المهندس: ميشيل كلاغاصي |
لازال العالم يدفع ثمن الإستراتيجية الأمريكية التي دعتها ب “الفوضى الخلاقة”, والمسؤولة بشكلٍ رئيسي عن حالة عدم الاستقرار, وزعزعة أنظمة العديد من الدول, وحروب “الربيع العربي” الإرهابية, والتي أدت إلى تدمير الدول وإفقار الشعوب وسفك الدماء, وزعزعة الأمن والسلم الدوليين في المنطقة والعالم, وأفضت إلى تغيرات جوهرية في التوازنات الدولية, ودفعت بالإصطفافات والأحلاف الدولية إلى البحث عن موطئ قدمٍ اّمن يقيها شظايا الفوضى, ودفعت بغالبية دول العالم للبحث عن الملاجئ العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية, ولم يعد العالم مكانا ً اّمنا ً لصمود الحدود والحكومات وحياة الشعوب … فقرر البعض المواجهة والتمسك بكرامة وسيادة وطنه وشعبه, وفيما فضل البعض الاّخر الإستسلام والإنصياع لقوانين الفوضى الأمريكية.
ومع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بدأت لعبة الخلافات بين الرئيس ودولته العميقة، وبدأ العبث الأمريكي يطال كافة الإتفاقات والتفاهمات والمعاهدات الدولية التي وقعتها الدولة الامريكية بنفسها، وتصاعدت وتيرة سقوط القوانين والأعراف الدولية والقرارات الأممية واحدة ً تلو الأخرى بتوقيع الرجل الأحمق.
فقد قدم نفسه المنقذ ورجل للصفقات، وتعهد بصب جهوده نحو الداخل الأمريكي، ورفع شعار “أمريكا أولا ً”، لكنه في الحقيقة، اختار أن يكون ذلك على حساب كافة دول وشعوب الأرض، وأراد إنتشال بلاده من حضيضها الإقتصادي الذي أرهقته الديون والعجز التجاري، بعدما وصل إلى مستوى قياسي تاريخي الذي قارب ال 900 مليار دولار.
فأطاح وألغى عديد الإتفاقات الدولية دونما تمييز بين الحلفاء والخصوم أو الأعداء، واختار بعناية فائقة المنطقة العربية الغنية بالثروات والأموال وبمن يطيعون ويدفعون، كذلك بفضل موقعها الذي يتوسط المنطقة الحيوية لمجال مخططه الجيو- سياسي، بما يتيح له العمل على منحيين، الأول يمكّنه المحافظة على أمن ووجود الكيان الإسرائيلي، الذي يضمن له الدعم الشخصي والحزبي المطلق عبر اللوبي الإسرائيلي القوي في أمريكا، والثاني يمكّنه من الإقتراب جديا ً من الدول الأدوات والتابعة, ومن الخصوم والأعداء الإقليميين والدوليين كروسيا والصين وإيران, والدول الأوروبية الهامة, بما يضمن له الدخول الفعلي والمؤثر على كافة ملفات الصراعات الدولية, فكان إختياره لجغرافيا وساحة الصراع دقيقا ً, ومن البوابتين العراقية حيث تتمركز قواعده العسكرية, والبوابة السورية حيث يقود تحالفه الجوي وبعض جنوده وأتباعه وجيوش الإرهاب على الأرض, كي يتمكن من التحكم بيوميات الصراع, ويعمل على قطع التواصل الجغرافي بين طهران ودمشق وصولا ً إلى لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة, وعلى مقربة من حدود حلف الناتو في تركيا.
وعليه قام بإلغاء الاتفاق النووي والصاروخي الإيراني، وطالب بإتفاقٍ جديد بدواعٍ واهية وذرائع الإتفاق غير المنصف مع إيران، ومع الرفض الإيراني والأوروبي والدولي عموما ً، استخدم لغة التصعيد والوعيد والتهديد، ولجأ إلى فرض شريحةٍ واسعة من العقوبات الإقتصادية على الدولة الإيرانية, وخصوصا ً على الصادرات النفطية التي تعتبر مصدرا ً رئيسيا ً هاما ً للإقتصاد الإيراني, وحدد مهلة ً للإعفاءات والإستثناءات لبعض الدول الأكثر تضررا ً وفق حساباتٍ معقدة, وسمح لبعض الدول أن تُثبّت عقود استجرارها للنفط الإيراني قبل تاريخ 2 أيار الحالي….
ويبقى السؤال، هل حقا ً ينحصر الهدف الحقيقي للولايات المتحدة في تعديل بعض بنود الاتفاق النووي أم أنّ وراء الأكمة ما ورائها؟ وهل للأمر علاقة بصفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، والإعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة ً للكيان الغاصب، وبسيادته على الجولان السوري المحتل، وبالضغط على مسار الحرب على سورية وعلى كل أطراف محور المقاومة بما فيها إيران؟
ومع صبيحة الثالث من شهر أيار، إنتهت مهلة الإعفاءات، وكان من المفروض – أمريكيا ً – أن يتوقف معها تصدير النفط الإيراني، ولكن الواقع أكد تصدير الدولة الإيرانية حوالي 400 ألف برميل من النفط.
وعلى الرغم من التصعيد الأمريكي واللجوء إلى لغة التهديد العسكري، إلاّ أنه ومن الواضح أن أيدي واشنطن تبدو مهزوزة ً وتتملكها الخشية من المواجهة العسكرية المباشرة، الأمر الذي يعزز إمكانية صمود الدولة الإيرانية في وجه العقوبات وخرقها، إذ تدرك واشنطن أنها لا تستطيع كسر الإرادة الإيرانية إقتصاديا ً أو عسكريا ً، وأن إيران تعني ما تقول وتؤكد على لسان الرئيس حسن روحاني بأنه لا يمكن لأحد أن يمنع الصادرات النفطية الإيرانية، وإلاّ “فلن يكون هناك تصدير نفطٍ في المنطقة“، وبأننا” سنتجاوز العقوبات ولن نتأثر بها“.
من الواضح أن الدولة الإيرانية حسمت خياراتها، واتخذت كافة التدابير للحد من تأثير قرار العقوبات على الصادرات النفطية التي دخلت حيز التطبيق، لإثبات أنه سيكون قرارا ً بلا أثر وأنه ولد ميتا ً، وهذا ما يمكن الإستدلال عليه من خلال الرفض الرسمي لبعض الدول كروسيا والصين وتركيا والإتحاد الأوروبي، إذ تستورد الصين وتركيا ما يتجاوز بمجموعه أكثر من 700 ألف برميل يوميا ً، وبالتالي لن تكونا مستعدتين للإلتزام بالقرار الأمريكي، بالإضافة لتزايد الإصطفاف العالمي الواسع والرافض لهذا القرار.
في وقتٍ أعلنت فيه كلا ً من السعودية والإمارات عن استعدادهما لتعويض النقص في سوق النفط العالمي نتيجة الخروج الإيراني المتوقع أمريكيا ً، ولكن يبقى هذا الإعلان موضع شك الكثيرين من الخبراء والنفطيين العالميين، ولن يكون بمقدورهما ملئ الفراغ وتعويض الكمية اليومية التي تنتجها إيران، ولا بد للأسواق العالمية أن تتأثر بإنخفاض الإنتاج وسينعكس إرتفاعا ًمباشرا ًعلى الأسعار، وسيتسبب بأضرار إضافية على الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
وفي ظل تصريحات الرئيس الإيراني بأن بلاده ستواصل تصدير نفطها، وأنها قادرة على الإلتفاف على العقوبات الأمريكية، وبتأكيد وزير الخارجية محمد جواد ظريف, فكما هو معروف أن لإيران أصدقاء كثر في المنطقة والعالم , بما فيها بعض الدول الخليجية كسلطنة عمان والكويت وقطر, إضافة ً لإمتلاك الجمهورية الإسلامية حدودا ً مفتوحة مع العديد من دول الجوار, وأهمها الدولة العراقية, التي أعلنت أنها لن تلتزم بتطبيق العقوبات الأمريكية على إيران, بالإضافة للمحاولات التي يقوم بها بعض حلفاء واشنطن المتضريين من القرار ك- كوريا الجنوبية واليابان بهدف البحث عن سبل وقف تطبيق القرار الأمريكي, وعليه يبقى من المتوقع استمرار تصدير النفط الإيراني إلى العالم, والأهم من كل هذا الإصرار الإيراني على تصدير ما لا يقل عن مليون برميل يوميا ً.
ومع قناعة الدولة الإيرانية بإمكانية الإعتماد على أصدقائها وعلى الإتحاد الأوروبي وعلى بعض الدول الأوروبية، إلاّ أنها تدرك تماما ً بأنها دولٌ باتت تعاني من الضعف والوهن، ولن تستطيع الوقوف في وجه الضغوط الأميركية، على الرغم من تصريحات فريدريكا موغيريني: بأنه “لدينا مصالِح اقتصادية وأمنية مع إيران ولن نتخلّى عنها”, لذلك سبق للمرشد الأعلى السيد علي خامنئي أن طرح ما عرف بالشروط السبعة، لضمان الحقوق الإيرانية، وللحدّ من المراوغة والخداع الأوروبي – إن حصل -, ويبقى التعويل الإيراني الأساسي على الصين وروسيا والهند وتركيا ودول أخرى.
من الواضح أن العقلية والذهنية الأمريكية المتغطرسة، تجعلها تعتقد أن الدول والشعوب, تقبل تحت الضغوط والتهديدات الأمريكية, مقايضة حقوقها وسيادتها حريتها وكرامتها ببعض الرفاهية وبعض المال, وتخشى المجابهة, في وقتٍ يغيب عن إدراكها أن الدول والحكومات والشعوب المناهضة والمقاومة للمشروع الصهيو -أمريكي في المنطقة والعالم, هي شعوبٌ عزيزة وكريمة تأصلت في نفوسها ثقافة المقاومة, وتستلهم قوتها من إيمانها بالله تعالى وبحقوقها وبسواعد أبنائها المقاومين الأشداء اللذين لن يبخلوا على أوطانهم بأرواحهم, كما يغيب عنها أن الدولة الإيرانية وشعبها المقاوم سبق وتحملوا وصبروا وناضلوا لأربعة عقودٍ تجاوزا فيها أصعب الأزمات والحصار والعقوبات الأممية, وأنهم لن يحيدوا قيد أنملة عن أهدافهم في التمسك بحقوقهم, وبكسر أيادي الشر التي تمتد إليهم , ولن يقدموا أي تنازلاتٍ يحلم بها أو يتوقعها الأمريكيون.
إن تخفّي واشنطن وراء إلغاء الاتفاق النووي والمطالبة بإتفاقٍ جديد, هو الهراء بعينه, ويشي بأن العين الأمريكية على البرنامج الصاروخي الإيراني, الذي تخشاه ربيبتها “إسرائيل” ويهدد وجودها, ولم يعد خافيا ً أن الضغوط الإسرائيلية على الرئيس الأمريكي وإدارته هي المسؤول الأول عن هذا التصعيد والتهويل الإعلامي – السياسي للرئيس ترامب, وما تحدث عنه الوزير بومبيو حول “تغيير السلوك الإيراني” يشكل كشفا ًصريحا ً للغايات والأهداف الأمريكية, التي تسعى للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة, عبر تقليص تأثيرها الفعلي والكبير في دعم الدولة السورية والمقاومة اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية, مما يسهل – بإعتقادهم – المهمة الأمريكية وقدرتها على إجبار الدولة الإيرانية للجلوس على طاولة التفاوض, ويجعلها على أتم الإستعداد لتقديم التنازلات… وهذا بإعتقادهم سيفتح أفقا ً واسعا ً أمام تقدم المشروع الصهيو –أمريكي في المنطقة دون أية عوائق, وبالتأكيد ستبقى الغطرسة والقناعات والحسابات الأمريكية الخاطئة حبيسة رؤوس مبدعيها, ولن ترى النور أبدا ً, وإن غدا ً لناظره قريب.