هذا هو لسان حال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في دورتها الأولى. قبل أيام طلب الرئيس ترامب من الممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية لدى منظمة التجارة العالمية تقديم طلب لإصلاح أوضاع بعض الدول التي سجلت نفسها دولاً نامية لدى المنظمة، مع إنها في الحقيقة دول غنية، ومنح منظمة التجارة العالمية مهلة 90 يوماً لتصويب أوضاع هذه الدول، حيث يتم منعها من الاستفادة من الميزات الممنوحة للدول النامية حسب قانون المنظمة.
الدول المقصودة هي الإمارات، قطر، الكويت، تركيا، الصين، بروناي، مكاو، سنغافورة، المكسيك وكوريا الجنوبية إضافة إلى هونغ كونغ. لا بد لنا أولا من ملاحظة غياب السعودية عن القائمة مع إنها أكثر ثراء من معظم الدول المذكورة، أما ثانياً، فإن أي مراجعة لميزات الدول النامية حسب بنود اتفاقية التجارة الدولية، ستثبت من دون أدنى شك أن هذه الميزات بقيت حبراً على ورق، وأن الدول النامية تأثرت بالمفاعيل السلبية لهذه الاتفاقية.
أهم الإجراءات التي يسعى ترامب إلى حرمان الدول المذكورة منها هي إمكانية اتخاذ إجراءات حمائية في وجه محاولات إغراقها بالبضائع الرخيصة التي تهدد المنتجين المحليين أو ميزان مدفوعات الدولة. المقصود من هذه الحملة هو الصين بالدرجة الأولى التي حاولت الولايات المتحدة عرقلة دخولها إلى منظمة التجارة العالمية. هذا الإنذار الأمريكي، سيكون الشرارة لحرب اقتصادية حامية الوطيس، ففي حال موافقة المنظمة على الاقتراح الأمريكي ستجد الصين نفسها في وضع حرج، وفي حال رفضه، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية سيؤدي إلى انهيارها، وكلتا النتيجتين تروقان للإدارة الأمريكية.
يذكرنا هذا السيناريو بالانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران، ويضعنا أمام استنتاج وحيد هو سعي الولايات المتحدة لإثارة المزيد من الفوضى في العالم، وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل عن السبب.
الأسباب كثيرة لكن يمكن حصرها في مجموعتين اقتصادية، وسياسية.
1- الأسباب الاقتصادية؛ حسب بيانات صندوق النقد الدولي فإن حجم الناتج المحلي الأمريكي منفرداً، يعادل مجموع إجمالي الناتج المحلي لأكبر أربعة اقتصادات صاعدة في العالم (الصين، الهند، البرازيل، روسيا). أما عند الانتقال إلى نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي فإن الاقتصادات الصاعدة سوف تتصدر، إذ تبين بيانات البنك الدولي أن هذه النسبة تبلغ في الهند 7%، وفي الصين 6.6%، وفي روسيا 2.3%، مقابل 2.4% في أمريكا الشمالية و1.9% في أوروبا و0.8% في اليابان، وإذا علمنا أن نسبة نمو الناتج الإجمالي العالمي هي 2.9%، فإننا سندرك سبب القلق الرأسمالي من سرعة نمو الاقتصادات الناشئة التي تبلغ ضعف المعدلات العالمية.
يمتاز الاقتصاد الرأسمالي باعتماده على الأسواق الداخلية، إذ تبلغ نسبة الاستهلاك العالمي للبضائع نحو 80% في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان، وتحتل الولايات المتحدة المركز السادس عالمياً من حيث القوة الشرائية للفرد، وتسيطر الاقتصادات الغربية على المراكز الأربعين الأولى، في حين إن أول ظهور للاقتصادات الصاعدة هو لروسيا في المركز الـ 41، أما الصين (صاحبة ثاني أكبر إجمالي ناتج محلي في العالم) فتحتل المركز الـ 92، وتأتي الهند في المركز الـ 127.
إن المتمعن في هذه الإحصاءات سيدرك بسهولة أن الاقتصاد الرأسمالي أقل تضرراً في حال حدوث فوضى عالمية لاعتماده على أسواقه الداخلية بشكل رئيس، في حين يمكن أن تنعكس الفوضى العالمية بشكل خطر على الاقتصادات الصاعدة التي تعتمد بشكل رئيس على التصدير. وتتفاقم الآثار السلبية إذا ما ترافقت الفوضى العالمية بارتفاع أسعار النفط، أو إعاقة النقل البحري الذي يحمل ما يزيد على 80% من التجارة العالمية.
2- الأسباب السياسية: تصدرت الولايات المتحدة قوى الغرب الرأسمالي بسبب نتائج الحرب العالمية الثانية، وكانت نتيجة هذا التصدر تحول الصراع من صراع اقتصادي داخل المعسكر الواحد (الرأسمالي) إلى صراع اقتصادي ذي صبغة أيديولوجية بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي. ومنذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي بدأ دور المعسكر الاشتراكي بالتراجع، لينهار تماما في أواخر ثمانينيات القرن نفسه. تقدمت الولايات المتحدة لتعبئة الفراغ، وأصبحت القطب العالمي الوحيد القادر على فرض مصالحه على الحلفاء والخصوم بتآزر القوتين: الاقتصادية والسياسية (المدعومتين عسكرياً).
استمرت السيطرة الأمريكية عقدين من الزمان، تخللتهما أزمات اقتصادية مهمة استطاع النظام الرأسمالي تجاوزها، لكن الانهيار المالي عام 2008 أصاب المنظومة الاقتصادية الرأسمالية في مقتل، وإضافة للأزمة الخانقة التي عاشتها الولايات المتحدة، فإن اقتصادات رأسمالية أخرى أفلست مثل اليونان، أيسلندا، إيطاليا؛ وأخرى شارفت على الإفلاس مثل فرنسا، وأسبانيا، هذا الانهيار السريع أعاق قدرة الرأسمالية العالمية على قيادة دفة الأمور في العالم باتجاه مصالحها، لمساعدتها على تجاوز أزمتها، خاصة في ظل وجود قوى اقتصادية صاعدة قادرة على المنافسة، وفي مقدمتها الصين.
لم يبق في حوزة الرأسمالية العالمية إلا سلاحها القديم الجديد، ألا وهو إثارة الفوضى، وكما حدث في مناسبتين سابقتين في التاريخ، عندما أشعلت الرأسمالية حربين عالميتين، فإن الفوضى الحالية تسعى إلى شن حرب عالمية ثالثة، لكن بوسائل جديدة، حروب محدودة داخل النطاق الإقليمي للدول، مع تورط الأطراف الدولية في كل تفاصيلها، ولعل المثال الأنصع على هذه الحروب هو ما جرى في سورية، إذ تشارك أكثر من ثمانين دولة في الحرب على سورية.
لقد أدى وقوف روسيا إلى جانب سورية إلى هزيمة غير متوقعة للمشروع الرأسمالي، خاصة أن روسيا تصرفت بحكمة منقطعة النظير، بعدم الانجرار وراء الاستفزازات التركية والإسرائيلية للدخول في حرب مفتوحة مع القوى الغربية.
من المفارقات السياسية، أن بداية تراجع دور الاتحاد السوفييتي عالمياً كان من بوابة عربية، عندما قام السادات بطرد الخبراء الروس من مصر في أعقاب حرب تشرين 1973، وأن عودة روسيا إلى لعب دور مؤثر عالمياً جاءت من بوابة عربية عندما تحالفت مع سورية في التصدي للمؤامرة الغربية. ما زالت الفوضى سيدة الموقف، وما زالت الرأسمالية تبحث عن فرصتها للعودة إلى قيادة العالم من خلال اختلاق الأزمات، وما زلنا بحاجة إلى تمتين الحلف المضاد للمشروع الرأسمالي، على جميع المستويات. فمنطق التاريخ يقول إن مصير القوة الغاشمة يكون الهزيمة والأفول دائماً.