا هـذه التجربــة علـى الجزائــر، ولعـل مــن أبــرز هــؤلاء المثقفــين الــذين رفعــوا شـعار الــدفاع عــن ثــورة الجزائـر نجـد “فرانـز فـانون” هـذا المثقـف الفرنسـي الـذي انخرط فـي العمل المباشـر فـي صـفوف الثورة الجزائرية فكان صوتا بارزا لأنه سخر قلمه لخدمة قضيتها – لفانون عديد المؤلفات من بشرة سوداء إلى معذبوا الأرض – وفصاحته وثقافته للدفاع عن مصالحها.
وللإشارة والتأكيد أن الثورة الجزائرية لم يخدمها مثقفوهـا فقـط وإنما هنـاك مـن الفرنسـيين سخر قلمه وعمله للوقوف مع شعب جرد مـن حقوقه مـنهم “فرانـزفانون” ومـن هنا جاءت رغبتنا تسليط الضوء عل هذه الشخصية التي لا يعرفها الكثير من الشباب.
ولد “فرانز فانون” في 25 جوان 1925 في مدينة “فور دو فرانس” عاصمة “المارتنيك” الفرنسية ، كان والده موظفا بالجمارك ، ومنصب موظف “بالمارتيناك” يعتبر وضعا امتيازيا بالنسبة للعامل الزراعي، تنتمي عائلته للطبقة البورجوازية الزنجية التي كانت تحاول الاندماج والذوبان في المجتمع الفرنسي.
له ثمانية إخوة وثلاثة أخوات تمكن خمسة من متابعة دراستهم العليا في الجامعات الفرنسية ، في حين كان غالبية الشعب تعاني من الأمية.
يعود أصله إلى الرقيق الذين حملوا منذ قرون إلى جزر “الانتيل” من إفريقيا ،وكانت “المارتنيك” تشكل مع جزر “الانتيل” الصغرى ،منطقة تشملها السيطرة الفرنسية منذ القرن السابع عشر،وقد ازدهرت تجارة الرقيق في المنطقة ،لتزويد المعمرين البيض باليد العاملة السوداء التي من واجبها القيام بالأعمال اليدوية في مزارع قصب السكر.
كان “فرانز فانون” قد أنهى دراسته الابتدائية وجزء من دراسته الثانوية ،حين اندلعت الحرب العالمية الثانية ، لذا فقد سافر إلى “الدومنيك” عام 1943 ليلتحق بالقوات الفرنسية الحرة إلى جانب الانجليز والأمريكيين ضد ألمانيا وايطاليا، وقد تطوع استجابة منه لنداء الواجب والضمير باعتباره فرنسيا ،متجاوزا بذلك كونه زنجيا أسود ، عاش صراعا مريرا مع الرجل الأبيض.
أرسل بعد تطوعه إلى شمال إفريقيا “بجاية”وفي سنة 1945 أصيب بجروح في إحدى المعارك ، ومنح وساما لشجاعته ، وعند نهاية الحرب كان موجودا في ألمانيا ، فرجع إلى “المارتنيك” ليساهم في حملة انتخابية لصالح مرشح الشيوعيين ، هو وأستاذه الكبير السابق “ايمي سيزار ” الذي كان لأفكاره أكبر الأثر على المناهضين للاستعمار.
بعد انتهاء الحرب استأنف “فانون” الدراسة ، وحصل على البكالوريا ، كما حصل على منحة دراسية لإكمال دراسته في فرنسا ، نظرا للخدمات التي قدمها في الحرب ،وانخرط في كلية الطب في ليون ، حيث عاش حياة طالب نشيط ، يدرس إلى جانب الطب ، الفلسفة ، ويشارك في المناقشات الفلسفية والسياسية لتلك الفترة ، ويقرأ ويتأثر بكل من : هيجل ،لينين ،ماركس ،وسارتر.
وفي عام 1951أنهى أطروحته وحضر لامتحان الداخلية لمستشفيات الطب النفسي ، وتزوج سنة 1952 رزق ولدا اسمه ” أوليفييه ” ، كما أنهى تخصصه مع الدكتور الاسباني “توسكيل “، وقد ساعده كثيرا في تطوير معارفه في العلاج الاجتماعي .
في سنة 1953 نجح في مسابقة الالتحاق (ميديكا،Medicat) لمستشفيات الأمراض العقلية ، والتمس منصبا في مدينة البليدة (جوان فيل سابقا)، والذي سبق أن عرض عليه من الوالي العام للجزائر ، ويعد هذا المستشفى من أهم مستشفيات المنظومة الطبية الفرنسية ،والاهم من نوعه على مستوى إفريقيا ، وقد عين مديرا للعلاج العقلي .
في هذا المستشفى أشرف على قسم يضم مرضى أوروبيين وجزائريين ، لذا فقد لفت نظره عدد من المرضى الجزائريين الذين يشكلون أضعاف عدد الأوروبيين ، إذ ضم القسم مائتي جزائري مقابل خمس وستين أوروبيا ، وحين حاول تطبيق طريق العلاج الاجتماعي على مرضاه ، فشلت في تحقيق النتائج مع أنها كانت ناجحة في أوروبا ، والعلة من ذلك أن أسباب المرض مختلفة ، وأغلبها ناتج عن الاستعمار ، وقد أراد إظهار ما يعرفه عن هذا الاستعمار للعيان ، ومكافحته عن طريق مساعدة الضحايا على تمالك أنفسهم خلال وعيهم بسبب مرضهم ( وهو عمله كطبيب نفساني )، ثم مشاركتهم في الكفاح ضد مسببات هذا المرض ( وهو الجانب السياسي من عمله )، لقد اختار المجيء إلى “البيليدة “لكي يفهم في الميدان تأثيرات الاستعمار على الأشخاص ، وقدرات المقاومة الشعبية في واحدة من الأراضي الأكثر تضررا في ذلك التاريخ ، وقد تعرف على الفنان عبد الرحمان عزيز الذي أعجب بعزفه وغنائه، وقام بتجارب للعلاج بالموسيقى أعطت نتائج مشجعة .
كان فانون دائم الاحتكاك بالجزائريين ، ينظم الورشات ، وينشط فريق كرة القدم وجريدة محلية ، ويجول بمنطقة “المتيجة” “بالبليدة ” لتفهم التقاليد السائدة للتكفل بالاضطرابات العقلية ، وقد وقع صدام بينه وبين السلطات الفرنسية بسبب هذه النشاطات ، كما أقام علاقات صداقة وطيدة أثارت اهتمام المناضلين المحليين والوطنيين ، إضافة إلى كل ذلك فقد كان منذ اندلاع الكفاح المسلح على اتصال بجبهة التحرير الوطني وكانت له نشاطات علنية في الفرع المحلي لجمعية الصداقات الجزائرية لمساندة المحتجزين ، وأخرى سرية ، حيث عهدت إليه المنظمة برعاية الجرحى والمناضلين الذين أصيبوا بصدمات نفسية من جراء القمع الاستعماري ، وقد شارك في جمع الأدوية للثورة ، وقام المسؤولون المحليون لجبهة التحرير الوطني باطلاع مسؤوليهم على أعمال وشخصية “فانون” ، وبذلك أصبح في نهاية 1956 على اتصال مع لجنة التنسيق والتنفيذ التي كانت تنسق النضال بصفة سرية بالعاصمة ، وقابل بعض مسيريها .
في شهر جانفي 1957 قبيل إضراب الثمانية أيام بقليل اكتشف أمره ، فقدم استقالته إلى الحاكم ، وأبعد على إثرها عن التراب الجزائري إلى فرنسا حيث واصل نشاطه مع فدرالية جبهة التحرير الوطني التي أرسلته إلى تونس لينضم إلى أعضاء الجبهة في الخارج ،وهناك أوكلت إليه مهام الإعلام كما وجه إلى مسؤولي الصحة العمومية التونسية ، ليعين في منصب يسمح له بالعناية بالمرضى الجزائريين والتونسيين على حد سواء ، وبذلك أصبح طبيا في مستشفى الأمراض العقلية في (منوبة ).
لقد جاء فانون إلى تونس باعتباره مناضلا أثبت نشاطه وفاعليته في البليدة ، وبصفته مثقفا أسندت إليه مهمة الإعلام ، وأخذ يشارك في تحرير جريدة المجاهد الطبعة الفرنسية بانتظام ،وقد تفرغ تفرغا كليا للعمل في صحافة الثورة ، وكان لاينا مالا ساعات قليلة لا تكاد تتجاوز حمس ساعات، وناذرا ما يغادر مكان العمل الذي هو مكان الأكل والنوم في نفس الوقت ، كما كان يجتمع مع أعضاء هيئة التحرير لمناقشة بعض النصوص الثورية أو القضايا الهامة مثل : الوحدة العربية ، دور الإسلام في حركات التحرير ،أو حول تصور مستقبل الجزائر المستقلة .
في ديسمبر 1958 كان أول اتصال لفانون بإفريقيا السوداء في نطاق الثورة الجزائرية ، حين عين ضمن الوفد الجزائري إلى مؤتمر اتحاد الشعوب الافريقة الذي انعقد في أكرا عاصمة غانا الحديثة الاستقلال ، حيث قابل المكافح القديم “نكروما” الذي أصبح رئيسا لدولة حديثة الاستقلال .
وفي مارس 1959 شارك في المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود في روما ، ثم شارك ضمن الوفد الجزائري في المؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود بروما ، ثم شارك ضمن الوفد الجزائري في المؤتمر الثاني لشعوب إفريقيا الذي عقد في تونس شهر جانفي 1960، وهذا بعد فترة نقاهة قضاها اثر حادث سيارة تعرض له أثناء قيامه بمهمة كلفته بها جبهة التحرير الوطني على الحدود المغربية .
أثناء تواجده بالكونغو أحس بالمرض يدب في أوصاله ، فعاد سريعا إلى تونس ، حيث أجرى فحوصات طبية وفي ديسمبر 1960 كانت نتيجة التشخيص : سرطانا في الدم ، وهو مرض من الأمراض المستعصية في ذلك الوقت ، وقد أرسلته جبهة التحرير الوطني إلى “الاتحاد السوفياتي” لاستشارة الأخصائيين ، لكنه عاد إلى تونس دون بارقة أمل في الشفاء.
وصار يعرف وهو في الخامسة والثلاثين من عمره ، أنه سيموت ، إلا أن المكافح كان لا يريد لأفكاره ولتجربته أن يموتا معه ، فأخذ يملي ويقدم عروضا وشروحا ونصوصا لزوجته التي كانت تطبعها على الآلة الكاتبة ونتج عن ذلك فيما بعد أحد أعظم أعماله .
في أكتوبر 1960 أرسلته جبهة التحرير الوطني إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان يأمل أن يستفيد من نتائج الأبحاث العلمية على مرضه ، ثم لحقت به زوجته وابنه إلى أن توفي يوم السدس من شهر ديسمبر عام 1961.
هذه شخصية “فرانز فانون” المناضل والفيلسوف والطبيب الذي أمن بالإنسان الجزائري وحريته فدافع عنه وضحى من أجله وأصبح يرى في نفسه جزءا من القضية الجزائرية وجزءا لا يتجزأ منها فاحتضنته بدورها الثورة الجزائرية لتبوئه المكانة التي يستحقها ، وهو ما يؤكد أن الثورة الجزائرية لم يخدمها مثقفوها فحسب وإنما هناك الكثير من الفرنسيين من سخر قلمه وعلمه وحتى روحه – كحالة المناضل موريس أودان – للوقوف بجانب شعب جرد من حقوقه المشروعة .

 

شاهد أيضاً

على مشارف الذكرى السبعون للثورة الجزائرية: وزارة المجاهدين تنظم ملتقى الذاكرة واشكالية كتابة التاريخ الوطني…بقلم ياسين شعبان

يُكتب (بضم الياء) التاريخ في جانب منه من الذاكرة وكلما نشطت الذاكرة وأبدت القدرة على …

المحور العربي © كل الحقوق محفوظة 2024